نقابة المحامين تتكفل برسوم إعادة قيد القضايا المشطوبة وتدعو الأعضاء للتواصل العاجل    كفاية إنكار.. "أديب" يطالب الحكومة بالكشف عن حقيقة "البنزين المغشوش"    انقطاع المياه عن قرى مركز الخانكة لمدة 7 ساعات اليوم.. تعرف على السبب    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    أخبار الاقتصاد اليوم، 560 جنيها تراجعا في سعر جنيه الذهب , أسهم 5 قطاعات تتصدر قائمة الأكثر قيم تداول خلال جلسة نهاية الأسبوع، وخبير: الحكومة حظها وحش والتوترات الجيوسياسية تخنق الاقتصاد    أمريكا تحذر من هجوم جوي كبير على أوكرانيا وتطالب مواطنيها بالاحتماء في الملاجئ    وزير سعودي يزور باكستان والهند لوقف التصعيد بينهما    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. صاروخ يمنى يرعب إسرائيل.. العقارب تجتاح مدن برازيلية.. ميتا تحجب صفحة إسلامية كبرى فى الهند.. وترامب يتراجع فى حربه التجارية مع الصين    فلسطين تتابع بقلق التطورات الخطيرة بين باكستان والهند وتدعو لضبط النفس    طيران "إير أوروبا" تلغى رحلاتها إلى تل أبيب غدا الأحد    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    4 مواجهات نارية في ربع نهائي أمم إفريقيا للشباب    «بنسبة 90%».. إبراهيم فايق يكشف مدرب الأهلي الجديد    مصر في المجموعة الرابعة بكأس أمم أفريقيا لكرة السلة 2025    رايو فايكانو يعمق جراح لاس بالماس في الدوري الإسباني    نابولي يتحرك لضم نجم ليفربول    كشف غموض واقعة سقوط ربة منزل من الطابق الخامس فى العبور.. هذا هو القاتل؟    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    زوج يلقي بزوجته من الطابق الخامس أمام طفليهما في العبور    مصرع شخصين فى حادث تصادم دراجة بخارية بسيارة نقل بطريق "بورسعيد- الإسماعيلية"    نجل محمود عبد العزيز: اسم بوسي شلبي لم يرد في إعلام الوراثة.. وخسرت كل درجات التقاضي    عماد الدين حسين: زيارة الرئيس السيسى لروسيا مهمة تكشف عمق العلاقات بين البلدين    التربية متعددة الثقافات كخيار استراتيجي في عالم متغير    كاظم الساهر يحيي حفلين في مهرجان «إهدنيات» في لبنان مطلع أغسطس    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    الصحة: نسعى لاعتماد كافة المراكز والوحدات الصحية بالقاهرة طبقا لاشتراطات GAHAR    «الخسارة غير مقبولة».. طارق مصطفى يعلق على فوز البنك الأهلي أمام بيراميدز    فخري الفقي: تسهيلات ضريبية تخلق نظامًا متكاملًا يدعم الاقتصاد الرسمي ويحفز الاستثمار    الجيش الباكستاني: صواريخ باليستية هندية سقطت داخل الأراضي الهندية    الرئيس الفلسطيني: أولويتنا وقف العدوان على غزة وانسحاب إسرائيلي كامل    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    اليوم.. أولى جلسات محاكمة عاطلين أمام محكمة القاهرة    محاكمة 9 متهمين في قضية «ولاية داعش الدلتا»| اليوم    إصابة 8 عمال إثر تصادم ميكروباص بسيارة ربع نقل بالمنيا    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية بالبنك المركزي المصري    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 10 مايو 2025    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم السبت 10 مايو في الصاغة (تفاصيل)    الفنانة السورية سوزان نجم الدين تكشف أسرار إقامتها في منزل محمود عبدالعزيز    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    مايان السيد تتصدر التريند بعد كشفها قصة حب هندية قصيرة وأسرار فيلم 'نجوم الساحل    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في لاعب الزمالك ويحمله مسؤولية الأهداف الأخيرة    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    إنقاذ حالة ولادة نادرة بمستشفى أشمون العام    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    تكريم رئيس هيئة قضايا الدولة في احتفالية كبرى ب جامعة القاهرة    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    «المستشفيات التعليمية» تنظم برنامجًا تدريبيًّا حول معايير الجودة للجراحة والتخدير بالتعاون مع «جهار»    عقب أدائه صلاة الجمعة... محافظ بني سويف يتابع إصلاح تسريب بشبكة المياه بميدان المديرية    رئيس جامعة الإسكندرية يستقبل وفد المجلس القومي للمرأة (صور)    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصندوق الأسود
نشر في شباب مصر يوم 10 - 01 - 2012

ارتديت ملابسي الكاملة وجواربي وقفازي الأسودين وحملت مظلتي وأعتمرت قبعتي السوداء الأنيقة وحملت الصندوق اللعين في يدي ووضعته في كيس بلاستيك محكم الإغلاق ..
اتجهت نحو محطة القطار وجلست على الرصيف الثالث على اليمين ؛ كما أوصتني جدتي ؛ في مقابل الرصيف الذي يستقر عنده القطار القادم من الشمال .. وبقيت في مكاني ثلاث ساعات كاملة وكنت خلال هذه الساعات الطويلة أحرص على إخفاء الصندوق الأسود جيداً تحت معطفي الواسع الضخم الذي أرتديته خصيصاً لهذا الغرض .. كنت جالساً متوتر الأعصاب منتظراً فراغي من هذه المهمة الكريهة التي قمت بها سبع مرات من قبل .. وفي كل مرة كانت تنتهي بالفشل الذريع !
" لن يأتي أحد يا جدتي .. لا أحد يريد هذا الصندوق اللعين المشئوم .. استريحي وتخلصي منه في أقرب صندوق قمامة ! "
قلت لجدتي فغضبت مني على الفور .. علا وجهها قتام مفاجئ ثم أشاحت بوجهها عني وقالت لي في ضيق وهي توشك على البكاء :
" عذراً يا ماني .. لوكنت أقدر على الحركة لذهبت بنفسي لتسليمه لأصحابه ولكفيتك هذه المئونة يا ولدي العزيز ! "
أزعجتني نبرة الضعف والانكسار في صوت جدتي العزيزة ؛ التي لم يتبق لي أحد في الدنيا سواها ؛ فعزمت على الذهاب لتسليم الصندوق ولو ألف مرة .. لأجل إرضاء أعز مخلوقة عندي !
************
ظللت جالساً على الرصيف البارد عدة ساعات وجاء قطار الشمال وأفرغ ركابه وغادروا جميعاً المحطة دون أن يقترب أحد منهم مني أو يأتي مطالباً بتسليم الصندوق .. ولكنني بقيت جالساً حتى أحسست أن أوصالى قد تجمدت .. وزاد الأمر سوءً سقوط الأمطار المفاجيء .. فأسرعت مغادراً مكاني وهرعت ؛ حاملاً الصندوق تحت ردائي ؛ إلى خارج المحطة وأنا أحاول جذب المعطف لأحمي وجهي ورقبتي من الأمطار التي تهطل بغزارة غير معتادة في هذا الفصل من العام .. وجريت عبر الشوارع الزلقة حتى وصلت إلى البيت في حالة من الإعياء والإرهاق لا توصف .. ولكني لم أجد الراحة أو العزاء عند وصولي إلى البيت .. بل كان في انتظاري خبر نزل على كالصاعقة المدمرة .. فمديرة البيت استقبلتني على عتبة الباب لتخبرني ؛ بوجهها البارد السمج الخالى من أي تعبير ؛ بأن جدتي قد توفيت !
************
رقدت لمدة أسبوعين في البيت مريضاً بحمى شديدة .. ولم أعرف ما إذا كان جلوسي على المقعد البارد ثلاث ساعات هو سبب مرضي .. أم هو حزني المبالغ فيه على جدتي العزيزة .. أذكر أنني كنت أسير وسط الجنازة كالمنوم مغناطيسياً .. ولا أكاد أشعر بشيء مما يدور حولي حتى جاءت لحظة وضع النعش في باطن الأرض .. عندئذ انتابتني إفاقة مفاجئة فوجدت نفسي مستنداً على كتف " إيزابيلا " ؛ مديرة البيت اللعينة ؛ التي كان وجهها محتفظاً بسماجته وبروده حتى في هذه اللحظات المؤثرة التي تذيب قلب الحجر .. أنتزعت نفسي منها وأسرعت نحو التابوت قبل أن يغيب في باطن الأرض وأرتميت فوقه مولولاً صارخاً .. في الحقيقة لم يكن ارتمائي على التابوت بغرض الولولة أصلاً بل لقد كنت أسرع لأسأل جدتي عما يجب أن أفعله بصندوقها اللعين .. وخيل إلى مرضي وهذياني أنها ستسمع سؤالى وستجيب على .. وهي في قلب التابوت !
************
الآن؛ وبعد مرور شهرين على وفاة جدتي ؛ أستعدت كامل صحتي وقدرتي على التفكير وعقلانيتي .. وكان أول ما تنبهت إليه أن الصندوق الأسود الآن قد صار ملكاً لي وليس لجدتي التي رحلت إلى العالم الآخر !
ولكن ماذا أفعل به .. هل أحتفظ به ؟! هذا آخر شيء يمكن أن يخطر على بالى .. أولاً لأنه ليس ؛ في الحقيقة ؛ ملكاً لي ولا لجدتي ولا لأي أحد من أفراد عائلتنا .. وإن كنا قد توارثناه على مدى 200 عام .. فقد كان ذلك على سبيل الأمانة المؤقتة وليس على سبيل الملكية الدائمة !
ولقد كنا والحق يقال أمناء على الأمانة .. فقد حاولنا ؛ جيلاً بعد جيل ؛ إعادته إلى أصحابه الأصليين .. ابتدأ من جدي الأكبر الذي طاف به شمال أوروبا كلها محاولاً العثور على أصحابه ورده إليهم .. إنتهاء بجدتي المباشرة التي كرست ستين سنة من عمرها لمحاولات إعادة الصندوق لورثته الشرعيين ..
ولكي أدلل لك على مدى أمانة عائلتي وجدارتها بالثقة التي وضعت فيها .. يكفي أن أؤكد لك أنه على مدى مائتي عام وهي مدة احتفاظنا بالصندوق ؛ بل الحقيقة أنها مائتين وست سنوات وسبعة أشهر وخمسة أيام ؛ لم يفكر أحد من أسلافي في فتح الصندوق أو التطلع لما قد يكون بداخله .. أنني شخصياً لا أعرف ماذا بداخل هذا الصندوق .. ولا حتى جدتي كانت تعرف ذلك !
والآن ماذا أفعل حقاً ؟!
يمكنني أن أريح رأسي وألقي هذا الصندوق في أي مكان ناء وأنسي وجوده نهائياً !
ولكن هل أستطيع حقاً أن أفعل ذلك ؟! إن هذا سيكون خيانة لذكرى جدتي المصونة ولوعدي الذي قطعته على نفسي أمامها ؛ منذ أن بلغت مبلغ الرجال وأفضت إلى بسر الصندوق الأسود وجعلتني أعدها بشرفي أن أحاول إعادة الصندوق لأصحابه الحقيقيين مهما حدث ومهما باءت محاولاتي بالفشل ! ولكن من هم أصحاب الصندوق الأصليين ؟!
ذلك سر لم يعرفه أحد .. فكل ما سُمح لنا بمعرفته أنهم سيأتون ذات يوم من الشمال ليحملوا الصندوق سالماً ثم سيعودون من حيث أتوا .. بعد أن يكافئوا حامل سرهم وأمانتهم مكافئة مجزية !
من ناحيتي لم أكن مهتماً بالمكافئة المجزية قدر ما كنت مهتماً بالتخلص من هذا العبء .. من هذا الكابوس الذي يجثم على أنفاسي !
************
بعد ثلاثة أيام تلقيت مكالمة من صديقي " داون " ؛ الذي يسكن في ( ناشفيل ) .. لم تكن المكالمة في حد ذاتها مهمة ولكن المهم فيها هي المعلومة الجديدة التي عرفتها عرضاً وبالصدفة من " داون " والتي يمكن أن تساعدني في الاهتداء إلى أصحاب الصندوق ورده إليهم في وقت أسرع مما تخيلت .. قال لي صديقي غير العزيز وصوته يجلجل عبر الأسلاك وكأنه يحادث شخصاً في القمر :
" أتعرف يا ماني الأسبوع الماضي سمعت حكاية لطيفة من عمي الأكبر .. عمي موريس أنت تعرفه .. إنه مخبول كما تعرف ومغفل ما في ذلك شك .. ولكن لديه مخزون هائل من الحكايات الطريفة والغريبة .. أنظر ماذا قال لي .. لقد أخبرني أنه هناك صندوق أسود يحمل وثائق خطيرة تمس تاريخ الأمة الإنجليزية بأسرها ويمكن أن تؤدي إلى شنق أكبر الأفراد سناً من نصف العائلات الأرستقراطية في أوروبا .. ها ها .. هل تصدق ذلك .. وأيضاً قال لي أن هذا الصندوق كان موجوداً في قلعة ( مونت سيني ) عندما تم سرقته منذ أكثر من مائة عام .. لا بل مائتي عام أو تزيد .. ويقال أن هذا الصندوق اختفي تماماً ولا يعرف أحد مكانه حالياً ولكن يقال أيضاً أن عائلة " هاوستر" في يورك تجد في طلبه حتى الآن .. ويقال أيضاً أن الشخص الذي سيقوم بإعادته إليهم سوف يحصل على نصف ممتلكات العائلة كمكافأة .. أنظر لهذا الخبل يا عزيزي !! "
ولم يخطر على بال دوان أنه بهذه الثرثرة سيساعدني في التخلص من عبء ثقيل .. جثم على صدري وصدر عائلتي لأكثر من مائتي عام !
************
في اليوم التالى مباشرة كنت في محطة قطار ( يورك ) ، وصلت إلى المحطة دائخاً مهزوزاً بسبب إصابتي بالتهاب مزمن في جيوبي الأنفية لازمني منذ صباي .. وبمجرد أن خطوت خارج مبني المحطة حتى وجدت أمامي صفاً من سيارات الأجرة العتيقة .. فألقيت بنفسي في أول واحدة وجدتها أمامي .. وغصت في المقعد الخلفي بعد أن سألت السائق عما إذا كان يعرف عنوان عائلة تدعى عائلة ( هاوستر ) .. كان السائق عجوزاً مغضناً وله شارب كث مخيف لم أرى في حياتي أكبر منه .. ولكنه اومأ برأسه بشكل طمأنني إلى أنني في طريقي أخيراً للتخلص من هذا العبء .. من هذا الورم السرطاني الذي أقض مضجعي ومضجع آبائي أحقاباً طويلة ..
سارت السيارة بأقصى سرعتها قاطعة شوارع ( يورك ) الواسعة المستقيمة النظيفة المظللة بشجيرات الدلب المخططة الجميلة ..
وأخيراً... وبعد أكثر من نصف ساعة ؛ وصلت بي سيارة الأجرة إلى شارع جميل مليء بالمنازل والفيلات الصغيرة التي تحيط بها حدائق منسقة غاصة بالفل والياسمين الأبيض بينما الجاكاراندا بزهورها الزرقاء الناصعة تزين الأسوار الشجرية .. هبطت من السيارة ونقدت السائق أجراً محترماً يزيد عما قرره العداد بعشرة جنيهات فأبتسم لي بشاربه الكث وأشار إلى مدخل الفيلا التي أنزلني أمامها وقال لي بطريقة مرحة :
" هذا منزل آل هاوستر أرجوا أن تحذر في تعاملك معهم .. فهم مجانين بالسليقة .. جدهم الذي توفي منذ عامين كان يسلخ القطط ويعلقها في الحديقة على الأشجار ليرعب الزوار في الحفلات ! "
************
دققت الباب حتى كلت يدي دون أن يجيب أحد على الجرس .. كدت أيأس وأكر عائداً من حيث أتيت .. ولكنني واصلت دق الجرس مصبراً نفسي بأنني وقد أعطاني الله الصبر على هذه المصيبة طوال تلك السنوات الطويلة فلا أقل من أن أصبر لبضع دقائق أخرى .. وتحاملت على نفسي وعدت لدق الجرس وفي هذه المرة أنفتح الباب أخيراً !
ظهرت أمامي على عتبة الباب امرأة عجوز ذات وجه أبيض كالطباشير وشعر أبيض لامع مصفف بعناية بينما تنم نظراتها عن شر وقسوة وكثير من السادية والعنف ..
روعت لمنظرها وعجزت عن النطق للحظة .. وعندما فتح الله على ووجدت صوتي أخيراً مضيت أتلعثم غير قادر على تجميع العبارات والكلمات المناسبة وغرقت في العرق البارد بينما كانت المرأة تحدجني بنظراتها الشريرة الخبيثة بشكل زاد من توتري وقلقي .. وحقاً ماذا سأقول لهم !؟ كيف سأقدم نفسي لهم ؟!
هل أقول ببساطة وأنا أرسم ابتسامة على وجهي :
" هاللو.. أنا ماني تومسون جارد لدي صندوق لعين أنتقل إلى من أجدادي على مدار مائتي عام ولا أعرف ماذا يوجد بداخله .. وقد سمعت أنكم تريدونه وتبحثون عنه فأحضرته إليكم .. ها هوذا .. تفضلوا "
والغريب أنني طوال الطريق إلى ( يورك ) وأثناء وجودي في سيارة الأجرة لم أفكر لحظة في هذا الأمر ولم أعد كلمة واحدة مما يفترض بي أن أقوله !
ظلت المرأة تلاحقني بنظراتها الملولة الساخرة فقررت أن أقول لها أول شيء يخطر على بالى .. أبتلعت لعابي وقلت لها برقة :
" مساء الخير يا سيدتي .. أنا ماني تومسون جارد لدي صندوق لعين أنتقل إلى من أجدادي على مدار مائتي عام ولا أعرف ماذا يوجد بداخله .. وقد سمعت إنكم تريدونه وتبحثون عنه فأحضرته إليكم .. ها هوذا .. تفضلي !! "
ظلت المرأة تنظر لي نظرة تنم عن شكها القوي في إصابتي بنوع غير حميد من الجنون والعته .. وبمجرد أن انتهيت من خطبتي البلهاء كشرت المرأة عن أنيابها وقالت لي من بين أسنانها :
" نحن لا نبحث عن صناديق يا أحمق .. أنصرف من هنا ! "
وكادت ترزع الباب في وجهي لولا أن وضعت قدمي في فتحة الباب وقلت لها وأنا ألهث متوسلاً :
" سيدتي أرجوك .. دعيني أدخل وسأشرح لك كل شيء ! "
نظرت لي المرأة الشريرة طويلاً من تحت حاجبيها الكثين الأشيبين دون أن تسمح لي بالدخول .. ثم فجأة سمعت صوتاً غليظ آتياً من خلفها يقول في صرامة :
" من هذا يا دوللي !؟ "
( " دوللي " ؟! هذه تدعي " دوللي " ؟! إذن لابد أن أغير اسمي منذ الغد إلى " بريجيت " ! )
تحركت المرأة يساراً مما سمح لي برؤية جزء من مدخل البيت .. وهناك ؛ خلفها ؛ كان هناك كرسي متحرك يجلس عليه رجل ضخم مهيب الطلعة وينظر إلى بفضول واستطلاع وغضب .. اندفعت إلى الداخل على الفور لأمنع المرأة من محاولة إيقافي ووقفت باحترام أمام الرجل الجالس فوق الكرسي المتحرك وخلعت قبعتي وأخرجت اللفة ؛ التي تحوي الصندوق ؛ من تحت معطفي وقلت للرجل بتوسل :
" سيدي أنا أحمل أمانة لا أعرف من هو صاحبها بالضبط .. ولكن قيل لي أنك صاحبها وأنها تعود إليك .. ألست السيد هاوستر ؟! "
اومأ الرجل برأسه فتنفست الصعداء وقدمت إليه اللفافة وقلت له بسعادة :
" سيدي .. ها عادت إليك أمانتك .. عذراً إذا كانت لم تعد إليك منذ سنوات طويلة ! "
أمسك الرجل باللفافة وأخذ يقلبها بين أصابعه الغليظة .. ثم فض غلاف الصندوق ببطء وأستخرج الصندوق الأسود ..
خلت أنه سيسعد ويسر برؤيته .. ولكن ما حدث بعد ذلك أصابني بالذعر .. وأرق أحلامي ما تبقى لي من أيام !
كان الرجل هادئاً رزيناً وهو يفك الصندوق ويخرجه من لفته .. ولكن فجأة ؛ وبمجرد أن وقعت عينه على الصندوق الأسود اللعين ؛ حتى أكتسى وجهه بشحوب كشحوب الموتى .. وبغتة لم يعد قادراً على التنفس .. غاض الدم من وجهه فجأة وتقبضت ملامحه وأسقط الصندوق من يده ومد يديه ليحيط بهما عنقه .. وبدا أنه غير قادر على التنفس وإنه يبذل مجهوداً هائلاً ليلتقط أنفاسه .. أندفعت المرآة لنجدته وفكت رباط العنق من حول رقبته وأخذت تحاول مساعدته على التنفس .. بينما وقفت أنا غارقاً في الارتباك والذهول وغير قادر على فعل شيء .. وفجأة تحركت يداي بمفردهما .. وجدت يداي تمتدان لتختطفا الصندوق من الأرض ثم وجدت نفسي أركض في اتجاه الباب .. وبمجرد أن صرت خارج الباب بالكاد سمعت صوت المرأة الشريرة تصرخ بصوتها المخيف :
" ألحقوا به .. أقبضوا عليه .. لقد قتل زوجي .. قتل مستر هاوستر ! "
ولما كان من الواضح أنها لا تقصد أحداً سواي أنا .. فقد أطلقت العنان لقدماي !
وقبل أن يحل الظلام تماماً كنت قد غادرت ( يورك ) للأبد .. ولم أحاول العودة إليها أبداً في حياتي !
************
عدت لمنزلي شبه منهار وأستغرق مني الأمر يومين حتى استطعت ابتلاع المصيبة التي حدثت في ( يورك ) وتجاوزها .. ولكن المصيبة الأكبر ما زالت عالقة في أعقابي .. فالصندوق ما زال في حوزتي .. ولكن كيف التخلص من هذه البلية والكارثة ؟!
ترى ما الذي جعلني ألتقط الصندوق قبل هروبي من منزل " هاوستر " .. لما لم أتركه لهم وأفر بجلدي ؟!
بعد شهر ونصف ؛ وكنت قد تجاوزت أزمة ( يورك ) تماماً .. فقد كنت أخشى أن يكون البوليس قد جد في أعقابي وأنهم قد يتهمونني حقاً بقتل مستر " هاوستر " .. فلما مضت هذه المدة اطمأننت تماماً إلى أن الأمر قد مر بسلام .. ما دامت الشرطة لم تطرق بابك في أول أسبوع بعد إتيانك لأي مصيبة فأنت في أمان !
حتى الصندوق اللعين وجدت حلاً أخيراً لمشكلته المزمنة .. في الحقيقة كان الحل في متناول يدي طوال الوقت ولكن إنصاتي الدائم لكلام جدتي الراحلة هو الذي أعماني عنه وهو في متناول يدي وأمامي مباشرة .. فما الذي يحملني على حمل هم هذا الصندوق اللعين .. لوكان له أصحاب حقاً كما يصر العجائز فليأتوا وليأخذوه بأنفسهم .. أما أنا فلن أجد في أعقابهم بعد ذلك وليبقى الصندوق للأبد أو ليذهب إلى الجحيم .. إن لدي حياة جميلة أعيشها ومن العتة أن أبددها في البحث عن صندوق لا يريده أحد .. أليس من الجائز أنه بلا أصحاب ؟!
أليس من المعقول أنهم لا يريدونه .. بل أليس من الجائز أكثر أننا نحن أصحابه الفعليين ولا أحد سوانا ؟!
لما لم تخطر مثل هذه الأفكار على عقل جدتي الراجح من قبل ؟!
إنه هو الحل الأمثل والجواب الأفضل لهذه القصة الغريبة !
نعم الصندوق ملكنا .. ملك آل " جارد " ولا أحد سواهم .. وبما أنني الوريث الوحيد لآل " جارد " فقد صار من حقي الآن أن أفتح الصندوق !
************
حملت سكين مطبخ ضخم وعدد من الشواكيش والأزاميل والمفكات والمطارق وأتوجهت نحو القبو، حيث ألقيت بالصندوق منذ أسابيع .. وجدته كما هو ملقى على جانبه أسفل كوم من أدوات النجارة القديمة وبعض ألواح الخشب العتيقة .. حملت الصندوق بيدي وأنا أسمع صوت قرع الدم في أذني بينما أخذ قلبي يدق بمعدل مائة دقة في الثانية .. كان من الواضح أن الإثارة على أشدها في خلايا جسدي ..كنت أتوق لمعرفة ما الذي يوجد بداخل الصندوق الذي حير عائلتي على مدار عقود طويلة بل الأحرى أنه دمر حياتها ولعب دور العفريت المقيم في البيت والذي يتسلمه جيل عن جيل .. بل الحقيقة أنه هو الذي كان يتوارثنا وليس نحن الذين نتوارثه .. كنا ميراثه الخاص وعبيده المخلصين .. الأغبياء !
في البداية تفحصت الصندوق جيداً ولأول مرة أرى أن له ثلاثة ثقوب مفاتيح !
واحد في الناحية اليمني والآخر على اليسار .. أما الثالث فقد كان من أسفل !
ولما كنت لا أملك مفاتيح هذا الصندوق .. فقد قررت استخدام طرائق اللصوص في فتحه أو حتى تحطيم غطاءه تماماً إذا لزم الأمر !
وباستعمال السكين التي أولجت نصلها الحاد في فتحة من فتحات المفاتيح وحاولت فتحها دون جدوى .. بذلت مجهوداً كبيراً لفتح الصندوق باستخدام السكين فلم أفلح .. ولما يئست من السكين استخدمت الشاكوش عازماً على تحطيم الغطاء اللعين .. ولكن الغريب أن الغطاء كان يزداد صلابة كلما زدت قوة الضربات الموجهة إليه .. بل لقد أحسست بإحساس غريب ؛ إحساس سخيف أقرب للهذيان والخبل ؛ فقد كنت أحس أن غطاء الصندوق يقاومني .. يقاومني مقاومة عنيفة حتى إنني لم أعد قادراً على الإمساك به جيداً لأنه كان ينزلق من بين يدي بطريقة غريبة كلما حاولت الإمساك به !
وقد أصابني هذا الأمر بالجنون .. فأمسكت بالصندوق اللعين ووضعته بين ساقي وأحكمت من لف ساقي حوله حتى لا يتمكن من الفرار والإفلات ! وتناولت العتلة الضخم عازماً على تحطيمه وليكن ما يكون !
وبالفعل فلم أكد أهوي فوقه بضربة ساحقة حتى تفتت الصندوق وتطايرت أجزاءه متناثرة حولي .. ووجدت بين الحطام لفافتين من الأواق المصفرة المتآكلة وزجاجة من مادة صفراء شفافة مليئة بسائل ذهبي يشبه الزيت .. ويعوم في السائل شيء يشبه كتلة من نسيج عضلي .. شيء كأنه قلب حيوان أو قلب إنسان !
أصابني الاشمئزاز .. ولكنني تحاملت على نفسي وتناولت الزجاجة بأطراف أصابعي .. وفتحت غطاءها المبرشم بحرص فشممت رائحة قوية أعرفها جيداً .. رائحة روح النبيذ !
إنه نبيذ جيد جداً معتق منذ ما لا يقل عن مائتي عام !
أما الشيء الذي كان داخل الزجاجة فقد كان بالفعل .. وكما خطر لي في البداية ..فقد كان قلب .. قلب بشري محتفظ بليونة أنسجته بشكل مدهش !
سمرتني الدهشة مكاني لحظة .. ولكنني أفقت على صوت جرس الباب يدق في إصرار !
************
في اليوم التالى عثر البوليس الإنجليزي في أحد أحياء ( مانشستر ) المتوسطة على جثة شاب في الثلاثين من عمره .. اسمه " ماني تومسون جارد " متوفياً في منزله الذي يقيم فيه بمفرده .. وقال البوليس أن سبب الوفاة هو قيام مجنون ما بإنتزاع قلب القتيل من مكانه .. الغريب أن الطب الشرعي فشل في معرفة نوع السلاح أو الأداة التي استخدمت في هذه العملية البشعة .. بل الأغرب أن التجويف الذي أنتزع القلب بواسطته مستوي تماماً ومقطوع بشكل دائرة كاملة الاستدارة دون وجود أي علامات لحواف سكين أو آلة حادة .. الأعجب أن القاتل المجنون لم يكتفي بانتزاع القلب بل قام بوضعه في زجاجة مليئة بروح النبيذ ووضعه داخل صندوق أسود صغير عُثر عليه بجوار الجثة ..
وقد وعد البوليس الإنجليزي بكشف لغز هذا الحادث في أسرع وقت .. وإن كنت أنا ؛ مثلكم ؛ لا أثق كثيراً في وعود رجال الشرطة !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.