ضرب أبناء مصر الكرام أروع الأمثلة في ثورتهم المباركة التي أطاحت بآخر الفراعنة، والتي كانت مثالاً يحتذى به في الحفاظ على مكتسبات وطنهم، إلا إن ثورتهم لم تكتمل حتى الآن، وإن حصلوا على كل مطالبهم السياسية والأدبية، فستكون أيضاً منقوصة. ربما يلومني أحد القراء، ويتهمني بالتشاؤم، لكنها الحقيقة، إنها لم تكتمل ولم تؤت ثمارها المنشودة، إلا إذا غيَّر المصريون من أنفسهم، وحاربوا الفساد في كل مؤسسات الدولة. فهل يغيرون أنفسهم؟ أم يتركونها فريسة لماض أليم، عاشوه ورضوا به، وسلموا له أنفسهم، ولن يستطيعوا أن يتركوه مهما اختلفت الأنظمة الحاكمة. لا يختلف اثنان على أن النظام المخلوع كان فاسداً بكل المقاييس، وأنه كان سبباً رئيسياً في طلب الموظفين رشوة من المراجعين. نجح المصريون في ثورتهم على الديكتاتور الأعظم والفرعون الأخير، لكنهم لم ينجحوا في ثورتهم على أنفسهم، لأنهم عاشوا قروناً من الزمان في حالة هيستيريا، كل همهم جمع المال بأي طريقة مهما كانت، لا يهمهم مصدره، وهل هو حلال أم حرام، وإذا كان من الحرام، فهل مانحه يعطيه عن طيب خاطر أم أنه يتبعه باللعنات؟ وهل الذي يأكل حراماً يعيش سعيداً أم إنه يعيش منبوذاً بين كل من يعرفه؟ أقولها وبكل صراحة، مازالت الرشاوى موجودة في كثير من أروقة المؤسسات الحكومية، ومازال الفساد موجوداً كسابق عهده، ولن يستطيع أي مواطن أن ينهي مصلحته، مهما كانت أوراقه سليمة مئة في المئة، إلا إذا منح المختص رشوة. لا أنكر أن هناك موظفين شرفاء، يخافون الله، ويقومون بواجبهم تجاه مراجعيهم على أكمل وجه، لكن المخطئ دائماً مفضوح، وظاهر للعيان، لأنه إنسان دنيء النفس، يضر بسمعته وسمعة الآخرين، حتى إن المتعاملين معه يظنون أن زملاءه مثله. لا أظن أن مانح الرشوة يعطيها للموظف عن طيب خاطر، حتى لو ظهر مبتسماً أمامه أثناء منحه إياها، لأنه يعطيها له وهو يعلم يقيناً أنها ليست من حقه، وأنها محرمة شرعاً وقانوناً، لكن حاجته الماسة لقضاء مصلحته أجبرته على أن يعطيها له، وكثيراً ما يمنحه إياها وهو غير مسامح فيها، ويتمنى من الله أن لا يبارك له فيها، لأنه أخذها منه دون طيب خاطر، أو أن راتبه محدود بالكاد يكفي حاجته، مما يزيده ألماً وحسرة على أنه منح الموظف رشوة. لماذا لا يقوم المصريون بثورة على المرتشين، كما قاموا بثورة على رئيسهم، أم إنه إذا كان الظلم من أنفسهم، كان حلالاً سائغاً لهم، وإذا كان من رئيسهم كان حراماً ووجب عليهم خلعه؟ على المرتشين أن يتقوا الله في أنفسهم وفيمن حولهم، لأن الرزق من عند الله وهو كفيل به، وليس من عند البشر، ومهما حصلوا على رشاوى، فلن يبارك الله لهم فيها، لأن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام، ولن يبارك الله في رزق أخذ بغير وجه حق.. فكم رأينا من أناس مرتشين يعيشون حياة بؤس وكدر، ولا تظهر عليهم نعمة المال الكثير، لأن الله لم يبارك لهم فيه، ودائماً يخافون إظهاره خوفاً من المساءلة القانونية، لأن من حولهم يعلمون أنهم موظفون ورواتبهم محدودة. لو كان المرتشي يؤمن بالله، لعلم أن رزقه من عند الله، وليس من عند البشر، ومهما فعل من حيل فلن يأخذ أكثر مما قسمه الله له، ولرضي بقضاء الله وقدره. من أجل مصر علينا أن نتق الله في عملنا، ونؤديه على أكمل وجه، لا ننتظر رشوة من المراجعين، ولا شكراً من رئيس، لأن البركة من عند الله، وليست من عند البشر. أسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يصلح حالنا، وأن يوفقنا في تغيير أنفسنا، والقضاء على المرتشين من أبناء جلدتنا، ولا يستبدلنا بقوم غيرنا ... إنه ولي ذلك والقادر عليه. محمد أحمد عزوز كاتب مصري