في الوقت الذي صرنا فِيه أحوج ما يكون للإلتفاف حول المواطنة الخالصة بعيدًا عن إيعازات انتماءاتنا التنظيمية وتحيزاتنا الأيدولوجية ، تبرز على ساحة الأحداث تحولات جديدة وتبدّلات متتابعة في موازين القوى ، تدور خلالها عجلة التداول بين الصعود والهبوط في شعبية تحالفات سياسية أقيمت على أساس المصالح المختلفة لقادة التيارات والأحزاب بمختلف انتماءاتها. هذا التداول بين تلك التيارات لا يمثل في رأيي خطرًا على المجتمع، بل أكاد أحسبه ميزةً يفترض أن تحرك دافعية كلِ فصيل أو تيار لتوجيه طاقته لخدمة مؤيديه ومحاولة كسب تأييد أكبر شريحة ممكنة من المؤيدين من خارج أيدولوجيته أو أفكاره التنظيمية . التهديد الحقيقي لإستقرار الوطن يكمن في انتشار ظاهرة العنف السياسي والتي يمارسها الجميع، ولست أعني بالجميع هنا إلا تعميمًا لا يمكنني أن أستثني منه احدًا ، خاصة وأنا أتناول السلوك التنظيمي لمختلف التنظيمات والتيارات والاحزاب . هذا العنف الذي بدأت معالمه في الظهور مع بداية الحراك المصاحب لثورة الخامس والعشرين من يناير ودارت رحاهُ بين أجهزة الحكومات المتعاقبة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، من خلال ممارسة بعض القوى والحركات والتيارات بل و حتى الأحزاب، البارزة على الساحة السياسية، هذا العنف لم يكن وليد المرحلة، بل هو نتاج فجوة عميقة بين مختلف التيارات تأصلت او أُصّل لها خلال عقود ما قبل الثورة عبر أعمال درامية وسينمائية وأخيرًا حلقات لا حصر لها من مهاترات الشحن الاستقطابي الذي تقدمه برامج التوك شو، المحرك الرئيس لتوجهات وثقافة المواطن المصري في الآونة الأخيرة. ما يثير القلق في هذا الجانب هو ذلك المنطق التبريري الفجّ الذي يسارع إليه كل فصيل في التبرير لاستخدام العنف الموجه ضد مناوئيه على الساحة السياسية والمشار إليه خلال التعبير الشهير " هو إيه اللي وداه هناك ؟ " كتعليق يمثل ردة فعل مخالفيك عندما يتم التعدي عليك أثناء تظاهراتك أو اعتصاماتك التي لا يشاركونك أهدافها - وبالمناسبة فأنا شخصيًا اعتدت على سماع هذا التعبير كلما حاولت الدفاع عن أي فصيل يتم الاعتداء عليه من أي طرف - . في إحدى المرات وانا أحاول تخيل المَخرج من هذه الأزمة الحالكة التي ألمّت بمصر وضَعتُ تصوّرًا لا زلت متمسكًا بانه المخرج المنطقي الوحيد من جولات الشد والجذب بين مختلف الفرقاء على الساحة السياسية، ذلك المخرج من وجهة نظري البسيطة كان يتمثل في حالة من الزهد في السياسة تنتاب المواطنين حين يتبين فشل كل فصيل في تحقيق طموحات الجماهير المؤيدة له، تلك الحالة أتوقع الوصول إليها عندما يكتشف المواطن البسيط أن من يحركونه سياسيًا ليسوا إلا طامعين في تحقيق مصالح تنظيمية أو حزبية او أيدلوجية توافق حاجات وأهواء زمرة من القادة البارزين في مختلف التيارات، ولو على حساب المواطن العادي كفاتورة يسددها من دمه وماله، وأحيانًا عِرضِه، من خلال استخدامه كوقود بشري عبر الحراك الميداني والإنتخابي بمختلف أشكاله. قد لا يكون تصوري هذا مقبولًا لدى البعض، لكنني أسّستُهُ على الفرق بين فلسفة عمل الأحزاب في عالمنا العربي المتخلف ديمقراطيًا ودول العالم الأكثر انفتاحًا ، حيث تبنى حركة الأحزاب في عالمنا العربي على استخدام الوقود البشري لتحقيق مكاسب حزبية من خلال الشحن والتعبئة ضد الآخر ، بينما تكرّس أحزاب العالم كل طاقاتها لخدمة الجماهير التي تؤيدها على حسب ما تقدم تلك الأحزاب لمؤيديها وما تحققه لهم من أهداف ، وبالتالي فأن الفرق بيننا وبين الآخرين ان أحزابنا تستخدم المواطنين كأدوات لتخدمها بينما المفترض ان تكون هذه الاحزاب أدوات لخدمة المواطنين . من هنا يبرز تفسير تفشي حالة العنف السياسي الشائع في عالمنا العربي والتي يتحدد حجمها وطبيعتها حسبما يشير بيترم سروكين بالنظر إلى ثلاثة متغيرات مكونة يتمثل المتغير الأول منها في حجم البشر المشاركين فيه داخل وحدة إجتماعية معينة بينما يتصل المتغير الثاني بقدر التدمير الذي تحققه أفعال العنف . ويشير المكون الثالث إلى الفترة التي يستمر فيها العنف أو دوام العنف. ويضيف البعض الآخر متغيرا رابعا يتمثل في ضرورة حضور النظم السياسي أي العناصر التي تمثله كطرف بارز في موقع العنف . تقول الحكمة الصينية: "أنك لن تستطيع الإقلاع عن الكذب ما دام الآخرون يدفعونك إليه بتصديقهم إياك" . وهذا بالضبط ما يجري في عالم السياسة اليوم حيث نجد أن انتشار ظاهرة شيطنة الآخر، الممزوجة بالتبرير لممارسة أقسى أنواع العنف، تتجاوز بذلك كل المبادئ والقيم، في غائيةٍ ميكافيلية، تبيح شتى الوسائل لتشويه صورة الخصم ، وما شاع بيننا من شيزوفرينا المنطق وازدواجية المعايير في حكمنا على ما يدور حولنا من أحداث. هكذا ونحن نسول لأنفسنا أن نصدق ما لا يُصدَّق، ونغضّ الطرف على ما لا يخدم رؤانا من حقائق، ونهاجم الآخرين بلا موضوعية مطلقة ، نكون أكثر إثمًا ممن يمارسون الكذب عبر مختلف الابواق هنا وهناك بل وندفعهم لذلك دفعًا، ولكي أكون اكثر وضوحًا فهناك لدينا دائمًا خصمان يجد كل منهما شريحة عريضة من المؤيدين ممن اماطوا عقولهم عن طريق التفكير وانقادوا لرموز السياسة المختلفين وتجاوزوا مرحلة التعقل إلى عبثية اللامنطق المقززة . وعلى الجانب الآخر من الصورة تجد جموع من المؤيدين لهذا الطرف أو ذاك تستمرئ الكذب والتصفيق والتطبيل، وكلما حاولت فتح حوارًا عقلانيًا، للوصول إلى تفهّمات على قاعدة المواطنة، أغلقوا دونك الأبواب، بأقفال التكفير والتفسيق تارة أو باقفال التخوين والإتهام بالجهل والعمالة تارةً أخرى، وأين السبيل إلى وصال عقولٍ نامت أو نوّمت بإرادة من تحمل أعناقُهم جماجمَها ؟؟؟ أفكر مليًّا في مخرجٍ تنجو به الامّة من هذه الأزمة الحالكة ، لكنني في النهاية غالبًا ما أصطدم بإطلاقية التفكير العربي والمضادة تمامًا للمرونة اللازمة للعبور من ضيق الخلاف إلى بر الأمان الذي يحتوينا بسعته فهل سيأتي اليوم الذي نلتقي فيه على كلمةٍ سواء ؟؟؟