«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جماليات الإبداع الشعري في ديوان «الظلال المكسورة» للشاعر إدريس بوديبة

محمد سيف الإسلام بوفلاقة-جامعة عنابة-الجزائر
من الصعب الحديث عن قامة أدبية سامقة مثل قامة الأديب الجزائري إدريس بوديبة، الذي يجمع الكثير من النقاد والدارسين لشعره على أنه أحد أبرز الوجوه الشعرية التي عرفتها الجزائر منذ السبعينيات من القرن المنصرم،ويرون أنه واحد من الأصوات التي طورت الحركة الشعرية الجزائرية،و أثرت الحركة الأدبية المعاصرة.
يقول الشاعر والناقد الفلسطيني الدكتور عز الدين المناصرة عن أشعاره :«أشعار إدريس بوديبة من النّمط الحديث، وحزنه ليس ذاتيّا ،ولكنه حزن موضوعي، وللشاعر قدرة على التقاط المرئيات».
أما الناقد السوري الدكتور جودت الركابي فقد كتب عنه يقول:« عندما سمعت الشاعر إدريس بوديبة، حبّبَ إليّ هذا الشعر الحديث».
ويؤكد الكاتب الجزائري الراحل عبد الله بوخالفة على أن إضافات الشاعر إدريس بوديبة للشعر الجزائري هي إضافات معتبرة،ويصفه بشاعر الحالة الأكثر غموضاً.في حين يربط الكاتب محمد بوشحيط تطور الشعر الجزائري مقارنة مع الساحة العربية بشعر إدريس بوديبة،حيث يقول: « إن الشّعر الجزائري بخير، قياسًا لما هو موجود في السّاحة العربية، وإدريس بوديبة مثال ذلك».
ويرى الناقد محمد زتيلي أن «طقس الحزن ومرثية الذات من مميزات الشاعر إدريس بوديبة الذي يعد من الشعراء الذين استطاعوا أن يكَوِّنُوا حضورًا مستمرًّا على الساحة الأدبية... ».كما يشير الناقد عزيز السماوي إلى أن لغة إدريس بوديبة تتميز بالتجديد والصور البصرية.
إن الشاعر إدريس بوديبة شاعر من طراز فريد،صاحب شاعرية مكتملة ناضجة،ورؤى فلسفية وفكرية تدفع القارئ إلى التحليق نحو آفاق رحبة،وعوالم ليست لها حدود،كما نلاحظ قدراته العفوية على التعبير،ويتميز بصياغته الجذابة،وإيقاعه المنغم الجميل. ويوصف إدريس بوديبة بالمبدع الشامل كونه طرق ألواناً متنوعة من الإبداع الفني والأدبي لم تجتمع لغيره من المبدعين،حيث إنه يزاوج بين الكتابة الشعرية، والكتابة النثرية ،فهو شاعر،وقاص،وناقد أدبي وباحث ،وكاتب صحفي أشرف على صفحات أدبية في أعرق الصحف الجزائرية مثل جريدة «النصر» الجزائرية ،كما أنه كتب للأطفال، ونظراً لنشاطاته الأدبية والثقافية المكثفة، فقد أضحى رمزاً من رموز الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية بالجزائر،فهو عضو عامل باتحاد الكتاب الجزائريين منذ السبعينيات من القرن المنصرم.ورئيس فرع ولاية سكيكدة لاتحاد الكتاب ما بين سنوات: (1980/1992م)، و عمل أستاذاً بجامعة قسنطينة سابقاً(1982-1996)،و ترأس تحرير مجلة «القصيدة» التي تصدرها جمعية الجاحظية ما بين سنوات (1993/1995م)،والتي كان يشرف عليها صديقه الأديب الراحل الطاهر وطار، الذي كان يكن له محبة خاصة،وقد كتب عنه إحدى أهم الدراسات النقدية التي نُشرت عن روايات الطاهر وطار تحت عنوان: «الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار» وقد عُين مديراً للثقافة سنة:1995م بولاية قسنطينة،ثم انتقل إلى ولاية عنابة،ليشغل المنصب نفسه،لينتقل بعدها إلى مدينة سطيف التي يعمل بها مديراً ولائياً للثقافة،ثم يعود مجدداً إلى مدينة عنابة التي يُشرف على مختلف الأنشطة الثقافية بها.
وقد احتفت الأوساط الأدبية والإعلامية في الجزائر مؤخراً بصدور ديوان جديد له بعنوان:«الظلال المكسورة» عن منشورات مؤسسة بونة للبحوث والدراسات بمدينة عنابة.
ويلاحظ أن أغلب شعره في هذا الديوان صيغ بأسلوب سلس ،وبلغة عذبة رقيقة،وقد استعمل الشاعر كلمات المعجم تارة على وجه الحقيقة،وتارة على وجه المجاز(الرمز)،واستخدم صوراً وأخيلة ورموزاً من القديم بأسلوب حديث، وأغلبها منبثقة من المدارك الحسية، وحاسة البصر هي أنشط الحواس في تشكيل الصور عنده،و تمتاز قصائد هذا الديوان باحتوائها على أفكار،ورؤى فلسفية،و مضامين اجتماعية وأخلاقية راقية،كما أنها مفعمة بأحاسيس رقيقة،ومشاعر فياضة،كما نجد في هذا الديوان عدداً من القصائد الرؤيوية ذات الطابع الفلسفي والتأملي، فالمتأمل في هذا الديوان يستشعر قدرات الشاعر إدريس بوديبة العالية على تأمل الأحزان والآلام،ونجد مجموعة من القصائد تتصل بذات الشاعر، وآلامها، وأحزانها في هذه الحياة،وبعضها الآخر ينفتح على الهموم الاجتماعية،وهذا ما أكده الكاتب الجزائري الراحل مصطفى نطور في دراسة له عن الشاعر إدريس بوديبة،حيث أكد على أنه« يتناسخ في جزئيات الواقع الاجتماعي، ويعود إلى التراث، فيسقط بعض حالاته على أوضاعنا الراهنة».
ففي قصائد الشاعر نفثات ذاتية أضفت على شعره المفعم بمشاعر الجمال والرومانسية خفقات حلوة جذابة،وهو يميل إلى المزج بين الأحاسيس الذاتية والجماعية،وقد ضم الديوان باقة من شعره الوجداني الصرف،وباقة من القصائد أثارت قضايا تتعلق بأحزان وآمال الجماعة.
كما أننا نجد الشاعر ينزع في بعض قصائده نزعة صوفية،حيث نلفيه وهو يغوص في تجربة روحية صادقة وعميقة، تتكشف فيها جملة من الأسرار والمعاني،وتتجلى فيها مفاهيم تتجاوز الطاقة التعبيرية العادية،و تظهر الكثير من العبارات الموهمة والمبهمة التي تتعدى الألفاظ المعجمية العادية، كما نلاحظ كذلك اتساع المعاني، نظراً لإيراده الكثير من الأساليب الرمزية.
تولى تقديم هذا الديون إلى القراء الأستاذ الدكتور السعيد بوسقطة،أستاذ الأدب الجزائري بجامعة عنابة،وقد أشار في بداية تقديمه إلى أن « الأديب إدريس بوديبة، صوتٌ شعري متميزٌ، تتوزّع يومياته بين حرقة الإبداع، وشغف البحث العلمي، وأوجاع الإدارة،هو واحد من شعراء جزائر الاستقلال، الذين يمثِّلون الجيل الجديد، إنه أحد رواد التّجربة الشّعرية الجزائرية الجديدة أو الحداثية التي تمردت على نظام الشكل الشعري، وعبّرت عن تطلعاتها نحو التجديد، إذ أصبح الشعر عند هذه الفئة «رؤيا وقفزة» خارج المفهومات السائدة على حد تعبير الناقد أدونيس، حيث استخدمت اللغة استخداماً جديداً، من خلال شحنها بكثير من القيم الجمالية كالترميز والأسطورة والانزياحات وغيرها.. لتتفجر طاقاتها «رؤى وتعبيرًا». ولا شك أن التأثر بهذا اللون من الكتابة كان نتيجة مؤثرات شرقية وغربية؟ غير أن نزوع إدريس بوديبة إلى هذا اللون من الكتابة ليس من باب تفضيلها على الأشكال الأخرى، ذلك ما يؤكده في حوار أجرته معه طالبة من جامعة محمد خيضر ببسكرة أثناء إعدادها بحثا حول إبداعه؟
يقول: «القصيدة الجديدة يمكن أن تكون في الشعر العمودي، كما تكون في الشعر الحر والقصيدة النثرية والعكس صحيح، فالشعر الجيد هو الذي ينقل التجربة الشعرية، ويكون قادرًا على التأثير والإيحاء، إلاَّ أن القصيدة النثرية والشعر الحر، هما أقرب إليَّ، فأنا أستأنس بهما، وأطمئن لهما، وهذا يدل على قربهما للغة الحياة» .
ورأى الدكتور السعيد بوسقطة أن شعر إدريس بوديبة يُزاوج في لغته بين الرقة والعذوبة التي تبلغ حد الليونة، إذ ينساب مع خرير الجداول وتغريد الطيور، وتحليق النور، وتعالق الأشياء...
مثل قوله:
أُرَاجِعُ الْخَرَائِطَ القَدِيمَة
وَاحْتَسِي حَرَائِقَ الْمَواجِعِ الأَلِيمَة
لَكَمْ هِيَ شَجِيَةٌ لَيَالِي الأَرَقْ!
وبين القوة من خلال استعماله لألفاظ الرفض والتمرد والثورة.
كقوله:
دَمِّرْ أَسْرَارَ ثَوْابَتِك القَاسِيَة
دَمِّرْ
دَمِّرْ
دَمِّرْ
كما لاحظ في لغته خاصية المفارقة كالتضاد، التي تعمل على تكثيف المعنى، فبعض نصوصه تجمع بين اليأس والأمل، بين البكاء والغناء.
كما يبرزه المقطع الموالي، يقول:
الأَزْرَقُ يَجْمَعُ أَشْتَاتَ الرُّوح،
وَيُغَنِّي مَنْفِيًّا فِي خَطَرَاتِ الْوَجْد
كما تعبر صوره المختلفة عن المعاناة، و الصراع بين الذات والواقع، مما جعل تلك النصوص في عموميتها تعبيرا عن الضّياع النفسي.
وتبقى الظاهرة الأكثر بروزا في معجمه اللغوي هيمنة الرموز، وهي ليست تجريدية بحتة، لأن الشاعر قد أذاب تلك الرمزية في الرومانسية، حيث مزجها بالواقعية حينا آخر، وهو في كل هذا يسبح بنا في ما هو ذاتي تارة، وفي ما هو اجتماعي تارة أخرى.
ويتجلى الطابع الرمزي في عنوان الديوان «الظلال المكسورة»، كما يبرز في العديد من عناوين القصائد مثل «المدينة الوهم، وأوجاع الأزرق ملّول، وأحزان العشب والكلمات،...».
وأغلب القصائد لا تخلو خلوا تاما من البعد الرمزي الذي برز في جسد النص – أحيانا – بداية ونهاية مثلما ورد في قصيدة «الظلال المكسورة» الذي يقول فيها:
قَطَعْنَا سُبُلاً وَدُرُوبًا
مَشَيْنَا فَوْقَ زُجَاجِ الرُّوحِ الْمَكْسُورِ
سَبَحْنَا فِي دَمِنَا الْمَسْفُوكِ،
قُتِلْنَا آلاَفَ الْمَرَّاتِ..
وَلَمَّا نُقْتَلْ!
سير القصيدة على هذه الوتيرة لا يخلو من إيهام في بعض مقاطعها.
مثل قوله:
فَتَّشْنَا طَوِيلاً جُيُوبَ مَعَاطِفِنَا،
وَتَصَفَّحْنَا عُيُونَ حَبِيبَاتِنَا،
وَلَمْ نَلْقَ غَيْرَ فَرَاغَاتِ الرُّوحِ تَدُورْ...
تَدُو...رْ...
وَرَكِبْنَا أَكْتَافَ الكَلِمَاتِ الْمَجْنُونَةِ بِالتَّحْلِيق،
وتارة تَتَلَبَّسُ هذه الرمزية حللا رومانسية كما هو الأمر مع قصيدة «عيناك أقحوان»
يقول:
عَيْنَاكِ أُقْحُوَان
فِي دَرْبِي الْمَهْجُورْ،
يَا زَهْرَة اللَّيْمُونْ
يَا قِصَّةَ الأَلَمِ...
...
غَدًا...
سَتَهْدَأُ النَّوَارِس
تُشَارِكُ الإِنْسَان
فَرْحَةَ الوِلاَدَة
وَتَنْمَحِي الْمَسَافَة
فتعامل الشاعر مع هذه الأكوان، كان تعاملاً ينمو في تلقائية تحكَّمَ فيها التفاعل مع المكان في بعديه الجمالي والنفسي، وقد مثل هذا الفعل ظاهرة بارزة في نصوصه، حيث يذكر الأمكنة بأسمائها، مثل: (سكيكدة، وجان دارك (شاطىء بسكيكدة)، وتقرت، والقل، ورحبة الجمال (حي شعبي بقسنطينة)، وساحة الشهداء (منطقة بسطيف)، وبغداد، وبونة، ووهران، ومقهى الكاهنة (بسكيكدة)، ونزل الزهراء (بعنابة).
و أغلب قصائد الشاعر إدريس بوديبة مرتبطة بهندسة المكان تتصدر مقاطعها بحدث مقترن بزمانين: (فعل ماض ومضارع)، وهذا دليل على الحركة التواصلية الكثيفة مع المكان التي جسدت التفاعل الروحي، يقول:
فَتَحْتُ فَمِي
فَكَانَ الْغِنَاء...
وَفِي البَدْءِ... كَانَ الْغِنَاء!
"سُكِيكَدةُ"... مِنْ سَنَتَيْن
غَرِيبٌ بِبَابِكِ أعرى
أَتَأْذَنِينَ لِي بِالإِقَامَة؟
أَتَأْذَنِينَ لِي بِالرَّحِيلْ؟
أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَمُوت
بِعَيْنَيْكِ غَرْقًا؟
نَوارِسُ كُلِّ الْمَوانِئ
ب "جَانْ دَارك" كُلَّ مَسَاء
تُقِيمُ مَآدِبَ لِلْحُزْنِ وَالاِنْتِحَارْ
عَلَى شَرَفِ العَالَمِ الْمُحْتَضر
وَأُقْبَلُ بِالصَّلْبِ...بِالشَّنْقِ...
فَوْقَ جَدَائِلِكِ الْمُسْتَبَاحَة
عَلَى أَنْ أُمَارِسَ بَوْحِي وَأَرْحَل!
كما جاءت أغلب النصوص في شكل «برقيات» تختزل اللغة وتحجب الدلالة فاسحة المجال أمام القارئ ليتولى عملية الحفر والتنقيب عن المعنى عبر ما اصطلح عليه بالتأويل.
من النماذج التي تبرز بشكل واضح هذه الظاهرة، قوله:
أَيُّهَا الْمُمْعِنُ فِي الْغُرْبَةِ
قَلِيلاً...تَوَقَّفْ!
اِحْذَرْ أَنْ تَنْظُرَ فِي وَجْهِي!
فَأَنَا أَرْعَفُ دُخَاناً وَغُبَاراً ذُرِيًّا
اِحْذَرْ أَنْ تَقْرَأَ كَفِّي!
فَأَنَا أَسْبَحُ فِي كِيمْيَاءِ الْحَال
وَأَرْشحُ أَشْوَاكاً وَفَنَاء...
نَكْتَوِي بِالأَنِينِ
نَكْتَوِي بِالضَجَر
نَكْتَوِي بِاليَقِين
لِصُمُودِ الْحَجَرْ!
فأغلب النصوص الدائرة في هذا الفلك تبرز النزعة النفسية من خلال صور متنوعة، فقد تتجسد هذه النزعة من خلال الطقوس التي يمارسها المبدع وتعاطيه مع الواقع، أومن خلال تواصله مع المكان واستثمار عناصره المختلفة كما تجسده قصيدته «بوح» التي يقول فيها:
لِشَوَارِع بُونَة
أَخَادِيد فِي الْقَلْبِ لاَ تَمَّحِي
لِشَوارِعِهَا مُنْعَطَفَاتٌ
تَتَخَاصَرُ
تَتَعَانَقُ
تَتَصَالَبُ عِنْدَ الزَّوَايَا
كَبُكَاءِ الْمُحِبِّينَ
لَحْظَةَ الشَّوْقِ وَالانْكِسَار.
سَابِحًا فِي عُيُونِ النِّسَاءِ
اللَّوَاتِي اِنْزَرَعْنَ غَمامًا
وَتَنَاثَرْنَ قُرْبَ الْمَقَاصِفِ فِي (الْكُور)،
كَالْقُبّرَات.
ووفق رؤية الدكتور السعيد بوسقطة فتقنية التناص بأشكاله المختلفة تبرز في نصوصه بشكل جلي، حيث وردت في النصوص الرموز الأدبية الدينية، والأسطورة الشعبية المعبرة عن الصراع بين الذات والواقع، عن ثنائية الموت والحياة، وهذا عبر استدعاء الشخصيات التراثية بأسمائها ك: «بنيلُوب، و التوحيدي، ورابعة العدوية، والأزرق ملّول، ورامبو...»، أو ضمن سياقات النصوص.
فقصيدة «ظلال الدمعة والنسيان» تمثل مقاطعها سفرا في دواخيل الذات المبدعة، حيث يستهلها ويختمها بوصف ذاته الحزينة جراء واقع محبط، يقول:
قُبْلَةٌ لِلْوَدَاعْ
لُغَةٌ لِلضَّيَاعْ
اُدْخُلِي وَرْدَتِي
اُدْخُلِي جَنَّتِي
نَجْمَةُ الْعُمْرِ الْمُسَافرْ
رِئَةُ الطَّيْرِ الْمُهَاجِرْ
قَدْ تَوَارَتْ فِي اِنْكِسَارَاتِ الدُّمُوعْ
- - - - -
ضَائِعٌ أَنْتَ، وَضَائِعْ
فِي تَفَاصِيلِ الِّلقَاء
فِي تَضَارِيسِ الْوَدَاعْ
يَا حَنِينَ الرُّوحِ لِهُتَافَاتِ الرّبَابَة
"بِنيلُوب" تَمْتَطِي الْبَرْق،
وَتَسْخرُ مِنْ وَطَاوِيطِ الإِمَامَة،
بَيْنمَا كَانَتْ أَوْرَاقُ "أَبِي حَيّان"
تَتَلَظَّى كَالْمِلْحِ الأَزْرَقِ فَوْقَ النَّار
كَانَ "أَبُو نَوَّاس" يُدَابِر "رَامْبُو" عِنْدَ الْعَصْر
وَيُقَابِلُ غِلْمَانَ الْقَصْر
مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْر
لقد ركَّزَ في مقاطع القصيدة على شخصيات تراثية أسقط عليها همومه كشخصية «بنيلوب» الرامزة للأمة العربية الفاقدة لشخصيتها، والتائهة في المجهول بالإضافة إلى شخصيتي «أبي حيان» و«رامبو» اللتين قابل بينهما، وهو تقابل غير منطقي يرمز إلى الصراع بين الشرق والغرب، والشعور بالأسى نتيجة الانهيارات و الذوبان في الآخر.
تتباعد المقاطع لتلتقي من جديد عبر انسيابها في نَسَقٍ سردي لتبرز في النهاية التوحد بين الذات والواقع في الصراع ومعانقة الأمل في الانبعاث والتجدد.
أما في قصيدته «أوجاع الأزرق ملُّول» التي تتكاثف فيها الرموز لتعبر هي بدورها في النهاية عن الانبعاث والتجدد عبر التوحد بين الأنا والأرض، و الأنا والأنثى لارتباطهما بالخصوبة المعبرة عن الولادة، وعن الحياة، وقد جاءت في بعض جوانبها مشبعة بجو صوفي، يقول:
وَانْهَضَ مِنْ جَسَدِ الرَّمَادْ
وَاخْتَلِطْ بِعَنَاصِر جِسْمِهَا
فِي بَحَّةِ الصَّوْتِ، وَأَشْلاَءِ الْحُقُولْ
سَتَلْقَاهَا عَائِدَةً إِلَيْكْ
طَيْراً أَبْيَض
وَوَقْتًا جَاهِزًا
وَمَنَاخَاتٍ مُطَهَّمَةٍ بَأَسْرَابِ الْغَمَامْ
الأَزْرَقُ يَجْمَعُ أَشْتَاتَ الرُّوحْ،
وَيُغَنِّي مَنْفِيًّا فِي خَطَرَاتِ الْوَجْد
وَيُغَنِّي لِشُمُوخِ الْقَمْحِ الْبَلْيُوني
يَسَّاقَطُ وَسْنَاناً
كَالشَّفَقِ الْمَكْسُورْ..
بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة
-جامعة عنابة-الجزائر
العنوان:
الأستاذ/محمد سيف الإسلام بوفلاقة
Mouhamed saif alislam boufalaka
ص ب:76 A ( وادي القبة) -عنابةالجزائر
المحمول: 775858028 00213
الناسوخ (الفاكس) : 35 15 54 38 00213
البريد الإلكتروني : [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.