وظائف وزارة الزراعة 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    الدفاع الروسية تعلن القضاء على 9565 جنديا أوكرانيا خلال أسبوع    حكومة غزة: الرصيف الأمريكي لن يلبي حاجتنا وسيعطي فرصة لتمديد الحرب    كوريا الجنوبية تتهم بيونج يانج بزرع الألغام في المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين    إعلام أمريكي: موقف أوكرانيا أصبح أكثر خطورة    الأزمات تطارد لابورتا.. برشلونة مهدد بدفع 20 مليون يورو بسبب تشافي    الوصل يكتسح النصر برباعية ويتوج بكأس الامارات سنة 2024    حجز تذاكر قطارات عيد الأضحى 2024 ومواعيد التالجو    فيديو.. أحمد السقا: اللي ييجي على رملة من تراب مصر آكل مصارينه    البيت الأبيض: يجب فتح الجانب الفلسطيني من معبر رفح فورًا    واشنطن:"الرصيف العائم" ليس بديلا للممرات البرية..و لانرغب في احتلال غزة    تفاصيل أعلى عائد على شهادات الادخار 2024 في مصر    محافظ الإسكندرية يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (صور)    «هندسة مايو» يكرم الكاتب الصحفى رفعت فياض    عاجل: موعد نتيجة الشهادة الاعدادية الترم الثاني محافظة القاهرة 2024    التصريح بدفن جثة تلميذ غرق بمياه النيل في سوهاج    تراجع الأسهم الأوروبية بفعل قطاع التكنولوجيا وغموض أسعار الفائدة    «التضامن»: ضم فئات جديدة لمعاش تكافل وكرامة قبل نهاية سبتمبر المقبل    تفاصل الدورة الأولى ل«مهرجان دراما رمضان» وموعد انطلاقه    يسرا تهنئ الزعيم بعيد ميلاده : "أجمل أفلامى معاك"    الاستعدادات الأخيرة ل ريم سامي قبل حفل زفافها الليلة (صور)    في ذكرى ميلاده.. لماذا رفض عادل إمام الحصول على أجره بمسلسل أنتجه العندليب؟    هشام ماجد يكشف عن كواليس جديدة لفيلمه «فاصل من اللحظات اللذيذة»    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    حريق هائل يلتهم محتويات شقة سكنية في إسنا ب الأقصر    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    مساندة الخطيب تمنح الثقة    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال الضفة الغربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أضواء على الديانة اليهودية [ 2 ]
نشر في شباب مصر يوم 14 - 04 - 2020

وما زال الحديث موصول حول موضوع أضواء على الديانة اليهودية
ونقول الاتي::-
وأضيف أن ذكر دولة إسرائيل في هذا السياق للملاحم المنتظرة، لا ينفك عن ظهور الحاخام الألماني "سامسون رافائيل هيرش" في القرن 19 كمجدد للفكر الديني اليهودي بمشروعه المعروف ب "الأرثوذكسية اليهودية" وهو مشروع عبر فيه أنصار هيرش عن حاجتهم للتقيد بأوامر العهد القديم من ناحية والتعايش مع الحداثة والعلمانية من ناحية أخرى، وبرأيي أن هذا الاتجاه لهيرش أثر كثيرا على مفكري العلمانية اليهود في الجمع بين صدقية النص الديني والتعايش مع الحداثة..لاسيما وأننا سنناقش كيف أن هذا التعايش استفاد من رؤية الحاخام " موسى ابن ميمون" للإيمان اليهودي في الجمع بين الفلسفة والدين.
إضافة إلى أن مشروع هيرش أدى لإحياء اللغة العبرية الحديثة Modern Hebrew كلغة مقدسة تتفق مع العلم حتى صارت هذه اللغة أحد معالم إسرائيل الحديثة برغم ظهورها المتأخر كلغة رئيسية لحوالي 6 مليون من شعوب الشرق الأوسط، فقد كان اليهود سابقا إما مضطهدين سياسيا وغير مسموح لهم بإقامة أي إنجاز ثقافي جماعي في ظل إنجازهم الفردي، أو منخرطين في ثقافات أخرى ويظهرون كجنسيات محلية لا هوية جامعة لهم، وقد حدث التحول بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو عام 1815م حين سمح الأوربيون بقدر كبير من حرية الشعائر الدينية للأقليات، وقد اخترت هذا الزمن تحديدا لكون حروب نابليون تأثرت بثقافات وصدمات وكوارث القرون الوسطى الدينية التي عطلت نجاح الثورة الفرنسية فترة من الزمن..والشرح في ذلك يطول.
لكن مشروع هيرش برغم إحيائه للغة العبرية وتأثيره على علماء ومفكري إسرائيل الحداثيين لكن لا نستطيع القول أنه كان مؤثرا في صعود وتأسيس دولة إسرائيل، فالرجل – حسب كتابات فيلدهايم – كان معارضا لكيان إسرائيلي قبل دولة المسيح آخر الزمان..وهو الاتجاه الذي أسس حركات يهودية معارضة لإسرائيل لاحقا كجماعة " ناطولي كاردا" الموصوفة بالتشدد ، إنما فضل تأسيس دولة إسرائيل فكريا يعود للحاخام الألماني "هيرش كاليشر" ت 1874 م والذي رد عليه رافائيل هيرش حسب فيلدهايم معارضا، وبالتالي نحن أمام خطين يحكمان دولة ومجتمع إسرائيل فكريا، الأول : أصولي تابع لكاليشر يرى ضرورة جمع يهود الشتات والمشردين حسب قوله في دولة واحدة، والثاني: أصولي حداثي لرفائيل هيرش يرى ضرورة تقيد اليهود بتعاليم التوراه ومعايشتهم للحداثة والعلمانية من ناحية أخرى.
وهذا يفسر كيف أن إسرائيل بهذين الاتجاهين كوّنت أحزاب وتيارات عظمى حكمت إسرائيل لاحقا نجحت في إنجاز دولتها سياسيا وعلميا وعسكريا، فهم مؤمنين بالحداثة والعلمانية في الجوهر..في ذات الوقت مؤمنين بضرورة سماع واحترام تعاليم التوراه والوصايا وتنفيذها حسب الثقافة اليهودية العامة بتقديم التلمود على سائر كتب التناخ، وهذا ما حمل المسلمين والعرب على وصف مجتمع إسرائيل بالمجتمع التلمودي ويظنون أن ذلك يوافق تصورهم عن الدولة الدينية التلمودية..بينما يغفلون الشق الحداثي المرافق لهذا التصوّر التلمودي مما يعني أننا أمام حالة ازدواجية جمع فيه شعبا بين متناقضين مثلما جمع الإيرانيين متناقضين أولأ: عن طريق إيمانهم بدولة الإمامة الشيعية وولاية الفقيه من ناحية، ثانيا: عن طريق إيمانهم بالحداثة والاستعانة بأدوات الفلسفة الإيرانية لفهمها في مرجعيات قم حتى بات فهم الحداثة للإيراني البسيط متاحا في التعليم الديني.
وهو أمر يفقده العرب وخصوصا المسلمين السنة الذين لم ينجحوا بعد في التعايش مع الحداثة أو الإيمان بها ولا زالت مفاهيمهم عن الدولة لا تخرج من الشق التراثي الذي ميّز الجماعات الإسلامية في السبعينات.
المهم: أن عصر التدوين اليهودي في زمن "عزرا الكاتب" القرن 5 ق.م وما بعده تأثر فيه اليهود بالثقافة الهلنستية الجامعة بين العقل الهلليني اليوناني والروح المشرقية، واليهود بشكل عام يؤمنون أن الإنسان مُكوّن من جسد وروح فقط..خلافا للمسلمين الموجود لديهم (جسد وروح ونفس) واليهود يقصدون بالروح هي نفس المسلمين ولا يشغلوا أنفسهم بجدلية الروح والنفس اللي استهلكت مجهود فقهاء ومتكلمي المسلمين فترة من الزمن وإلى اليوم..ومكانة الروح في الحساب مهمة في مقارنات الأديان كونها الشئ الوحيد القابل للخلود المتسق مع فكرة الحساب.
وهنا يطرح دور مهم للفيلسوف اليهودي الأندلسي/ المصري "موسى بن ميمون" كأبرز شخصية تكلمت في الآخرة بصورة مختلفة عن سلف اليهود..ودوره الكتابي في هذا السياق مهم لرصد كيفية تطور اليهودية مع الزمن كما طرحنا في المقدمة ، ففي القرن 12 م ولد الرجل في أسبانيا وكتب عدة مبادئ لعقيدة يهودية جديدة أصبحت بعد ذلك أساس لكل مجدد يهودي ، علما بأن ابن ميمون لم يعرف في الغرب بهذا الإسم ولكن ب "ميمونيدس" Maimonides ومبادئه عرفت بمبادئ ميمونيدس ال 13 الإيمانية التي شكلت بعد ذلك أساسات الإيمان للشعب الإسرائيلي إلى اليوم.
آخر مبدأ لميمونيدس رقم 13 هو (قيامة الأموات) الذي اعتبر فيه أن التوراه قالت بالبعث لزوم العدالة في الثواب والعقاب ولخلود الإنسان نفسا وجسدا بشكل أبدي، شئ أشبه بتصور المعتزلة عن العدل والوعد والوعيد في الأصول الخمسة لديهم، وهذا يعني أن شراح التوراه الأوائل لم يقولوا بما قاله بن ميمون..أو المسألة لم تكن واضحة والنص غامض، والدارس لمعتقد اليهودية يرى أن مفهوم "التوراه" مختلف فيه بين اليهود أنفسهم قبل أن يكون مختلف فيه مع المسلمين والمسيحيين..
باختصار: فهناك 3 أنواع من التوراه ، الأولى: هي السامرية وتتضمن 5 أسفار فقط هي (اللاويين والخروج والتثنية والتكوين والعدد) وهي المعروفة عند المسلمين ويشار إليها في القرآن وتفسيره، أما الثانية: فهي العبرية وتتضمن هذه الأسفار الخمسة إضافة للكتوبيم والنبوئيم وهي مجموعة أسفار فوق ال 30 كتاب..وهي التي يؤمن بها سائر اليهود كنص ديني مقدس إضافة للتلمود والمدراش، أما الثالثة: فهي السبعينية وهي الترجمة اليونانية للتوراه العبرية ولا يؤمن بها سوى المسيحيين، مما يعني أن مصطلح التوراه في الحقيقة غير واحد، لكن المجمع عليه أن كل هذه الأنواع من التوراه سميت ب (العهد القديم) لذلك أحيانا تسمع كلمة توراه يقصد منها العهد القديم..والعكس صحيح..
وهنا يسأل سائل: ما الفارق بين الكتاب المقدس والعهد القديم؟ ..قلت: الكتاب المقدس هو تسمية جمعت العهدين القديم والجديد معا، فأما العهد القديم هو كتب اليهود المسماه ب "التناخ" كما تقدم، وأما العهد الجديد هو الأناجيل الأربعة ( متى ولوقا ويوحنا ومرقس) وسائر كتب الرهبان والزعماء المسيحيين الأوائل الذين آمنوا بمجمع بولس ونيقية وغيرهم، المسيحيون فيؤمنون بالعهدين معا في الغالب عدا بعض فرق المسيحية التي لم تعد تؤمن بصحة العهد القديم..
وثمة إشارة مهمة: أن اليهود لا يسمون كتبهم بالعهد القديم بل ب (التناخ) ويشتمل ذلك العهد على التوراه وكتب الأنبياء والأحبار الأوائل في بني إسرائيل خصوصا بعد العودة من الأسر البابلي، وبالتالي فتسمية العهد القديم جاءت من "مسيحيين يؤمنون باليهودية" ومصدر ذلك المسيح وتلاميذه الأوائل الذين قدموا أنفسهم للمجتمع كعاملين بالتوراه وليسوا منكرين لها مصداقا لما جاء في القرآن "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور "[المائدة : 46] وبالتالي فكتاب المسيح هو مُكمّل للعهد القديم بين الله وشعب إسرائيل بصفته مُصلِحا إسرائيليا بالأساس، ونتيجة لذلك أن أصبحت نصوص المسيح وتلاميذه هي العهد الجديد.
وهذا يعني أن فهم ديانة المسيح لن تكون سوى بعد فهم اليهودية أولا، فعندما انفصلت المسيحية عن الدين اليهودي كان الانفصال تأويلي حول نصوص التناخ بالأصل ثم صياغة هذا الفهم داخل كتب العهد الجديد، علما بأن الانفصال حدث في زمن لاحق للمسيح ولم يحدث في عصره..وبالتالي فالمسيح توفى مصلحا يهوديا إسرائيليا من الناحية التاريخية، ومات على الصليب كمذنب حسب المعتقد اليهودي..وأخيرا صعد إلى السماء ليعود مُخلصا من الدجال حسب المعتقد المسيحي الشائع، ولهؤلاء جميعا قصص مختلفة صاغت هذه النتيجة مع الإشارة بأن المعتقد المسيحي حول صعود يسوع إلى السماء دخل الإسلام رغم نفي القرآن إمكانية ذلك وتأكيده لموت المسيح في عديد من الآيات كأي بشر..
أما من حيث القدسية فاليهود يقدسون كتاب "التلمود" عن سائر كتب التناخ، وهو آخر ما تم تدوينه من كتب الرهبان والأحبار طوال عدة قرون، مما يعني أن مكانة النص في اليهودية ليست من حيث التدوين والرمزية الدينية..بل من حيث الاستعمال والعادة، بيد أن اليهود منذ كتابة آخر كتب التلمود وهم يقدمونه كشارح ومفسر ومهيمن على بقية كتب التناخ مثلما يقدم السلفيون والأزهريون في الإسلام كتب الحديث السنية على القرآن ويؤمنون بهيمنة شروح الحديث على أي نص ديني فما اصطلح لديهم بقاعدة "السنة تنسخ الكتاب" و "السنة شارحة للكتاب"..وهكذا
وبالنسبة لموسى بن ميمون فلم يتعامل إلا مع التوراه العبرية المسماه بالتناخ، وله شروح للمشناه في التلمود وكتاب فلسفي آخر وفّق فيه بين اليهودية والفلسفة الأرسطية، لذلك يعتبر من أقدم شراح أرسطو بين اليهود ودوره في الفكر اليهودي المعاصر كبير خصوصا بين الحداثيين، ودوره أصبح مهم بعد النهضة الأوروبية وتقريب فلاسفة اليهود لعقائده وشرحها للعامة..مما أدى إلى أن أصبحت رسائله في الإيمان هي محور عقائد اليهود الآن..بما فيها الرسالة ال 13 الخاصة بقيامة الأموات ..
لكن مع هذه المكانة لابن ميمون لا تستطيع القول أن اليهود يعتبروه معصوما وتصديقه واجب، هم يحترموه ويتعاملوا مع رؤيته كاجتهاد ذكي من شخصية فذة، لكن ما قاله في الأخير غير ملزم...وهذا لسبب مهم جدا هو أن اليهودية الأولى – سلف اليهود – كانوا دنيويين وماديين يرون أن الله خلق العالم لإسرائيل فقط ، وأن الأغيار - كل غير اليهود – مسخرين لخدمتهم كمكافأة من الرب لهم ..وبالتالي فكرة الثواب والعقاب عند سلف إسرائيل كانت في الدنيا ساعدهم أن نصوص العهد القديم لم تهتم بالحياه بعد الموت كما اهتم بذلك الإسلام والمسيحية، وهذا التصور خدم اليهود جدا بعد ذلك..كونه باختصار ساعدهم على عقلنة دينهم واستيعاب الحداثة مبكرا، فيمكن القول أن غالب فلاسفة ومفكري وعباقرة الحضارة الأوربية كانوا يهودا أو من جذور يهودية..ساعدهم تفكيرهم الدنيوي على عدم التعلق بالآخرة ونسيان الموت والتركيز في العمل، خلافا للمسلمين بالذات الذين لا زالوا يفكرون في الموت والحياه بعده مما أدى لإهمالهم الدنيا وتأخرهم في التطور الحداثي، وأي عملية مقارنة الآن بين عقل يهودي حداثي وآخر مسلم تقليدي سيلحظ فارق كبير..هذا يعيش في الحاضر والمستقبل بينما ذاك يعيش في الماضي.
إنما المؤكد أن عقيدة موسى بن ميمون خدمت الإيمان اليهودي خصوصا في عصر ما بعد الحداثة وقيام هتلر بإبادة ملايين اليهود، حينها أثير السؤال: لو لم يكن هناك بعثا للأجساد وحسابا على الشر فما فعله هتلر فيهم لا جزاء له وبالتالي يشجع على تكراره، كذلك ما فعله ابن ميمون خلق أطماعا نفسية في الخلود الأبدي طبقا لتفسيره للروح وخلودها في جنة عدن، ففي السابق كان مجرد أن يعيش الإنسان سعيدا لمدة 60 عام مثلا ويموت..هذا أقل من أن يخلد بنفس الدرجة من السعادة، وطبقا للرؤية البراجماتية فقد اكتسب اليهود هذا الطمع بالخلود..إضافة ليقينهم بأن الله سيعاقب هتلر على جريمته وأن انتحاره في الحقيقة – كما أشيع – ليس عقابا بل نهاية مريحة بالسم.
وبخلاف الأديان الأخرى ..تكاد اليهودية تتفرد بأن مصدرها ليس نبيا واحدا أو مصلحا واحدا..أو حتى جماعة واحدة، بل شعب بأكمله..وهذا أعطاها خصوصية بعيدة عن فكرة المؤسس ليصبح محورها ليس فكريا بل (شعبيا سلاليا) بمعنى أن الانتساب لإبراهيم وإبنيه إسحاق ويعقوب سلاليا يعني الانتساب مباشرة لإسرائيل، وأن كل من سمع الله يتحدث فوق جبل سيناء لموسى هو شاهد عيان على صحة دينه، وبالتالي نحن لسنا أمام دعوة وتصديق بل شهادة جماعية مصدقة، إضافة لأن العبرانيين وقتها كانوا في شدة 40 عاما ينتظرون أقل فرصة تنجدهم من مأزقهم..ما بالك وأن هذه الفرصة جاءت من الرب نفسه..سيصدقوها مباشرة..
ظهرت هذه الصيغة في تسمية كتابهم المقدس ب "العهد القديم" أي العهد الذي أخذه الله على بني إبراهيم وأولادهم، بالتالي فلا يوجد مؤسس وداعية واحد لليهودية إنما هي عوامل تضافرت مع بعضها لتخرج بالشكل النهائي لليهودية التي نعرفها، حتى النصوص المقدسة تجدها متكاملة وظيفيا، فسفر التكوين عقائدي والخروج سياسي والتثنية أخلاقي سلوكي واللاويين تشريعي وأخيرا سفر العدد جمع بين التشريع والسلالة، فخرجت أسفار اليهودية العظمى تؤكد ما قلناه أن محور اليهودية (سلاليا شعبيا) من جهة و (تشريعي قانوني) من جهة أخرى، وبالتالي لا دور لزعيم واحد أو مؤسس كما يحدث في الأديان الأخرى.
حتى في كتب الأنبياء نجد أن وظيفة التنبؤ في عدة أسفار مشهورة كإشعيا وحزقيال اللذان يرجح ميرسيا إلياد أنهما كتبا أواخر عهد السبي البابلي في القرن 6 ق.م من كتاب مجهولين، ولأن اليهود وقتها كانوا مسبيين ومضطهدين فخرجت النصوص تبشر بميلاد جديد ومخلص ينقذ شعب إسرائيل من محنته، وبرأيي أن فكرة مخلص آخر الزمان أو المهدي المنتظر خرجوا من وحي هذين السفرين، فالتأثير اليهودي كان كبيرا على التراثين المسيحي والإسلامي، ولكون السلالة دورها كبير في الدين اليهودي أصبح التفكير بجمع هذه السلالة في دولة واحدة يشكل خطرا عليهم إما بالانشقاق أو التغريب أو الاختراق أو الإبادة، وهذه كانت محور انتقادات "إسرائيل شاحاك" للدولة اليهودية في إسرائيل ضمن كتابه عن الديانة اليهودية وتاريخها.
وبالتالي قصة الوحي في اليهودية ليست فردية بل أشبه ب "الوحي الجماعي" وهذا ما يجعلهم يسخرون من وحي المسيح والرسول محمد، منطقيا يقولون أن الإيحاء لواحد دون شهادة أمر عبثي ، فلو جاء بأمرٍ عقلي مثلا فيُنظر في دليله عن طريق أهل العقل، أما لو جاء بمجرد ادعاء نبوة دون شاهد واحد يرى ويؤكد هذا الوحي فمن حقهم أن يرفضوه ويتهموه بالكذب، أما بالنسبة لهم فالوحي الجماعي وسماع صوت الرب هو حجة في حد ذاته..
لكن السؤال في المقابل: ما الدليل على ثبوت الوحي الجماعي؟ فنحن نعلم أن موسى حسب التاريخ العبراني كان يعيش في القرن13 أو 14 ق.م بينما الأسفار كتبت بعده على الأقل ب 800 سنة..فما الضامن على بقاء السفر نقيا دون تحريف طوال هذه المدة؟..وهل النقل الشفهي والحفظ النفسي كافيين لبقاء النص على حاله؟..وما حقيقة تأثير كل الأحداث السياسية بدءا من زمن الدولة الحديثة المصرية مرورا بشيشنق ونبوخذ نصر ثم اليونان والرومان على النص التوراتي؟ وبرأيي لكي يمكن فهم الديانة اليهودية بعيد عن تلك الأسئلة علينا أولا بدراسة قصة النبي إبراهيم في الكتاب المقدس والقرآن، ثم مقارنتها بسلوك اليهود تجاه المخالفين..وخصوصا الوثنيين منهم، فاليهودية شديدة الرفض للوثنية أو التعددية، وزعمائها الأوائل كانوا ثوّارا على المعتقدات القديمة..
وبالتالي وفقا لهذا السياق فالإسرائيليون الأوائل كانوا مولعين بالأنساب ويفسروها بشكل ظاهري، والسبب عدم وجود أصل ذهني أو دليل علمي لديهم، ومن ذلك مثلا تفسيرهم أن أبناء مصر (مصرايم) هم أشقاء لأبناء السودان (كوش) لتقارب الشبه والجيرة بينهم، وفي الحقيقة أن مصرايم وكوش هذه اختراعات نسب إسرائيلية نقلها العرب لاحقا لكون اليهود على مدار 2000 عام قبل وبعد الميلاد كانوا هم المصدر الأول للثقافة في الشرق الأوسط بصفتهم ورثة الساميين القدماء (سومر وبابل وآشور وفينيقيا) بعد انقضاء دولهم في العراق والشام، وقد فصلت بعضا من ذلك في دراسة "أصول العرب ومكر التاريخ" على الإنترنت.
وكان العهد القديم هو المعجزة الإسرائيلية التي خلّدت ثقافتهم السلالية تلك كونه أقدم مدونة بشرية إلى الآن تجمع بين الدين والقبيلة والسياسة والأخلاق والقانون..إلخ، فرسميا بدأت كتابته في القرن 5 ق. م لكنه شفهيا كان متداول قبل هذا التاريخ ليعاصر ملوك في عهد الأسرات، وبرأيي أن تدوينه ربما يكون أسبق على السبي البابلي في القرن 6 ق.م لأنه كان يستخدم مصطلحات ما قبل السبي للتعريف بنسل إبراهيم..الذي هو " إسرائيل" بينما مصطلح "اليهود" هو ما بعد السبي لكون هذا الشعب من سبط يهوذا، وبالتالي فكافة تسميات العهد لأبناء مصر والسودان هي تسميات (إسرائيلية) محضة ومن ذلك أسماء (مصر وفرعون) التي ورثوها من أجدادهم في سومر وآكاد وفينيقيا، بينما هذه التسميات لم يعرفها المصريون خلال عهد الأسرات الذين كانوا يسمون بلدهم "كيمت" أي الأرض السوداء، أو "هيكوبتاح" أي معبد بتاح، فإذا علمنا أن الأرض كانت إلها مصريا إسمه (جب) فتسمية الأرض المؤنثة أصبحت (جبت) لأن حرف التاء بنهاية الإسم كان يطلق على الإناث ..لاحظ (كيمت/ الأرض السوداء – ماعت/ إلهة العدل – نوت / إلهة السماء – نفت/ إلهة الحياه والولادة) ثم جاء عصر اليونان البطالمة الذين حكموا مصر قرابة 300 عام فأثروا على كل شئ بما فيها نطق هذه الكلمات، فأصبحت (جبت - جبتوس) و (نفت – نفتيس) و (منف – ممفيس) وهكذا.
من جانب آخر يمكن اعتبار الألف الأول قبل الميلاد هو التاريخ المعلن للثورة الإنسانية ككل على معتقدات ما قبل التاريخ، ففيها ثار اليهود على معتقدات الشام والعراق ومصر، وثار بوذا على معتقدات الهند ..وثار زرادشت على معتقدات الآريين وآسيا الوسطى، حتى عندما دخل اليونان مصر أدخلوا تعديلات على عقائد المصريين ومزجوا بين بعض آلهتهم وآلهة الشرق، وفي نفس الفترة ثار العقل الإنساني ضد التوجه الروحاني للأديان فظهرت الفلسفة اليونانية ومنتجاتها من الهللينية والهلنستية..
اليهود الأوائل تأثروا بهذه الثورات واكتسبوا معالمها على مراحل، ففي البداية رفضوا الوثنية وتعدد الآلهة، ثم انتهوا للمزج والتوفيق بين العقل والروح في الحقبة الهلنتسية، وهو زمن التدوين اليهودي المفترض الذي كتبت فيه معظم النصوص المقدسة للشعب العبراني، أي باختصار شديد: اليهودية كانت أول محاولة لإدخال العقل في الأديان خلافا لمعتقدات ما قبل التاريخ، وشرحت قبل ذلك كيف أن العقل لم يكن له دور في حضارة مصر القديمة..بل الروح والقلب مما يجعلها ديانة سلوكية أخلاقية أكثر منها نظرية..وهذا يفسر لماذا غابت ظواهر الحرب الدينية ومعارك الغزو العقائدي قبل اليهودية، لأن البشر وقتها كانوا يتعاملون مع الدين كوسيلة فقط للأخلاق والالتزام السلوكي وتفسيرا لظواهر الكون، وبالتالي نكتشف أن معارك الغزو المقدس هي عارض أساسا للعقل خلافا لرسالته الأصلية بالعدل، وهي قصة جدلية في فلسفة الأديان والأنثربولوجي موضوعها كيف يختلف الإنسان دينيا؟ ستجد أن ذلك يحدث بمؤثرات عقلية نسبية أكثر تبناها بعض الملوك التي فرضوها بالقوة الجبرية.
المهم: قصة إبراهيم هي محور فهم اليهودية في ثورته على التعددية الوثنية من جانب، وأضيف جانب آخر هو الجانب السلالي الذي ادعى فيه اليهود نسبا مقدسا لسام بن نوح ، وبالتالي نفهم أن ادعائهم وتشرفهم بالنسب لإبراهيم هو امتداد لشرف القبيلة السامية، وعند ظهور النبي العربي في شبه الجزيرة طعنوا في نسبه لإبراهيم لتهديده هذا الشرف القبلي فنزل القرآن " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" [آل عمران : 67]
برغم أن العرب هم أشقاء للعبرانيين في القبيلة السامية ولغتهم الأصلية واحدة، والعرب بدورهم اخترعوا نسبا يتصل بإسماعيل بن إبراهيم كي ينقلوا هذا الشرف الإبراهيمي لهم..برغم أن أصول عرب الجزيرة كانت من هجرات قديمة للأنباط المديانيين وشعوب العراق القديمة خصوصا السومريين والبابليين بأربعة أدلة:
الأول: ثبوت عيش الملك البابلي نبونئيد في تيماء العربية والقريبة من البتراء عاصمة ميديان النبطية، مما يلزمه حدوث هجرات مرافقة للملك
الثاني: وجود آثار سومرية في حضارة دلمون في البحرين بشكل يغطي تقريبا معظم آثار الجزيرة، مما يعني أن دلمون وقتها كانت ولاية سومرية وصلها العراقيون برحلات الصيد، وقد تحدثت مع بعض مثقفي الخليج في ذلك اعتراضا على زعمهم بوجود حضارة عربية مستقلة، وقلت أن مظاهر التحضر العربي كانت امتدادا لحضارات دول الجوار بأدلة منها فقدان العرب خطوطهم الخاصة قبل القرن 7م فكانوا يكتبون بالقلم اليمني الجنوبي (الخط المسند) والقلم الآرامي الشمالي (الخط النبطي) المستعمل وقتها في مملكة بابل.
الثالث: وجود النصارى الأبيونيين في شبه الجزيرة وهم الذين رحلوا من فلسطين أول 200 سنة في المسيحية نتيجة لاضطهادهم بعد مجمع بولس في أورشليم سنة 50 م، وهم الذين تحدث عنهم القرآن كفرقة مخالفة ولم يذكرهم كطائفة مسيحية منشقة ومختلفة حول طبيعة السيد المسيح.
الرابعة: أن معظم آلهة العرب في مكة وما حولها كانت في الشام جاءت بالتوازي مع هجرات الوثنيين للجنوب بعد شيوع اليهودية والمسيحية في الشمال.
وبالتالي نصل لنتيجة حاسمة: أن الخلاف العربي اليهودي حول الشرف القبلي لإبراهيم كان عارضا بعد الإسلام..أو حدث في حياة النبي بشكل طفيف ثم تضخم بعد ذلك نتيجة لثقافة الشرق الأوسط بالعموم التي تعتمد في جوهرها على التفاضل القبلي وتقديمه على الدين، وهو التفاضل الذي ورثه العرب إلى اليوم ليظهر على شكل حروب وفتن متبادلة بين الأمويين والهاشميين بعد موت الرسول، أو بين الأوس والخزرج في حياته إلى أن وصلت محطته الأخيرة الآن في صراعات عبثية بين ممالك الخليج، وهي صراعات في جوهرها قِبلية بمسحة سياسية والشرح فيها يطول.
وفي هذا السياق بتفسير بعض المصطلحات يوجد اجتهاد لغوي يقول أن كلمة (شام) أصلها (سام) مما يعني أن وصف منطقة فلسطين وما حولها بالشام كان وصفا ساميا قديما حدث بالنطق العبراني وتحويل حرف السين إلى شين، وبرأيي أن هذا البحث قوي في تفسير مسميات شرق أوسطية قديمة وفقا للثقافة السامية السائدة منذ الألف 3 ق.م ، لكن تكمن الإشكالية في تحديد زمن هذا النطق، هل قبل انفصال العبرانيين عن الآراميين القدامى أم بعد الانفصال؟..وبرأيي أن الوصف كان أسبق مما يعني أن وصف الشام هو عن ثقافة سامية محضة ورثها العرب والإسرائيليون والسريان والآشوريين بعد تفرقهم
وعن سؤال معنى كلمة إسرائيل قلت: هي عندي لقب وليس إسم علم، فالثابت أنه لا يوجد شخص إسمه إسرائيل كعَلَم ، لكنه لقب أطلق على جماعات وأفراد للشعب اليهودي القديم أو من نسل إبراهيم ومعناه (المنتقل والمهاجر إلى الله) خلافا للتسمية العربية أنه يعني (عبدالله) والإسراء كلمة سريانية نبطية تعني (الانتقال أو السفر) ومنها دخلت القرآن في سورة الإسراء بنفس المعنى، وفي القرآن قوله تعالى "ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا" [مريم : 58] تعني لقب لأحد أبناء إبراهيم..هو على الأرجح يعقوب الحفيد كما ذكر في الكتاب المقدس.
حتى كلمة الأسرى والأسير في هذا السياق بنفس المعنى أي الانتقال أيضا، ولكن عندما نطقت قديما فكانت بمعنى (الانتقال) من الحرية إلى الرق، وبالتالي كان الأسر يعني العبودية في الزمن القديم..ومنه عرفنا أن أسر اليهود في مملكة بابل كان معناه أنهم أصبحوا رقيقا وعبيدا..لذا عرفت تواريخ أسر اليهود عموما بمرحلة العبودية..لكنهم أضافوا لتاريخهم عبودية لهم في مصر مما يعني أن أسلافهم ربما حاربوا ملكا مصريا وأسر العديد منهم ليصبحوا رقيقا.
على جانبٍ آخر يوجد في اليهودية مصطلح "تاهارات ميشباشا" taharat mishpacha وهو طقس ديني متشدد نحو المرأة يجري فيه حبسها ومقاطعتها ولا تتكلم مع أحد، ليس لذنب قد فعلته ولا لجريمة قانونية..بل (للحيض الشهري) والدم الذي تعاني منه لبضعة أيام، ويعد أصل هذا السلوك في سفر اللاويين بالتوراه، لكن الحاخامات في التلمود (سنة اليهود) تشددوا في تفسير النصوص ووصل بهم لمد فترة المقاطعة إلى أسبوعين تقريبا كل شهر، ولا ينحصر ذلك في عدم ممارسة الجنس بل مقاطعة المرأة كليا وعزلها في أشبه ما تكون مصابة بفيروس أو عدوى تنتقل بمجرد اللمس..وهذا مصدر القول بنجاسة المرأة في تلك المدة الذي انتقل لمفسري الإسلام دون علم..
والمفسرين أخطأوا بتفسير قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " [البقرة : 222] وفسروا الآية على النحو اليهودي في التاهارات ميشباشا، وقالوا بأن العُزلة تعني المقاطعة ، برغم أن أمر الاعتزال مشروح في السياق بآخر الآية "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" أي الاعتزال فقط يكون جنسيا وليس المقاطعة والحصار مثلما قال اليهود، حتى لفظ الطهارة فسروه بأنه نقيض النجاسة، وهو غير صحيح..الطهارة تعني التبرؤ، تطهرت من النفاق يعني تبرأت من النفاق، تطهرت من الكذب يعني تبرأت من الكذب، ومرادفها الترك والعزلة أيضا..تطهرت من الحيض والدماء يعني تركني الدم وتوقف..
لكن الشيوخ لم يصمتوا..ففسروا الأذى بالنجاسة، المهم إن المرأة تكون نجسة..وهذا أيضا غير صحيح، وأترك الإمام الفخر الرازي يرد عليهم، قال : " الحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص، والأذى كيفية مخصوصة، وهو عرض، والجسم لا يكون نفس العرض"..(التفسير الكبير 6/ 415)
ومعنى كلام الرازي أن الأذى هنا مخصوص للنساء بمعاناة نسبية لها دون الرجال، أي تأثير الدم عليها عضويا ونفسيا ملحوظ ، ولأن الرازي عاش في زمن ما قبل النسبية فقال بها ولكن بلفظ مختلف "كيفية مخصوصة" ولأنه صاحب عقل فلسفي اكتشف بأن الأذى مجرد عَرَض زائل وليس جوهر كامن..بالتالي فعندما تحيض المرأة فهي لا تؤذي المجتمع كي نقاطعها ونضطهدها كما يفعل اليهود مثلما قال : " روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس"..(التفسير الكبير 6/ 414)
المهم : أن أصل ذلك الطقس اليهودي ضد المرأة مصدره من أديان ما قبل التاريخ التي اعتقدت بأن حيض المرأة ناتج عن (أعمال سحرية) فيعتقدون أن المرأة (ملبوسة) من الجان وأنها تحت رحمة الشياطين طوال تلك المدة، كما اعتقدوا أن الأوبئة والأمراض ناتج عن سحر الآلهة أيضا لارتباط الدين بالسحر في المعتقدات القديمة..
وعندما جاء اليهود احتفظوا بالطقس القديم في تفسير الحيض، لكن أوّلوه بطريقة دينية نصوصية بفتاوى الحاخامات ، والسر في ذلك أن اليهودية كانت تعتبر أول ديانة كتب لها نصا مقدسا ينظم حياتهم الدنيا فضلا عن الوعد بالآخرة، بينما الديانات القديمة كانت مفتقدة لهذا النص سوى تنظيم حياتهم الأخروية ككتاب الموتى الفرعوني، وبالتالي حين وجود نص مقدس يكثر التأويل والاختلاف فيه..وموقفهم من الحيض هذا برغم أنه كان نقلة إسمية عن أديان ما قبل التاريخ..لكن ورثوا هذا الموقف العنصري والعنيف ضد المرأة في هذا الطقس حتى ورثه المسلمون أيضا بوصف المرأة بالنجاسة وهم لا يعلمون مصدر هذا الوصف من الكتب السابقة..
وفي نفس سياق الاقتباس الإسلامي من اليهودية نجد سوم عاشوراء، بالنسبة ليوم عاشوراء، لكن التراث الإسلامي نقل فيه الخلاف في موعده وحكمته، فمن حيث الحكمة مثلا هو اليوم الذي نجى فيه الله موسى من فرعون، أو اليوم الذي ركب فيه نوح السفينة، وأخيرا هو اليوم الذي تاب فيه الله على آدم..والاختلاف دليل على الاختلاق على أصل غير معلوم ومؤكد..يعني أساس القصة لم تكن كذلك بل مصدرها يهودي كما سنبين، وأما من حيث الموعد فقالوا هو في شهر محرم، ومرة في شهر رجب عن قتادة، وأول رمضان عن ابن عباس.
الادعاء الأول خلط فيه الراوي بين عيد الغفران وعيد الفصح اليهوديين، لأن توقيت عاشوراء يوم 10 محرم بالتوقيت الهجري جاء مرافقا لعيد الغفران اليهودي قبل إلغاء النسئ في عهد عمر بن الخطاب، أما عيد الفصح فهو الذي نجى الله فيه موسى من فرعون حسب التوراه...وهذا الخلط لم ينتبه له كثير من الدارسين للتراث لاعتقادهم بأن الفصح اليهودي هو المسيحي المعروف بعيد القيامة، وبتوضيح أكثر..فالتقويم اليهودي قمري مثل العربي القديم (قبل إلغاء شهر النسئ) لأصول تعود لتقديس شعوب هذه المنطقة الإله "سين" إله القمر في حضارة الساميين القدماء، فكانت السنة تبدأ في المحرم العربي بينما تبدأ السنة في تشرين اليهودي (شهر أكتوبر) فيصبح بالتالي يوم 10 محرم العربي هو يوم 10 أكتوبر اليهودي..وعيد الغفران كان في اليوم العاشر من بدء السنة اليهودية..
قام الرواه المسلمون بنقل الاحتفال بعيد الغفران لكي يكون إسلاميا صرفا وادعوا هذه الادعاءات فوق أنه عيد للنبي نوح ومرة لآدم ، وفي مرة من المرات فكر أحد الرواه وخرج بقناعة أن عاشوراء هو الذي نجى الله فيه موسى..وهو لا يعلم أن عاشوراء القديم كان بعد عيد الفصح ب 6 أشهر..ونجاة موسى من فرعون كانت في بداية فصل الربيع بمنتصف العام لليهود، حتى عندما روى المحدثين أن عاشوراء هو (كفارة لسنة ماضية) أي يغفر ذنوب العام الماضي مأخوذ من شريعة اليهود بأن صيام يوم الغفران/ كيبور يغفر ذنوب العام الماضي ليبدأ اليهودي عامه الجديد على طهارة..ومن إسمه يظهر (غفران) وبالتالي نربط فورا بين ثواب صيامه في اليهودية والسُنة معا..مع العلم بأن فتوى ابن عباس بأن عاشوراء هو أول رمضان مرهون بنقصان شهر شعبان ليكون 29 يوم..وهو نفس عدد أيام الشهر الأخير في السنة اليهودية (أيلول/ سبتمبر) في السنة اليهودية..
أضيف أن تسمية عاشوراء – عند البعض - لا علاقة لها بيوم العاشر من السنة العربية أو اليهودية، بل بالإلهة عشتار، ربة الخير والنماء عند الساميين القدماء، وأسطورتها أنها كانت (تبكي وتولول) على زوجها الإله تموز بعد موته في شهر (أيلول) وهو آخر شهور السنة العبرية، فتسمية اليوم بعاشوراء كان لجذور من أديان قديمة على الأرجح من الدولة البابلية التي كانت تستعمل نفس التقويم العربي واليهودي ، سنة قمرية بإضافة شهر نسئ، وأيا كانت التسمية ومصدرها فعاشوراء هو طقس ديني لشعوب الشرق الأوسط منذ آلاف السنين، الفارق أنه تطور حسب الديانة وورث الناس معتقداته حسب ظروفهم السياسية، من ذلك أن استشهاد الإمام الحسين حدث في ذلك اليوم فاتخذه الشيعة مأتم وطقوس للحزن واللطم..إلخ، وعندي أن ذلك قد يكون له علاقة بأسطورة عشتار وتموز لأن البابليين كانوا يفعلون نفس الشئ وفي نفس اليوم، أما السُنة فاتخذوه عيدا وعظّموا منه لأسباب سياسية أيضا خاصة بمقتل الحسين على أيدي الأمويين، والدارس لروايات عاشوراء في كتب السنة يجد جزء كبير منها عن معاوية ومحدثين عُرِفوا بالانحياز الأموي أو عملهم في بلاط الخلفاء.
أما عن يهود الدونمة فقصتهم تتلخص في اعتقاد اليهود بمسيح آخر الزمان، في اليهودية يؤمنون بمسيح آخر الزمان، وصفته أنه رجل يبعثه الله ليقيم العدل كما ملئت الأرض جورا وظلما، ويخلص شعب إسرائيل الأغيار المعادين للرب حسب اعتقادهم، ولما بُعِث يسوع الناصري وقال أنه المسيح كذبوه، لكن عندما جاء الإسلام وشهد ليسوع أنه المسيح زادت مشاعر العداء لكل ما هو مسيحي إسلامي في اليهودية، لكن فئة منهم بدأت تتراجع وتتبنى وجهات نظر وسطية آمنوا فيها أن يسوع هو المسيح لكنه ليس إلها، ومن هؤلاء النصارى أو الناصريين ولهم إسم ثالث (الأبيونيين)
في القرن 17 م ظهر حبر يهودي في أووبا اسمه "سابتاي زيفي" ادعى أنه المسيح المخلص، وبدهيا سيكون أعداؤه: أولا: العثمانيين المنتظرين عودة يسوع من السماء حيا فوق منارة دمشق، ثانيا: المسيحيين بكل فرقهم المؤمنين بأن مسيح اليهود خرافة وأن مسيحهم هو المخلص الحقيقي آخر الزمان، وأن سابتاي ربما يكون هو المسيح الدجال الذي وجب قتاله.
نجح سابتاي في تكوين مجموعة صغيرة وإقناعهم بنفسه، لكن التيار كان شديدا عليه وأن الله قد نظر إليهم ثم وجد فيهم ضعفا وسيفشل في النهاية، بالفعل قُبِضَ عليه ثم حُكم عليه بالإعدام..لكن السلطان خيره ما بين الموت أو اعتناق الإسلام فاختار الأخيرة..لا يعلم السلطان أن مبدأ "التقية" أصبح يهودي بعد موسى بن ميمون، يعني إسلام سابتاي غير حقيقي، ولم يظهر بدعوته الدينية دون سبب، ففكرة المخلص تشغل الناس في الحروب والأزمات ، لاسيما أن اليهود وقتها كانوا يتعرضون لمحرقة عظمى على يد "هتلر أوكرانيا" الملك (بوهدان خملنيتسكي) حيث قتل خملنيتسكي حوالي 100 الف يهودي في شرق أوروبا كانوا متهمين بالعمالة لبولندا وليتوانيا، وبوهدان كان زعيما قوميا وتاريخيا للأوكرانيين وتماثيله في أغلب مدن أوكرانيا، لذلك الإسرائيليين برغم اتفاقهم مع أوكرانيا ضمن محور غربي أمريكي لكنهم يكرهون الأوكرانيين لتمجيدهم المجرم خملنيتسكي.
المهم بعد اعتناق سابتاي للإسلام ظل يهوديا في الباطن، وبدأ يدعو لنفسه أنه المسيح المنتظر بهدف جذب المسلمين لليهودية، واقتنع خلق كتير بسابتاي وبدأوا يشكلون مجموعات دينية كبيرة حسب مبدأ (التقية) لابن ميمون، لكن كشف أمره للسلطان فكان أمامه خيارين إما القتل أو النفي..فاختار النفي خشية تعظيمه عند أتباعه بعد قتله، وظل منفيا إلى أن توفى سنة 1676 م، وبعد موت سابتاي نشط أتباعه في تركيا وظلوا متحينين الفرصة للانتقام من الخلافة، ولم يمر 200 سنة حتى جاءت الفرصة للانتقام بعد ضعف العثمانيين خلال أزمتي الأرمن والحرب العالمية الأولى، وهذا سبب اعتقاد الإسلاميين والأتراك بأن سقوط خلافتهم العثمانية بسبب مؤامرة من يهود الدونمة خلفاء سابتاي... وللحديث بقية ..
-------
بقلم / سامح عسكر
كاتب وباحث مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.