جثث الملوك مضحكات مبكيات من زمن الثورات لا أعلم لماذا إستقرت في ذهني فكرة الإرتباط بين الظلم الفاحش والموت الشنيع وأصبحت تلك الفكرة تدفعني دفعا للتمحيص والنبش في التاريخ ... وربّما كان كرهي للحكّام من أولاد الحرام أحد الأسباب ومفتاح جميع الأبواب لخفايا المصير الأسود لبعض حكّام السوء الذين تربّعوا على صدور الناس بدون رأفة أو إحساس ولم يخطر ببالهم مطلقا أن تكون نهايتهم مأساويّة بل وكارثيّة الى درجة لا توصف ... كنت أبحث بين ركام الكتب القديمة التي غطّاها الغبار وأفسد لونها وإذا بي أعثر على بعض الإشارات هنا وهناك حول الموضوع ... ويال العجب ... إذ كم من التاريخ قد غمره الغبار وأحتاج الأمر الى بضع ثوان فقط من أجل كشف الأسرار واعادة الحياة الى سجلّ ظنّ بعض الناس أنه لم يعد له آثار ... -1- ملك بريطانيا وليام الفاتح : عثرت على قصّة تروي مصير ملك بريطانيا ويليام الفاتح الذي كان ظالما لشعبه ينصب الموائد المزيّنة بأفضل مأكل في حين يموت رعيته جوعا ، ومن كثرة الأكل أصبح وليام ضخم الجثّة وقد تسببت ضخامته في هلاكه إذ تقول الرواية إنه في سنة 1087 وعندما كان في حملة شنها ضد ابنه روبرت في فرنسا،سقط من على ظهر حصانه ووقع عليه الحصان فاخترق السرج بطنه ثاقباً أمعاءه... ولأنه توفّي في مكان بعيد قام أحد أعوانه الأغبياء بتحنيطه مستعملا وسائل بدائية وغير مجدية ، ومن ثمّة تمّ نقل الجثّة الى مدينة كاين في النورماندي ، وخلالً الرحلة تسربت البكتيريا من داخل أحشاء الجثة إلى بقية الجسم وبدأت تعمل على تحليل الأنسجة بسرعة مخيفة. وبوصول الجثّة الى مدينة كاين بدأت المتاعب الحقيقية إذ وقع تأجيل الجنازة بسبب اندلاع حرائق ضخمة في المدينة مما دفع بمعظم السكان إلى الهرع إلى إطفائها، ثم أنه وبعد إخماء الحريق والشروع في مراسم الدّفن جاء رجل إلى المقبرة وقال بأن الأرض التي أوصى الملك بأن يدفن فيها كانت ملكاً له ولعائلته وقدّم إثباتاته ، وبذلك تحوّلت الجنازة إلى جلسة مشاورات قانونية مطولة إنتهت الى دفع تعويض للرجل ... كان لهذا التأخير تبعات كارثية إذ تسبب في انتفاخ جثة الملك بفعل الحرارة، وعندما حاولوا إنزالها لوضعها داخل القبر، وجدوا أنها أصبحت أكبر حجما ولم يعد القبر يتسع لها، وفي نهاية المطاف انفجرت أحشاؤه المنتفخة، وخرجت منها رائحة كريهة أزعجت الحاضرين وجعلتهم يغادرون الجنازة على عجالة ... بعد هذا الدفن الذي أقل ما يقال عنه أنه مهين، لم يرقد ويليام بسلام حيث تعرض قبره للنبش ثلاثة مرات، واحدة بأمر من روما ، ومرة على يد الكالفينيين، ثم مرة ثالثة خلال الثورة الفرنسية اندثرت على إثرها عظام جثمانه كلها باستثناء عظم الفخذ ... وهكذا بعد الدّلال تعيش جثّة الملك الظالم أسوء أنواع الإذلال فتتحلّل وتذوب ولا يبق منها شيئا إلاّ عبرة المصير ... -2- ملك فرنسا لويس التاسع : إنه قائد الحملات الصليبية على مصر وتونس وصاحب الوصيّة الشهيرة المحفوظة في دار الوثائق القومية بباريس والتي يقول فيها : إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة باتباع ما يلي: أولاً: إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين . ثانياً : عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح . ثالثاً: إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة. رابعاً: الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه، يضحي في سبيل مبادئه. خامساً: العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة. سادساً: العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد حتى تصل إلى الغرب... هذا الملك أصيب بالطاعون أثناء الحملة الصليبية على تونس ، ولأنّ الفرنسيين لا يتقنون فنون التحنيط وجدوا أنفسهم مجبرين على تسليم قلب وأحشاء الملك للجراحين بغية حفظهما بعناية داخل جرّتين ، أما بالنسبة لباقي الجسد، فقد وُضع داخل قدر مملوءة بالنبيذ والماء المالح ووضع القدر فوق النار الى أن انسلخ اللحم عن الهيكل العظمي. ثم جففت العظام تحت أشعة الشمس، ليتم فيما بعدُ وضعها بعناية داخل حقيبة جلدية، في حين حُفظ اللحم داخل جرة محكمة الإغلاق. في النهاية كان جثمان الملك الفرنسي حين وصوله الى فرنسا يقتصر على حقيبة جلدية وجرة لا غير ، ولسوء حظ الملك الفرنسي لم تصل بقايا جثته كاملة إلى فرنسا إذ وُزعت عدة أجزاء من لحمه على مناطق مختلفة في أوروبا فتم دفن لحم جثة لويس التاسع في مدينة باليرمو الإيطالية، وتحديداً بكاتدرائية "مونريالي"، ولم يصل سوى القلب وبقايا الهيكل العظمي إلى مدينة باريس التي انطلقت بها مراسم دفن الملك الفرنسي، أو بالأحرى ما تبقى منه ... وهنا أعود الى البداية حيث فكرة الإرتباط بين الظلم الفاحش والموت الشنيع لعلّ في نبش التاريخ عبرة لبعض الملوك رغم أني أعتقد جازما بأنهم لم ولا ولن يعتبروا ... وصدق المتنبي حينما قال : أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ