تأتى النار من مُستصغر الشرر ، ودخول الميم يعنى إمكانية حدوث كبرى الكوارث والفجائع من شرارة متناهية الصغر، وكان وعد بلفور 1917 كذلك ، فقد بدأ مجرد فكرة على ورق ممن لا يملك لمن لا يستحق ، هذه الفكرة بنيت على أساس التخلص من رائحة اليهود النتنة التي أزكمت كاهل الحكومات الأوروبية حينذاك وذلك بترحيلهم من دولهم وتهجيرهم إلى وطن واحد، وكان الاختيار فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الإنجليزي ، فلسطين التي كانت لا تملك من مقومات الدولة غير الزراعة والتجارة ، وبدأت أعداد غفيرة من اليهود تنزح إليها، وحكامنا كالعادة غير معنيين لا من الناحية الإستراتيجية أو الإنسانية فتركوا مجموعة من المزارعين لا يحملون غير العصي والفؤوس في مواجهة الشراذم اليهودية المدججة بالسلاح البريطاني وتحت مظلتهم ، وقد كان من الممكن أن نمدهم بالمتطوعين وبالسلاح وأن نقوم بتدريبهم لمواجهة عصابات صهيون المسلحة، ولكن فى ظل الغيبوبة الإستراتيجية تركنا مُستصغر الشرر يتحول إلى حريق هائل اندلع ولم يخمد حتى الآن، ودخلنا حروب 1948 ، 1956 ، 1967 اكتسب اليهود من الأرض والأمر الواقع ما لم يمكن أن يجيش فى مخيلتهم أبداً ، وقاموا تحت مظلة الغيبوبة العربية بارتكاب أبشع المجازر والمذابح تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل ابتداء من بلدة الشيخ 31/12/1947 " تل جنان اليوم"- 600 شهيد، و دير ياسين 10/4/1948 " مستعمرة جفعات شؤول الإسرائيلية اليوم"- 360 شهيد، و أبو شوشة 14/5/ 1948 "و هى قرية تقع بالقرب من دير ياسين" -50 شهيد، و الطنطورة 22/8/1948 "وتقع حنوب حيفا وقد دفن شهدائها فى مقبرة جماعية أصبحت الآن ساحة انتظار لشاطئ دور على البحر المتوسط" – 90 شهيد، و قبية 14/10/1953 "وكان زعيم العصابة المنفذة هو أريل شارون والذي أصبح رئيس لوزراء إسرائيل بعد ذلك"- 67 شهيد، وقلقيلية 10/10/1956 "وتقع على الخط الأخضر الفاصل بين الأراضى العربية المحتلة عام 1948 و الضفة الغربية" – 70 شهيد، و كفر قاسم 29/10/1956 "و تقع جنوب طولكرم" - 49 شهيد، و خان يونس 3/11/1956 "وتقع جنوب قطاع غزة" – 250 شهيد، وخان يونس مرة أُخره 12/11/1956 بعد تسعة أيام فقط من المجزرة السابقة – 275 شهيد، و رفح 12/11/1956 في نفس يوم مذبحة خان يونس الثانية – 100 شهيد، و المسجد الأقصى 8/10/1990 - 21 شهيد و أكثر من 150 جريح داخل الحرم القدسي، والحرم الإبراهيمي 25/2/1994 – 50 شهيد وأكثر من 350 جريح، وجنين 29/3/2002 - 200شهيد، ومروراً بقانا وصابرا وشاتيلا و….. ووصولاً إلى مجزرة غزة التى بدأت بسياسة التجويع و الحصار ثم شن الهجوم الإبادى يوم السبت الموافق 27/12/2008 والتى خلفت نحو 900 شهيد و أكثر من 4100 جريح كان منهم 500 حالة إصابات خطيرة خلفت إصابات البتر و العاهات المستديمة . وكان أقصى ما كنا نستطيع أن نفعله فى مواجهة تلك الإبادة هو الصمت، وإن خرجنا عن صمتنا فيكون بالعبارات المدوية ، الرفض ، الشجب ، الاستنكار، الغضب بشدة ، ثم يكون التركيز ولفت النظر تجاه ضرورة التبرع وتقديم المعونات، وقد نجحت وسائل الإعلام المصرية الرسمية والموجهة مع كل كارثة تحدث لشعب فلسطين فى تغيير وتوحيد المفاهيم التى رسخت فى وجدان الشعب المصرى منذ القدم بأهمية البوابة الشرقية لمصر من الناحية الإستراتيجية إلى أن أصبحت النغمة السائدة على ألسنة الإعلام ومن يسموا أنفسهم بالاستراتيجيين والمثقفين حتى وصلت إلى رجل الشارع العادى أن لا أحد يزايد على دور مصر فنحن أول وأكثر دولة قدمت النفيس والغالي من الدماء والتضحيات فى سبيل فلسطين وكفانا هذا ، وشعبنا أولى ، ولا أدرى ما هو الدافع من وراء تحويل مرسخاتنا الإستراتيجية إلى هذه السطحية ، أهو عن جهل حقيقى من الاستراتيجيين الجدد ، أم هو دافع خفى مقصود ، وربنا يعطى كل على قدر نيته ويرد كيده فى نحره ، وإذا تحدثنا عن الإستراتيجية المصرية المقروءة الآن على الساحة نجد أنها تقلصت وتمحورت فى مهادنة إسرائيل، وعدم إغضاب الولاياتالمتحدةالأمريكية ، ووجوب قطع أذرع وأرجل حركة حماس الإخوانية بصرف النظر عن الوسيلة، نحن الآن نغوص فى نتائج الموقف ، والموقف ما هو إلا حدث لا يجب أن يخرج ويتعدى كونه موقف لا أن يتحول إلى إستراتيجية ، فيا سادة دفاعنا ووقوفنا إلى جانب فلسطين ، يجب أن يكون من مفهوم منطلق العمق الإستراتيجي للدفاع عن مصر . لقد أطل علينا الإستراتيجيون الجدد بأعناق تتفجر منها أفكار سطحية بلا عمق ، أفكار ميتة بلا دماء ، أفكار مشتتة بلا رؤى واضحة ، أفكار متخبطة ذليلة لا تنم إلا عن خنوع وخضوع، و لما لا، فما هي إلا نتاج تراكمي لاستراتيجيات متحوصلة لا تتعدى شرنقتها، استراتيجيات نتج عنها نظم طاردة العقول مستوردة الراقصات. منذ الخمسينات وقبل الثورة كان مجلس النواب يقف بالمرصاد للملك الفاسد ويحدد له سقف لمصروفاته "موازنة الديوان الملكي" أما الآن فلا، فهل هذا لآن اسم المجلس تغير إلى مجلس الأمة ثم إلى مجلس الشعب، أم لأنه لم يعد هناك ملك فاسد. لا أحد يستطيع أن ينكر أن مصر الآن فى موقف لا تحسد عليه ، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا ، هو لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الهوان، وما هى العوامل التى أدت بنا أن نقف فى مواقف كتلك ،ولا أقول أنها العمالة ولكنه موقف التائهين ؟ فهل هذا ضعف لأداء السياسة الخارجية أم أنه نتيجة لتراكمات سياسات خالية من الاستراتيجيات التخطيطية ولن أخوض هنا فى المهاترات و المباريات الكلامية والاتهامات والدفوع المتبادلة فهذا كله لا يتعدى الجدل العقيم لأن كلها عبارة عن ردود أفعال مواقف، والمشاركة فيها تعد من أمور السطحية الفكرية ، فلا بد لنا أن نتفق أولاً على الأسباب التى أدت بنا إلى هذه الكبوات المتتالية ، بمعنى تشخيص المرض ، حتى يتسنى لنا وصف الدواء ، والسبب عندى هو غياب الإستراتيجية القومية العميقة ذات الرؤى المتعددة الشاملة ، ولا نستطيع أن نلوم إلا الاستراتيجيين الجدد. لقد انحصر الدور العربي فى القيام بدور المُسعفين ، بعد أن هيئوا المناخ للذابحين، وعلى الرغم من الثبات العربي العميق لأكثر من نصف قرن ، إلا أنه لا زال هناك ما تبقى من أوراق ضغط يمكن أن تُستغل ، فلا تنسوا دماء أبائنا التى أراقها الأدناس على سيناء، وليحذر الجميع من هذه التحولات. فهل ننتظر حكومة تمتلك إرادتها، وشعب واحد يتجمع حولها ويشد من أزرها، أم أنه كل إناء ينضح بما فيه، فلنحاول أن نستعيد بوابتنا الشرقية، ولا نستمع الى الفتن فتدمر آخر أمل، كما حدث مع أثيوبيا وسدها الذى سوف نعانى بشدة من تداعياته. محمد فاروق يسّ عضوالمجلس المصرى للشئون الاقتصادية [email protected]