سعر الذهب اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025.. عيار 18 يسجل 4701 جنيها    بعد تصريحات ترامب.. ماذا يعنى تصنيف السعودية حليف رئيسى من خارج الناتو؟    اتصال هاتفى بين وزير الخارجية ونظيره الفرنسى يتناول التطورات الإقليمية    النيابة الإدارية بالمطرية تتحرك بعد واقعة تنمر على تلميذة ولجنة عاجلة للتحقيق    أردوغان: صادراتنا السنوية بلغت في أكتوبر 270.2 مليار دولار    اعتماد تعديل مشروع شركة إعمار مصر للتنمية في المقطم    جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تستقبل المستشار التعليمي التركي وتبحث سبل التعاون الأكاديمي    جامعة مصر للمعلوماتية تكشف عن برامج مبتكرة بالذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني والتعليم وعلوم البيانات    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الإيطالي الأوضاع في غزة والسودان    بيراميدز يعلن موعد المؤتمر الصحفي لفريق ريفرز يونايتد النيجيري    شوبير يكشف حقيقة تولي كولر تدريب منتخب مصر    الإسماعيلي ينفي شائعات طلب فتح القيد الاستثنائي مع الفيفا    19 نوفمبر 2025.. استقرار البورصة في المنطقة الخضراء بارتفاع هامشي    أولوية المرور تشعل مشاجرة بين قائدي سيارتين في أكتوبر    الداخلية تكشف تفاصيل مشاجرة بين قائدى سيارتين ملاكى بالجيزة    محمد حفظي: العالمية تبدأ من المحلية والفيلم الأصيل هو اللي يوصلنا للعالم    أحمد المسلماني: برنامج الشركة المتحدة دولة التلاوة تعزيز للقوة الناعمة المصرية    محمد حفظي: العالمية تبدأ من الجمهور المحلي.. والمهرجانات وسيلة وليست هدفا    بعد أزمته الصحية.. حسام حبيب لتامر حسني: ربنا يطمن كل اللي بيحبوك عليك    خالد عبدالغفار: دول منظمة D-8 تعتمد «إعلان القاهرة» لتعزيز التعاون الصحي المشترك    الصحة: مصر خالية من الخفافيش المتسببة في فيروس ماربورج    محافظ المنوفية يشهد فعاليات افتتاح المعمل الرقمي «سطر برايل الالكتروني» بمدرسة النور للمكفوفين    الطقس غدا.. ارتفاع درجات الحرارة وظاهرة خطيرة صباحاً والعظمى بالقاهرة 29    الأهلي يحصل على موافقة أمنية لحضور 30 ألف مشجع في مواجهة شبيبة القبائل    نور عبد الواحد السيد تتلقى دعوة معايشة مع نادي فاماليكاو البرتغالي    أول رد فعل من مصطفى محمد على تصريحات حسام حسن    إزالة تعديات وإسترداد أراضي أملاك دولة بمساحة 5 قيراط و12 سهما فى الأقصر    انطلاق فعاليات المؤتمر السنوي العاشر لأدب الطفل تحت عنوان "روايات النشء واليافعين" بدار الكتب    روسيا: أوكرانيا تستخدم صواريخ أتاكمز الأمريكية طويلة المدى مجددا    شقيق إبستين: كان لدى جيفري معلومات قذرة عن ترامب    وصفات طبيعية لعلاج آلام البطن للأطفال، حلول آمنة وفعّالة من البيت    الإحصاء: معدل الزيادة الطبيعية في قارة إفريقيا بلغ 2.3% عام 2024    قصور ومكتبات الأقصر تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. صور    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته بمعرض دبى الدولى للطيران 2025    المصرية لدعم اللاجئين: وجود ما يزيد على مليون لاجئ وطالب لجوء مسجّلين في مصر حتى منتصف عام 2025    جامعة قناة السويس تدعم طالباتها المشاركات في أولمبياد الفتاة الجامعية    موعد مباراة بيراميدز القادمة.. والقنوات الناقلة    وزير الري يلتقي عددا من المسؤولين الفرنسيين وممثلي الشركات على هامش مؤتمر "طموح إفريقيا"    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    مصرع 6 عناصر شديدة الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه | صور    حزب الجبهة: متابعة الرئيس للانتخابات تعكس حرص الدولة على الشفافية    إقبال واسع على قافلة جامعة قنا الطبية بالوحدة الصحية بسفاجا    بريطانيا تطلق استراتيجية جديدة لصحة الرجال ومواجهة الانتحار والإدمان    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    بعد غد.. انطلاق تصويت المصريين بالخارج في المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    اليوم، حفل جوائز الكاف 2025 ومفاجأة عن ضيوف الشرف    ماذا قالت إلهام شاهين لصناع فيلم «بنات الباشا» بعد عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي؟    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    العدد يصل إلى 39.. تعرف على المتأهلين إلى كأس العالم 2026 وموعد القرعة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة المملوكية وممارسة الظلم
نشر في شباب مصر يوم 24 - 11 - 2018


د. أحمد صبحي منصور
الدولة المملوكية كانت دولة عسكرية دينية أو دينية عسكرية. وبصفتها الدينية كانت تمارس الظلم على أنه شريعة دينية ، وتؤدى الصلاة على أنها وسيلة تقربهم الى شيطانهم أو إلاههم الأعظم وهو المال النرتبط بمقدار السلطة.
2 والدولة المملوكية كانت تسير على قدمين : العسكر والفقهاء ، وكلاهما تلقى تعليما دينيا .
2 / 1 : المماليك كانوا رقيقا يؤتى بهم الى مصر ، فيتعلمون ما يقال لهم أنه ( الاسلام ) ، يحفظون بعض القرآن ويتعلمون معالم الدين السنى ، بالاضافة الى فنون القتال ، وبالممارسة يتعملون فنون التآمر ، حيث يتم عتق المملوك ويصير جنديا وينفتح أمامه طريق الترقى المحفوف بالتآمر والمكاره، قد يصل الى السلطنة أو ما دونها وقد يلقى حتفه أو يدخل السجن قبل أن يصل الى أعلى أو بعد أن يصل الى أعلا. وفى كل هذا هو منغمس فى خدمة طاحونة الظلم المتلفع بعباءة الدين ، ويمارس الصلاة الشيطانية يحسب أنه بها يحسن صُنعا.
2 / 2 : نفس الحال مع الفقهاء . كانوا يتعلمون دين السنة الصوفى فى المدارس والزوايا والأربطة والمساجد والقباب والجوامع والقباب والخوانق. وهى لم تكن فقط بيوتا للعبادة بل كانت تحتوى على قاعات للعلم والدرس ومكتبات بالاضافة الى أمكنة التعبد . وفى وثائق الوقف عليها كان يتم تحديد واجبات المدرسين ونوعيات الكتب فى الحديث والتفسير والعقائد . ويتخرج أحدهم فيتنافس فى الحصول على وظيفة ، وقد يصل الى وظيفة ديوانية ، وأعلاها أن يكون ناظرا للخاص ( مشرفا على أملاك ومالية السلطان ) أو كاتب السّر ، الذى يكتب للسلطان مكاتباته الرسمية ، وقد يكون أقل من ذلك ..وهناك الوظائف الدينية مثل المحتسب الذى يراقب الأسواق والشوارع ، والقضاة . وفى كل الأحوال يصل الفقيه الى منصبه الديوانى أو الشرعى ليس بالكفاءة ولكن بالرشوة ، فشراء الوظائف كان رسميا من خلال ديوان ( البذل والبرطلة ). وفى كل هذا هو منغمس فى خدمة طاحونة الظلم المتسربل بعباءة الدين ، ويمارس الصلاة الشيطانية يحسب أنه بها يحسن صُنعا.
3 وطاحونة الظلم المملوكى كانت تلتهم الجميع من مماليك وفقهاء .المملوك الخاسر لا يلقى رحمة ، والفقيه الذى يصل بالبذل والبرطلة يتعرض للمصادرة والتعذيب حتى يعترف بما خبّأه من سرقات ، ودون خجل . لذا كان نفاق السلطان أهم ملامح الطقوس الدينية ، لا فارق بين العسكر والفقهاء ، ولا فارق بين قاضى القضاة وأتابك العسكر (أى قائد الجيش ) .
4 ولم يكن عصر قايتباى هو العصر الوحيد فى التعذيب والظلم والنهب، هو فقط كان المشهور بالورع والتقوى بين سلاطين المماليك ، ولكن التعذيب كان لازمة من لوازم الحكم العسكرى المملوكى ، وكل حكم عسكرى يستأثر بالثروة والسلطة ويقهر المواطنين بالتعذيب حتى لا يثوروا ، ويستخدم الدين ( الأرضى ) وفقهاءه لاسكات الناس ، بل يحضهم على الدعاء للسلطان الظالم بالنصر
(على الشعب ) .
5 ولا ننسى أن من فقهاء العصر المملوكى عصر التعذيب من لا يزالون يتمتعون بالتقديس حتى الآن ، ومنهم ابن تيمية وابن كثير وابن القيم وابن حجر. وكان منهم فى عصر قايتباى السخاوى والسيوطى والبقاعى والبلقينى..( وشيخ الاسلام وقتها ) زكريا الأنصارى ...وعلماء الأزهر. جميعهم سكتوا عن التعذيب ولم يعترضوا عليه إذ رأوه حقا للسلطان الراعى ، وله حق التصرف فى الرعية كيف شاء. بل كان بعضهم يتعرض للتعذيب فلا يشكو بل يسكت ويجتهد فى إرضاء السلطان والاستمرار فى عمله معاونا لدولة الظلم . ولا ننسى أننا ننقل وقائع التسجيل العملى لتطبيق الشريعة السنية عن مؤرخ قاض هو ابن الصيرفى.
6 هذا لا يمنع من وجو أقلية محترمة من الفقهاء مثل القاضى ابن جماعة والمؤرخ المقريزى الذى عمل محتسبا فترة من الوقت وكان حاد النبرة فى تأريخه لمماليك عصره . ومنهم من نافق وتصاغر مثل الفقيه المؤرخ ابن حجر العسقلانى والفقيه المؤرخ العينى . وسار على طريقة ابن حجر تلميذه المؤرخ القاضى ابن الصيرفى.
7 وابن الصيرفي يمثل الطبقة التى ينتمى إليها فيما يكتب، ويعبّر عنها بصدق، وإذا كان القضاة يمثلون الشرع السّنى ،فإن ذلك الشرع السّنى وممثليه كانوا في خدمة السلطان وفي ركابه أينما سار. وكان أولئك القضاة ومشايخ الإسلام يجدّدون للسلطان عبوديتهم له في مطلع كل شهر عربي حيث يصعدون إلى القلعة يدعون له ويقبّلون الأرض بين يديه فى صلاة فيها الدعاء وقراءة الفاتحة والتسليم والركوع والسجود . وهو كان يتدلل عليهم وينشغل عنهم باللعب والنزهة فيأتون له في اليوم التالى. وهم بين الخوف منه والتقرب اليه كانوا له راكعين ساجدين وفق المراسم البروتوكولية فى الدولة المملوكية . ولا يخجلون من جعل هذا إسلاما، وأنهم
( قُضاة الشرع الشريف ).! ونعطى أمثلة من نفاق القاضى ابن الصيرفى .
ثانيا : ابن الصيرفى منافقا للسلطان قايتباى
1 ذكر ابن الصيرفي ما حدث لمجاهدى ( ادكو ) المدينة الساحلية المصرية ، وقد هزموا مركباً افرنجياً واستولوا عليه وسلبهم الأمير قجماس حقوقهم، فجاءوا يستغيثون بالسلطان فاعتقلهم مع الأسرى الفرنجة وضربهم وأهانهم وحزن الناس من أجلهم، ولا يخفي الصيرفي حزنه من أجلهم ولكن لا ينسي مع ذلك الدفاع عن سيّده قايتباى فيقول: ( فما هان على غالب الناس ترسيم على أهل ادكو فإنهم مجاهدون صلحاء وصنعوا جميلاً غير أن مولانا السلطان نصره الله غُطّي عليه أمرهم.). ابن الصيرفى لا يذكر السبب الحقيقى وهو ان شجعان مدينة ادكو انتصروا على مركب الفرنجة فى الوقت الذى تقاعس فيه قائد المماليك هناك وهو الامير قجماس . وكان ممنوعا أن يحمل المصريون السلاح أو أن يباشروا القتال حتى لو كان دفاعا عن وطنهم لأنها مسئولية العسكر فقط. ولا جديد تحت شمس مصر العسكر .!
2 ولا يملّ مؤرخنا من ترديد نفس الحجة وهى أن السلطان لا يعلم، فهو يتحدث عن مظالم 875 وآثارها السيئة على الناس فيقول كما لو كان يتكلم عن حال الشعب المصرى الآن تحت حكم السيسى :( وأما الناس فصاروا ثلاث أثلاث، الغني افتقر والمكتسب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صال يطلب لُبابة... وأما غير ذلك فمن جهة: الظلم والجور والأحكام الباطلة وانتهاك حرمة الشرع وبهدلة القضاة والفقهاء وعدم نصره المظلوم، وفشا هذا الأمر وانتشر.).
ثم يسارع بتبرئة سيده قايتباى ، فيقول : ( وفي الواقع فسلطان مصر الملك الأشرف أبو النصر قايتباى نصره الله، سلطان عظيم شجاع ، فارس معدود من الفرسان، ديِّن عفيف الفرج.. وله ورد في الليل من صلاة وقيام.. ولو بلغه المقربون لحضرته ما يحصل على المظلومين.. لا نصف المظلومين من الظالمين.).
3 وذكرنا سجن الفلاحين ممن ( إنكسر عليهم مال للسلطان) على حد قول ابن الصيرفى ، فسجنهم في ذلك السجن البغيض، أى سجنهم لعجزهم عن دفع الضرائب والرشاوى التى يفرضها عليهم أعوان السلطان من الكاشف ومن هم دونه. .ولأنهم مظاليم فقد اشتكي بعضهم للسلطان أملا فى عدله وإقتناعا بوضوح قضيتهم ، فأمر قايتباى بسلخ أربعة منهم بحضور الباقين فسلخوا ، وأرسلوا إلى البلاد فاشهروا بها ( ليرتدع بها أمثالهم )، على حد قول مؤرخنا ابن الصيرفي الذى يعلق على هذه المأساة قائلاً عن السلطان " فنصره الله نصراً عزيزاً". أى يدعو له بالنصر.!
4 وسبق ما حدث للأمير يحيي بن عبد الرازق الاستادار ت 874 من تعذيب أفضى الى موته وهو فى الثمانين من العمر ، وذكر ابن الصيرفى تفاصيل مصادرته وتعذيبه حتى الموت ، ويقول معلقا مدافعا عن سيده قايتباى : ( أنه صودر تسع عشرة مرة ، وأحتاج حتى باع حوائج بيته وقماش خيوله بعد بيع أملاكه.. واستمر على ذلك إلى أن صادرة الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- عز نصره- أول مرة وثانية ، وهو معذور فيه ، فإنه يدعى فقراً..". أى يستحق هذا المسكين القتل بالتعذيب لأنه يزعم الفقر. ولا عذر له ، ولكن العذر كل العذر للسلطان الورع قايتباى .!!
5 الأمير قاسم إبن جانبك جىء به للسلطان ومعه تركة زوجته المتوفاة ، يقول ابن الصيرفى :
( فلما تمثلوا به بين يد السلطان- نصره الله- سأله عن التركة ، فأجاب جواباً نابياً خشناً ، فغضب وأمر بضربه بالمقارع، فتباطأوا في حل أزراره ، فرسم بشق أثوابه فشقوها ، وضرب مقارع ..، وسجن حتى يقوم للذخيرة ( أى لخزينة السلطان ) بما يرضى صاحبها".). إبن الصيرفى حين يذكر السلطان كان يدعو له بالنصر.!
ثالثا : الأمراء المتدينون على دين قايتباى فى الظلم والتدين
1 الأمير يحيي بن عبد الرازق الاستادار الذى مات تحت التعذيب عام 874 ، قال عنه ابن الصيرفى : ( أنّه عمّر الجوامع العظيمة .. وعمّر الحمامات الهائلة والدور المفتخرة العظيمة، وعمل معروفاً زائداً في الفضل من مغسل وأكفان ومواراة الميت برمسه من الحمّالين والحفّارين وغير ذلك، وصنع أيضاً صنيعاً جميلاً في الغلاء للفقراء من تفرقة خبز ودقيق وقمح لكل أحد بقدر ما يلائمه، وكان يحسن لذوى البيوت ويتفقدهم . ) وإلى هنا كلام جميل.. إلا أننا نقرأ أيضاً أنه : ( كان قد أخرب دور أمر المدركين والفلاحين والمباشرين، وقال عنه أبو المحاسن: وأما أفعاله في مباشرته فكانت بالضد أيضاً ، وهو أنه كان كثير الظلم والجور والعسف وأخذ الأموال الخبيثة ثم يعمّر من ذلك الجوامع والمساجد والأوقاف على البر ويرسل السحابة (الطائفة التى ترافق الحجّاج لرعايتهم ) إلى الحجّاج في كل سنة لأجل الفقراء والمساكين، فهذا أيضاً بالضد.).
2 وظيفة المحتسب كانت قصرا على الفقهاء فقام قايتباى بتعيين أحد الأمراء محتسبا ، ومؤهلاته أنه كان مشهورا بالتدين ن فقاسى منه أهل القاهرة الشدائد ، قال عنه ابن الصيرفى : ( وباشر يشبك المذكور الوظيفة المذكورة لم يكشف البلد بنفسه ولا مرة واحدة ، ولا يعرف أحوال الرعايا والمسلمين إلا من أعوانه الذين في خدمته، فصاروا أرباب أموال وأقمشة ودور وخيول وبغال وحمير، وهو ماسك البقرة يحلبها فإنه لا يتعاطي شيئاً.. وهذا في غاية الترفع أن يقف على سوقي أو وزّان أو بيّاع ويعتبر أوزانهم ، بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم ( أى الرشوة المقررة ) فيضربهم ثلاث علقات: واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى علي أكتاقه.. وأما أحكامه فبالبحت وأما أخلاقه ففي غاية الشراسة.. هذا مع دينه المتين ومحافظته على الصلاة والصيام.).. وفى يوم الثلاثاء 16 صفر 875 رفض بائع تين غلبان أن يدفع الرشوة لزبانية المحتسب فاحتملوه إلى ذلك الطاغية فضربه الثلاث علقات المعهودة ، وأشهره فى المدينة أى طيف به فى الطرقات، ثم صلبه على باب دكانه في هيئة فظيعة، يقول ابن الصيرفي : ( ضرب المحتسب شخصاً من السوقية يبيع التين ثلاث علقات واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وواحدة على أكتافه، وأشهره بالمدينة على عادته التى يفعلها عرياناً مكشوف الرأس ، ثم رسم بصلبه بذراعه على حانوته وقررت يده الأخرى إلى ظهره، ولطخه عسلاً ، وأوقفه في الشمس ، فتسلط عليه النحل والزنبور والذباب وقاسى من العقوبة مالاً يوصف".).!! فهل كان ذلك البائع المسكين سارقاً أو قاتلاً؟ بالطبع لا، فكل ما هنالك أنه لم يستطيع دفع الاتاوة ربما لأنه لا يملكها. يقول ابن الصيرفي يعلل تلك العقوبة الهائلة "وسبب ذلك أن رسله الذين هم من جهته .. كانوا إذا طلبوا البلص- أى الرشوة- من فقير وامتنع ، ذكروا لأستاذهم عنه ما أرادوا ، وهو سريع الحدّة سريع الغضب لا يثبت في الأحكام فيطلبه ويفعل به ما ذكر.). ويقول عن تدينه السطحى : (هذا مع دينه المتين ومحافظته على الصلاة والصيام) . .!
رابعا : تعذيب الفقهاء لاستنزاف أموالهم
تعرض للتعذيب أولئك الفقهاء فى وظائفهم الدينية كالقضاء أو وظائفهم الديوانية مثل النظارة والوزارة الاستادارية القضاة . كانوا يتسلطون على الناس بنفوذهم ينهبون الأموال ويأخذون الرشاوى والاتاوات بعلم السلطان ، وحين يوكل إليهم مصادرة زملائهم وغيرهم كانوا يسلبون لأنفسهم جزءا من الأموال المصادرة وينهبون بعض الأشياء العينية ويخفونها عن عيون السلطان، ولكن كان كل ذلك بعلم السلطان. لذا كان يلزمهم بأن يأخذ نصيبه بطرق متعددة ، منها أن يعزل الموظف ويعيده بعد أن يدفع رشوة للسلطان ، أو أن يعزله ويصادر أمواله ، أو أن يفرض عليه غرامة . وقد يستخدم التعذيب معه ليعترف بالمخبأ من أمواله . والعادة أن يصمد القاضى أو الموظف للتعذيب فلا يعترف بكل ما لديه لأن أمواله هى سبيله للنجاة إذ يستطيع بها فيما بعد شراء نفس المنصب أو منصب آخر وتعويض ما فات بنهب الناس . وهكذا دارت طاحون التعذيب تلتهم الظالمين ، وهم بدورهم يلتهمون الشعب المسكين ، وهم والسلطان يحافظون على تأدية صلاتهم الشيطانية . ونعطى أمثلة :
1 في يوم السبت 13 ربيع الأول 873 غضب السلطان قايتباى على قاضى قضاة دمشق ابن الصابوني وضربه بين يديه بقاعة الدهيشة بالقلعة، لأنه لم يدفع للسلطان المال الذى طلبه منه وهو مائة ألف دينار، ولم يزل يضربه حتى أذعن، فحملوه إلى الحبس ليدبر أمره في الدفع. في يوم الثلاثاء 14 ربيع الثاني 873 سافر القاضى ابن الصابوني إلى دمشق بعد عزله ومصادرته وحبسه بعد أن التزم للسلطان بدفع المائة ألف دينار، وسافر معه السيفي جانبك الخاصكي ليحرسه ويرافقه حتى يسدد ما التزم به.
2 وفي يوم السبت15 جمادى الثانية 873 أمر السلطان باعتقال ابن العينى بالبرج في القلعة بسبب ما تأخر عليه من المال وظل محبوساً بذلك البرج إلى يوم الأربعاء 19 جمادى الثانية ، ثم أطلقه السلطان بعد أن حمل المال، فأكرمه السلطان وألبسه التشريفة ورجع لداره مكرماً معظماً.!!
3 وفي شوال 876 تولى الحافظ القطب الخيضرى قضاء القضاه بدمشق وكتابه السر بها بعد أن قاسى أهوالاً من التعذيب، وقرر عليه السلطان ثلاثين ألف دينار، فدفع بعضها والتزم بدفع الباقى، وأعاده السلطان للولاية بعد ما فرضه عليه ، وأكرمه السلطان فأنزله ضيفاً في داره التى كان بها حين كان أميراً ، وزاره السلطان في تلك الدار فوجده نائماً فما أراد أيقاظه،، وحين استيقظ وعلم بزيارة السلطان إليه وهو نائم أرسل هدية للسلطان، فلم يقبلها السلطان وأخبر أنه ما حضر إلا ليزوره . وهكذا تغير حال السلطان معه من التعذيب إلى الإكرام والحنان ، بعد أن دفع له المال. وبعدها أرسل السلطان بالكشف على ثروة القطب الخيضري قاضى القضاة بدمشق وكاتب السر بها ومصادرة ما لديه، فلم يوجد لديه شيء . وعزموا على القبض عليه وإرساله للقلعة، ولكنه اختفي وحضر للقاهرة سراً، وكان من أمره أن قبض عليه السلطان ولاقي أهوالاً عاد بعدها لمنصبه مكرماً بعد أن دفع للسلطان ما أرضاه عنه .لا رضى الله عنه ولا رضى عن السلطان .!!
5 وقد سبق للسلطان في شهر رجب من نفس العام أن أصدر مرسوماً للشام بإعادة القاضى الحنفي إليها عوضاً عن القاضى الحلاوى المعزول عن القضاء وأمر بأن يدفع غرامة عشرة آلاف دينار فإن امتنع فلابد من إرساله مسجوناً للقلعة . فأذعن القاضى الحنفى .
-----
د. أحمد صبحي منصور
من علماء الازهر سابقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.