الدكتور / رمضان حسين الشيخ في ذات يوم قرأت مقالة بعنوان: كيف أكون سعيداً في عملي؟ في الحقيقة وجدتها فرصة لقراءة رأي من الداخل حيث يشير كاتب هذا المقال إلى عنصر التكرار الذي يقود الموظفين إلى الضجر والكسل وإلقاء اللوم على قائد العمل أو المنشأة، ويتأخرون في الذهاب للعمل ولا يشاركون في الأنشطة والفعاليات. وبعد اتهام التكرار أو الروتين بالتسبب في الملل إلى حد الاستقالة، يقترح هذا الكاتب ألا ينتظر الموظف التغيير من الآخرين بل يبدأ بنفسه، ثم يقدم له بعض النصائح لإيجاد بيئة عمل سعيدة يبدأها بالنوم المبكر ثم ينصح أن يعمل الموظف شيئا يحبه يوميا، ويهتم بمظهره، ويصاحب النشطاء ومحبي التغيير، وممارسة الرياضة، والقابلية للتطوير، ومساعدة الزملاء وزرع المحبة بينهم. تلك نصائح جيدة ومؤثرة في الصحة النفسية وخاصة النوم المبكر وهو من أسرار النجاح وتوليد الأفكار والمبادرات، ورغم التأثير الإيجابي للنوم المبكر أو النوم الكافي إلا أن هناك من يجد صعوبة في الالتزام بذلك، والأسوأ أن يعتقد أن الحضور للعمل رغم قلة النوم هو دليل على الإخلاص والانضباط. ومجتمعنا أحد المجتمعات التي يلاحظ فيها ظاهرة النوم المتأخر وكذلك العشاء المتأخر، وهي عادة تؤثر بلا شك تأثيرا سلبيا على الأداء في العمل. هل المتوقع من إنسان يأتي إلى العمل متأخرا، وآثار السهر بادية عليه جسدياً ونفسياً أن يكون سعيداً في عمله؟ ولو كان سعيداً في عمله، أليس من المنطق أن يأتي إلى العمل مبكراً وهو في أحسن حال؟ وإذا لم يكن سعيداً فكيف سيساهم في توفير بيئة عمل سعيدة؟ ولعلنا بعد ما تقدم نتساءل عن مفهوم السعادة في العمل. هل هي في المردود المالي أم في العلاقات الإنسانية أم في التناغم بين قيم الفرد والمنظمة، أم تحقيق الذات، أم في المركز الإداري والصلاحيات، أم عدم وجود مشكلات، أم في وجود بيئة عمل يسودها النظام والعدل والتقدير والتفكير الإيجابي، أم ماذا؟ بشكل عام لا يوجد بيئة عمل بلا مشاكل، ولذلك كان أحد تعريفات السعادة أنها ليست غياب المشاكل بل القدرة على التعامل معها. تروي لنا مؤلفة كتاب (كيف تكون سعيدا في عملك) السيدة (آني ما كي) قصة شركة أميركية للنظارات الشمسية تتواجد أكشاكها الصغيرة في الأسواق والمطارات، هذه الشركة صمدت وحلقت خلال فترة الركود الاقتصادي، بحثت المؤلفة عن السبب فوجدت الإجابة تكمن في ثقافة الشركة، فما هي أبرز ملامح هذه الثقافة؟ زارت المؤلفة محلات الشركة فوجدت بيئة عمل حيوية ريادية، الموظفون يعاملون العملاء وكأنهم ضيوف في بيوت أصدقائهم، هدفهم مغادرة العملاء للمحل وهم يبتسمون. كما لا حظت أن العلاقة بين الموظفين علاقة رائعة بصرف النظر عن المستوى الوظيفي، لا يهم إن كنت مديرا أو رئيس قسم أو سكرتيرا، مهما كان دورك ومستوى مسؤولياتك تستطيع المشاركة في أي محادثة تخص العمل وتعبر عن رأيك. يضاف إلى ذلك الدعم المتبادل بين الأفراد، وتعزيز العلاقة والروح المعنوية بعنصر التسلية الذي لا يؤثر على جدية العمل. كما تتسم هذه البيئة باحترام التنوع الثقافي، والقيام بكل ما هو ممكن لجعل العمل شيئا ممتعا، ويحقق الأهداف المشتركة، حقاً هذه البيئة باختصار عنوانها الثقة والدعم والصداقة. عزيزي القارئ الكريم، سأروي لك قصة واقعية لتتأملوا معي المقال عن خبرة عملية.. قبل ثلاثة سنوات تقريباً، قدم صديقي وزميل العمل الأخ / فيصل مدير الشؤون الادارية استقالته في الشركة التي كنا نعمل بها انذاك لكي يتفرغ لمشروعه الخاص "شركة تخليص معاملات" المتخصصة في انهاء جميع المعاملات الحكومية لأصحاب المؤسسات، وقد كان الأخ / فيصل من أفضل أعضاء فريق العمل معنا وساهم بشكل كبير في إحداث نقلة نوعية في وضع الشركة. وعلى الرغم من أنني حاولت كثيراً أن أبقي فيصل معنا في الشركة إلا أنه كان قد عزم على الاستجابة لنداء الشغف وقرر هو وشريكة البدأ في مشروعهما الخاص الذي أتمنى لهما النجاح فيه بإذن الله. بصراحة، ليس لدي أدنى شك أن فيصل سيتوفق في مشروعه، فهو شخص أمين وصريح ولديه خبره مميزة حيث أنه خلال سنوات خبرته الطويلة . قرر الاخ / فيصل استضافة فريق العمل في شركتنا في مكتبه الجديد وقدم لنا وجبة عشاء بحرية لذيذة وبالغ في الكرم والضيافة والترحيب بنا جميعاً. بعد العشاء قام فيصل بشكرنا على زيارته وقبول دعوته وطلب مني بعد ذلك أن ألقي كلمة. بصراحة، لم أجد موضوع أتحدث عنه في هذه المناسبة أفضل من موضوع السعادة في العمل والبحث عن الشغف، فعلامات السعادة والاستمتاع في عيون فيصل وهو يؤسس مشروعه كانت واضحة ومختلفة تماماً عن وضعه وهو يعمل معنا. وقد يستغرب البعض عن اختياري لمثل هذا الموضوع خصوصاً أن معظم الموجودين في هذه المناسبة هم أعضاء فريق عمل الشركة التي نعمل بها، فكيف لي أن أشجعهم على شيء قد يسبب خروجهم من الشركة؟ تحدثت عن أهمية البحث عن الشغف والبحث عن العمل الذي يجد فيه الشخص المتعة الحقيقية حتى لو كان هذا العمل بعيداً عن مجال دراسته أو تخصصه، ونصحت الجميع بالبحث عن الشغف بعناية لأن هذا الأمر بالفعل يستحق العناء والاجتهاد، فعندما تجد ما تحبه يصبح العمل جزء ممتع من حياتي وليس عبء تقوم به لغرض الحصول على الاموال التي تحتاجها لتغطية تكاليف حياتك. واستخدمت تجربة الاخ/ فيصل كمثال لشخص عمل في شركة كان سعيداً فيها، لكن طبيعة عمله في الشركة لم تكن من النوع الذي يحبه، فهو يحب أن يعمل في علاقات العملاء يساعد الشركات في انهاء اعمالهم وليس كاداري داخل شركة، وكيف استطاع بشكل تدريجي أن ينتقل من شركة يحبها وعمل لا يحبه إلى شركة يحبها وعمل يحبه. لهذا قررت أن اعرض عليكم هذه المصفوفة لتوضيح هذا المفهوم في هذه المقالة لعله يساعد البعض في إتخاذ مثل هذا القرار: القرار السهل: عندما تعمل في شركة تعاملك بشكل سيء سوءاً من حيث تعامل الإدارة والزملاء، وفي نفس الوقت تجد أن العمل نفسه ممل ومزعج ولا تجد فيه أي متعة فأنصحك بتغيير عملك مباشرة دون التفكير في أي شيء، حتى لو أضطررت الإنتقال إلى شركة أخرى براتب أقل. وعندما تعمل في شركة تعاملك بشكل ممتاز وتشعر فيها بالراحة النفسية، وفي نفس الوقت تجد المتعة في عملك وتشعر بأنك منهمك بشغف في عملك فأعلم أنك محظوظ جداً وحاول أن لا تترك هذه الشركة في أي حال من الأحوال، حتى لو وجدت عرض عمل آخر براتب أكبر بكثير من راتبك الحالي، فأنصحك بشدة أن تتمسك بعملك الحالي. طبعاً، البعض قد يركز بشكل كبير على الجانب المادي في الحالتين السابقتين على الجانب المادي أو على المسمى الوظيفي مستشهداً بأهمية المادة والوضع الاجتماعي والاقتصادي، ولكني أجزم وعن واقع خبرة أن وجودك في المكان المناسب وبالعمل المناسب هو الأهم، وأن الجانب المادي يتحسن بناءاً على تحسن أداءك، وأن تحسن أدائك أصلاً مربوط بشكل مباشرة بشعورك بالراحة والارتباط نحو شركتك وعملك معاً. القرار الأصعب: صعوبة القرار تكمن في توفر عامل واحد فقط في عملك وغياب العامل الآخر، وهناك عليك ترجيح عدة عوامل ولكن في النهاية عليك أن تطمح للأفضل وأن لا تتنازل عن هدفك الأساسي وهو أن تعمل ما تحبه في الشركة التي تناسبك. فإذا كنت تعمل في شركة ممتازة ولكن طبيعة العمل غير مناسبة لك، فحاول أولاً أن تنتقل إلى العمل الذي تحبه داخل نفس الشركة ولو اضطررت للنزول في السلم الوظيفي أو في مستوى الدخل، وإن لم تجد فرصة في تغيير العمل داخل الشركة فحافظ على وظيفتك الحالية وفي نفس الوقت ابحث عن شركة أخرى يتوفر فيها العمل الذي يناسبك، وحذاري من الإنتقال من شركتك الحالية لشركة أخرى فيها عمل غير الذي تطمح له لمجرد تحسين وضعك المادي، بل ركز كل جهدك على الإنتقال إلى شركة أخرى فيها العمل الذي تطمح له. إما إذا كنت تعمل في شركة تعاملك بشكل سيئ ومزعج ولكن العمل نفسه ممتع، فهذا هو أصعب موقف من وجهة نظري، فإذا كان الجانب المادي هنا ممتاز والعمل ممتاز لكن الشركة سيئة سيكون قرارك صعب جداً، وقد تضطر لقبول الأمر الواقع والتعايش معه مع البحث عن شركة أخرى تتوفر فيها جميع العوامل. أما إذا كان الجانب المادي سيء وتعامل الشركة سيئة لكن العمل نفسه ممتع، فربما تكون لديك فرص أكبر للإنتقال إلى شركة أخرى. في هذا الوضع يصعب علي توفير نصيحة واضحة، لكن القرار هنا هو الأصعب فعلاً. السؤال: هل تلك البيئة كما وصفناها ستنتج غير السعادة في العمل؟ وهل سينتج عن ذلك غير النجاح؟ تلك البيئة ليست الوحيدة، هناك مثلها الكثير في مجتمعنا والمجتمعات الأخرى ولكن الكسل البحثي يعوقنا عن الوصل إليها والتعريف بها كتجارب إدارية يستفاد منها في منظمات العمل وفي الجامعات ومراكز التدريب. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي مصمم منهج فرسان التميز لتغيير فكر قادة المؤسسات [email protected]