لا يستطيع أي إنسان أن ينكر دور المقال الصحفي وانعكاساته على الأفراد والمجتمعات والإنسانية ، لأنه عقل الصحافة ، والصحافة مدرسة الشعب ، ولأنه يكون وعي الناس ، ويشكل نفوسهم ، ولأنه يقوم بدور جميع الوظائف الصحفية ، ولان تأثيره لا يتوقف عند مجرد الانعكاس السريع أو الانطباع الحالي الذي يتركه في عقل ونفس وفكر وسلوك القارئ وتصرفاته المستقبلية ، ونظرا لإبعاده المستمرة ، والذي يزيد من درجة تأثيرها حاجة القارئ إلى أكثر من مجرد الخبر أو ما وراء الخبر في هذا الزمن الرديء المشحون بالقلق ، والرغبة في معرفة كل ما يطحن أحشاء القارئ العادي ، كما انه لا يستطيع أي إنسان أن ينكر دور كاتب المقال الصحفي الذي يفترض فيه أن لا يكون مجرد محرر صحفي فحسب ، وإنما مجموعة من المحررين ، أو مركب من مجموعة من المحررين ، وتتوفر فيه مجموعة من الخصائص والشروط التي لا تنطلق من فراغ ، ولا تعمل في فراغ ، لان تنوع المقال من يوم إلى يوم ، ومن أسلوب إلى أسلوب ، تتطلب أن يكون كاتبه مثقف ثقافة موسوعية ، حتى يستطيع تناول الموضوعات المختلفة ، وان يكون قريبا من الناس ، وعلى معرفة بكل ما يفكرون فيه ، وما يخافون منه ، وما يحرصون عليه ، وما يحلمون به ، وما يعملون له ، ولا يستطيع كاتب المقال أن يفعل ذلك كله إلا إذا كان على شاكلة الناس ، وقريب منهم ، وقادر على إلغاء المسافات التي تفصل بينه وبينهم ، بحيث يصبح صديق القارئ يخاطبه عن قرب بدون حدود أو سدود أو قيود ، ويصبح القارئ صديقه يفضي له بكل ما يجول في خاطره أو يجيش في نفسه دون تكلف أو تحفظ ، وهكذا تكون مقالات الكاتب بمثابة صالون على الورق أو صالون على صفحات الصحف الالكترونية ، يحضرها الناس من كل الأجناس والألوان ، والمواصفات والمستويات الاجتماعية والحضارية والثقافية ، ولكن وفي مقابل ذلك ، يجب على الكاتب أن يعلم أن حريته في الكتابة تقابلها مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية عما يكتب ، وعن كل ما يطرح من أفكار ، كما انه يجب أن تتوفر في الكاتب الحاسة الصحفية التي تجعله يتعايش مع الأمور حوله من منطلق صحفي ، وتدفعه إلى اختيار المادة التي تسد نقصا في حياة القراء السياسية والاجتماعية ، والحاسة لاجتماعية التي تفرض عليه أن يعيش مع كل المشاهد ، وجميع الصور في مجتمعه ومع الناس ، ويضع يده على الظواهر السائدة والاتجاهات القائمة والمطالب المأمولة والمشاكل الملحة ، والحاسة النقدية التي تحول المعايشة الاجتماعية إلى مواقف اجتماعية صحيحة تمليها روح نقدية ترى الأمور على حقيقتها وبدون خداع أو كذب أو تزييف أو انحراف أو تحريف أو تلوين ، والحاسة التاريخية التي تمكنه من وضع يده على أحداث التاريخ المشابهة للموقف الذي يتناوله ، وربط الحاضر بالماضي ، وإعادة تصوير مشاهد الماضي بمنظور الحاضر ، وتفسير الأحداث التاريخية بعودتها إلى منابعها الحقيقية ، وأصولها التاريخية ، أو بمقارنتها بأحداث مشابهه جرت في الماضي ، حتى يتمكن من وضع الحلول المناسبة ، واستشراف المستقبل ، والحاسة السياسية التي تمكنه من فهم التيارات السياسية الموجودة فوق السطح أو تحت السطح ، ومعرفة سياسة البلدان الأخرى ، والفلسفة التي تقوم عليها ، وما يدور في أذهان زعمائها ، وبالشكل الذي يوفر له المقدرة على التعمق والتوغل في هذه الدروب ، ويساعده في مجالات التفسير والتحليل ، والمقارنة وتوقع النتائج الهامة المتصلة بسياسة بلده وسياسة البلدان الأخرى ، وأخيرا الحاسة التحريرية التي تربط كل الخيوط المختلفة للحواس السابقة ، وتلبسها ثوبها الذي تبدوا عليه أمام القراء ، وألان وبعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها ، وبعد أن وصلت في تفكيري إلى هذا الحد أرجو أن اطرح السؤال التالي أين ألمقال الصحفي الفلسطيني ؟ وأين كاتب المقال الصحفي الفلسطيني ؟ المقال الصحفي الذي يعود بالصراع إلى بداياته الأولى ، ومنابعه الأولى ، وأصوله التاريخية الأولى ، وأين كاتب المقال الصحفي الذي يمتلك الحواس التي يفترض أن تتوفر في كاتب المقال الصحفي ، الحاسة الصحفية التي تعني القدرة على التوصل إلى الأفكار الجديدة ، وتدفعه إلى حسن اختيار المادة التي تسد نقصا في حياة الإنسان الفلسطيني السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، والحاسة الاجتماعية التي تدفع الكاتب إلى أن يضع يده انطلاقا من فهم كامل على مشاكل شعبه الاجتماعية ، والحاسة النقدية التي تحول المعايشة الاجتماعية إلى مواقف ايجابية ، والحاسة التاريخية التي تمكنه من إعادة قراءة التاريخ قراءة موضوعية ونقدية بعيدا عن اى قراءة انتقائية أو مغرضة ، والحاسة السياسية التي تفرض على الكاتب أن لا يهرب من الواقع السياسي أو ينفصل عنه بطريقة من الطرق ، وان يجد في كل موضوع يتناوله جانبا من الجوانب السياسية بشكل من الأشكال داخلية أو خارجية ، ابتداء من رغيف الخبز ، ودفتر الطالب ، وحليب الطفل ، ومرورا برواتب الموظفين ، والبطالة ، ونقص الغذاء والدواء ، والمعابر ، والاستيطان ، والمياه إلى اللاجئين وتحرير الوطن ، بالإضافة إلى الاهتمام بالتاريخ الوطني ، والتراث الوطني ، والقفز فوق حدود الحاجز الزمني إلى الماضي الذي لا يجب أن نهرب منه ، لأنه شاهد إثبات على فشلنا في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني ، لان الاعتراف بالفشل بداية الطريق إلى النجاح ، ولان الفشل هو مجموع التجارب التي تسبق النجاح ، لذلك تكون كل تجاربنا السابقة في الثورات والانتفاضات ، والسياسات والإدارة ، والعلاقات الوطنية والقومية والإقليمية والدولية تجارب فاشلة ، وأقوى دليل على ذالك الحالة التي وصلنا لها بعد أكثر من مائة عام من التضحيات ، ولذلك وبعيدا عن الشعارات ، لان القيادة التي تقود شعبها بالشعارات تقتل شعبها ، وبعيدا عن المؤتمرات لان المؤتمرات مقبرة المشاريع ، وبعيدا عن المصطلحات لان المصطلحات تخدر الشعوب ، وبعيدا عن البرغماتية الذرائعية لأنها تبرر الفشل ، لابد من وقفة موضوعية مع النفس ، ولا بد من محاسبة النفس ، لأننا كنا دائما مستعدين للركض خلف كل من يحمل الراية دون النظر إلى فكر وسلوك من يحمل الراية ، ولأننا كنا دائما نستسهل أن نلقي تبعية ما يحل بنا من نكبات على الآخرين دون أن نعترف بمسؤوليتنا عن فشلنا في مواجهة سياسة الآخرين ، ولأننا تحولنا من شعب يصنع أفكاره في عقله إلى شعب يصنع أفكاره في بطنه ، ولأننا بالبلدي وبالعربي وبكل اللغات شعب تعود أن يرش على الموت سكر، لأننا وبعد كل فشل كنا نحتفل بالنجاح ، وبعد كل هزيمة كنا نحتفل بالنصر ، هزمنا في أيلول في 1970 واحتفلنا بالنصر، وهزمنا في جرش في عام 1971 واحتفلنا بالنصر ، وهزمنا في عملية الليطاني في جنوبلبنان في عام 1978 واحتفلنا بالنصر ، وهزمنا في بيروت في عام 1982 واحتفلنا بالنصر ، وهزمنا في طرابلس في عام 1983واحتفلنا بالنصر ، واعترفنا بحق إسرائيل في الوجود على 78% من مساحة فلسطين في عام 1993 واحتفلنا بالنصر، وفرضت علينا اتفاقية أوسلو كشروط واجبة التنفيذ يسلمها الغالب للمغلوب في عام 1993 واحتفلنا بالنصر ، وشطبنا ميثاق منظمة التحرير لعيون كلينتون و هيلاري كلينتون في عام 1996 واحتفلنا بالنصر ، وهزمنا في جنين وبيت لحم ونابلس وغزة واحتفلنا بالنصر ، وقلتنا أنفسنا بأنفسنا في حرب أهلية قذرة واحتفلنا بالنصر ، ووقعنا اتفاق مكة في عام 2007 واحتفلنا بالنصر ، وشكلنا حكومة وحدة وطنية بلا سيادة وطنية في عام 2007 واحتفلنا بالنصر ، وما زلنا مستعدين للاحتفال بكل الانتصارات القادمة في كندا أو استراليا أو السويد أو النرويج ما دامت فينا هذه القيادة التاريخية التي حققت لنا كل تلك الانتصارات ، وما دامت فينا كل هذه النخب الإعلامية التي ما زالت مستعدة للرقص على كل لحن ، وأخيرا لا بد من سؤال أخير . هل كانت تلك انتصارات حقا ؟ وهل تستحق أن نحتفل بها ، أم كانت هزائم تستحق أن ينظم الشعب الفلسطيني في كل مدن وقري ومخيمات الوطن المحتل والشتات اكبر تجمع في العالم للبكاء ولطم الخدود ، أجيبوني ثم نادوا بعد ذلك بحياتي وعاري .