- كان البحر قد صنع من قاعه للشمس قبراً أخذت تلفظ فيه أخر أنفاسها وساداً الصمت إلا عن عناق الموج لرمال الشاطئ ما بين نفوراً وقبول بينما وقفت أنا شاردة وعيناي تحدقان في صخرة متوسطة الحجم بدت وحيدة علي الشاطئ تحوطها المياة من كل جانب كجزيرة منعزلة بدت بسطحها المجوف كمقعداً يدعوك إلي الجلوس عليه وتساءلت ما الذي أتي بي إلي هنا ؟ !! في هذا الموعد ؟!!!! كان يجب بعد يوم العمل الشاق أن أعود إلي المنزل لآرتاح قليلا وأطمئن علي أخوتي وأقوم بما يلزمهم لكني بدلا من ذلك أتيت إلي حيث كانت تأتي أمي وفي نفس الموعد عند الشفق ،وأنا من كنت أعيب عليها ذلك . لازلت أراها هناك فوق تلك الصخرة حيث كان مجلسها يمتزجان معاً ككيان واحد فلا تدري أيهما طغا علي الاخر،تجلس صامته وعيناها تتطلعان إلي المجهول في ترقب فيبدوان معاً للنظرة الاولي كصخرة واحدة نحتتها الطبيعة، متضرعة إلي الخالق عز وجل أن يهبها الحياة ، وما أن تقترب منها حتى تشعر أن الله قد أستجاب لذلك الدعاء فلم يكتفي أن يهب الحياة لها وحدها بل وهبها أيضاً للصخرة التي تحملها فتشعرأنها تتوافق مع نبضات قلبها تسعد لقربها وتحزن لفراقها كأنما فكت رموزها وأتقنت لغتها فأصبحاً رغم أختلاف التكوين صديقين يربط بينهما شيء لا يعرفه إلا الخالق . أما أنا فقد كنت أرثي لحالها ، كنت أراها تحيا علي وهم، تحارب من اجل حلماً هو أجمل من أن يتحقق . فهي رغم الارهاق والاعباء علي كاهلها تأتي إلي هنا كل يوم عند الغروب بعد أن تنهي عملها لتنتظره .......أبي. كانت تصفه كأبطال القصص الخرافية بوجهه الاسمر الوسيم وقامته الفارهه وجسده الممشوق يحملها فوق ساعده المفتول وهي تتطلع إلي عينان في ظلمه الليل .كان زوجها ومحبوبها وأبيها ، يخرج كل يوم فوق قاربه الصغير وعلي كتفيه شبكه غزلتها له يديها ليحمل من البحر رزقاً وفيراً ويعود ليجدها تنتظره فوق تلك الصخرة التي شهدت أول لقاء لهما ، حتى أتي يوماً ذهب فيه فوق قاربه ولم يعد . أنتظرته طويلا حتى أظلمت الدنيا في ليله بلا قمر فكان البحر كجداراً مظلم لا يستجيب لدموعها ، ظلت حتى تشقق الجدار عن نور الفجر فحملت إلينا أمواجه حطام قاربه الصغير . بكيت أنا وأخوتي صرخنا عفرنا رؤوسنا في الرمال ،أما هي فظلت ثابته لم تذرف عينيها دمعه واحدة . رفضت أن تأخذ عزاءه ، كانت تنظر إلي في ثبات وهي تقول : - أباكي لم يمت . سيعود يوماً وسأنتظره . لكنها أنتظرت طويلا. عشرة أعوام منذ أن كانت تلك المرأة الجميله التي توقع لها الجميع أن تسقط بعد أن أصبحت وحيدة مع بناتها الثلاثة التي لم تتجاوز أكبرهم وهي انا وقتئذاً عشرة اعوام ، لكنها لم تسقط بل خرجت إلي السوق تحمل فوق رأسها مشنه تبيع فيها السمك ولا يدري أحد كيف تحولت تلك الرقيقة إلي أمرأة قوية صلبه وكأنما أصبغت عليها الصخرة بعض من صفاتها فأصرت أن نكمل دراستنا ، كم من لقمه أخرجتها من فمها لتطعمنا بها كانت لا تأكل إلا بعد أن نأكل ثم تجمع فتاتنا لتسد به رمقها حتى أصبح جسدها نحيلا وأصابها المرض ، كانت شمعه تحترق من أجلنا نبراس أضاء لنا الطريق حتى نفذ وقوده فخبا إلي الابد . رحلت .رحلت إلي حيث لا رجعه بعد رحله حياة شاقة أمضتها دون شكوى أو كلمه عتاب ، كانت روحها قد فاضت بين يدي ، ولا أدري ماذا حدث لي أنا من كانت دموعي تغمر وجهي إذا أحسست نظرة شفقة أو جرح أحد مشاعري دون قصد وقفت ثابته مثل تلك الصخرة أواسي أخوتي وأقوم بمقتضيات الدفن فغسلتها وكفنتها بنفسي ثم شيعتها إلي مرقدها الاخير.واليوم بعد أن أستقر رداءها الاسود فوق جسدي وحملت مشنتها فوق رأسي وخرجت إلي السوق لأجلس موضعها شعرت بأن روحها تتقمصني.أهي من أتت بي إلي هنا في هذا الموعد كان البحر مازال منشغلا بألتهام قرص الشمس حين خطت قدماي متثاقله لتخوض مياهه فأتقدم إلي الصخرة وأعتليها وانا أتذكر كلماتها التي تصر علي عودته : - أنه سيعود يوماً فوق طائر الرخ محملا بالاءلاء أو يخرج من أعماق البحرليحكي لنا عن جنية البحر التي أختطفته وكبلته بضفائرها وكيف حارب وحوش البحار السبع ليعود إلينا .وأختلطت دموعي بمياة البحر التي يقذفها الموج في وجهي وتساقطت فوق الصخرة فأحسست بها ترثي لحالي وتتعاطف معي وكأنما سكنتها روح امي .ورفعت عيني يحجبها الدمع لأتطلع إلي المجهول وقد فهمت ما كانت تعنيه أمي بقولها : - "أنه حتماً سيعود."