المناوشات الإعلامية التي سبقت جمعة "توحيد الصف" والتي وقعت بين معظم القوى الوطنية خصوصاً الإسلامية من جهة وبين المعتصمين في ميدان التحرير من جهة أخرى لم تكن بمحض الصدفة ولا مجرد حرب إعلامية تنتهي بلا شيء .. وإنما كانت أمور مدبرة أسفرت في النهاية عن خسارة طائلة خسرتها مصر قبل أن تخسر الأحزاب والجماعات التي لم تلتزم بمسؤولياتها تجاه هذا الوطن، وإن كانت الخسارة غير مقصودة. أشد المصريون تفاؤلا لم يكن مطمئناً إلى ما ستؤول إليه مظاهرات هذه الجمعة وكان الكثيرين يشككون في أن تنجح .. بالرغم من الإعداد والترتيب والحشد الذي قامت به الجماعات الإسلامية خصوصاً لهذه التظاهرة .. وكذلك ما سبقها من اجتماعات ولقاءات بين رؤساء الأحزاب والحركات الوطنية مع بعضها البعض من أجل الاتفاق على المبادئ الأساسية للتظاهرة وتوحيد المطالب والشعارات المرفوعة. فالبرغم من استمرار هذه اللقاءات والاجتماعات حتى ما بعد منتصف الليل للتنسيق ما بين القوى المشاركة والمعتصمين إلا إن الجماعات الإسلامية حاولت السيطرة على الميدان والظهور الإعلامي بنصب أكبر عدد من المنصات محاولين تهميش باقي الأحزاب والحركات المشاركة في التظاهرة وطمسها وعدم ظهورها إعلامياً .. ثم جاءت المفاجأة المدوية في الشعارات التي رفعت بعد صلاة الجمعة مباشرة والتي برز من بينها وبقوة "إسلامية إسلامية". في مشهد غير مسؤول من الحركات الإسلامية حقيقة أفرغ ممثليها كبت السنوات التي عانوا خلالها تحت طائلة حكم مبارك ونظامه ونقضوا عهدهم الذي لم يمض عليه سوى ساعات قليلة ونسوا أن هناك مصلحة عليا للدولة تتمثل في تحقيق أهداف ثورتها التي رويت بالدماء .. ظهروا وكأنهم للوهلة الأولى يتنفسون نسيم الحرية وفقدوا صوابهم .. لا أكذب إذا قلت أن معظمهم لا يعرف معنى الشعار الذي رفع وهتفوا له بأعلى أصواتهم برغم أن اللوم الذي ألقيه عليهم يتمثل في أسئلة بسيطة تجيب على نفسها. الأول: أليست هوية مصر إسلامية؟ والثاني: من منا يمكن أن يقبل المساس بهوية مصر الإسلامية؟ والثالث: من الذي اقترب من هوية مصر كي ننساق وراء هذه الشعارات الرنانة التي ذهبت وراءها جهودنا طوال اليوم وما قبله هدراً وننسى مطالبنا التي سهرنا على توحيدها طوال الليل؟ إذا كان الخوف من المبادئ فوق الدستورية أن تمس بالمادة الثانية من الدستور أو تقيد تعديله لاحقاً فكان من الممكن أن يرفع شعار الاستفتاء على هذه المبادئ أيضاً ولنا الحق خصوصاً أنه كان من بين مطالب المعتصمين عدم انفراد المجلس الأعلى للقوات المسلحة باتخاذ القرارات دون إشراك القوى الوطنية .. لكن لا يصح أن نفرغ التظاهرة من محتواها ونحولها إلا مشهد تباهي وفرد عضلات وإقصاء للآخرين .. ولا يصح أن يكون الظاهر الاتفاق مع باقي القوى المشاركة على المبادئ والمطالب التي سترفع جماعية فيم أن الباطن محدد مسبقاً ومتفق عليه أيضاً بين الجماعات الإسلامية؟ لقد اتهمت الحركات الإسلامية كل المعتصمين في ميدان التحرير بعدم وضوح مطالبهم والوقوف ضد إرادة الشعب .. واتهموهم أيضاً بتعطيل مرافق الدولة وغيرها من الاتهامات فضلاً عن التخوين والطعن في الهوية الوطنية للبعض منهم ونحن لا نحسبهم إلا شرفاء ما داموا رافعين راية الثورة ومنادين بمطالبها ويعملون على تحقيق أهدافها .. والآن أنا أريد من كل من رفع شعارات حزبية أو شخصية في الميدان أن يذكر لي ماذا جنى من ورائها؟ وما الفائدة التي عادت عليه؟ ولمصلحة من الفرقة التي حدثت في الصف الوطني المصري؟ إن السبق والحشد الذي قامت به معظم الجماعات الإسلامية لم ينفعها .. والاغترار بالتنظيم والأكثرية الحزبية أثر عليها بالسلب وانقلبت الطاولة على الجميع ولم تنجح الجمعة التي كنا نعول عليها كثيراً فيما قامت من أجله وفي نهاية المطاف لم نجني إلا الفشل الذي اتضح في الانقسام وانسحاب معظم القوى الوطنية المتظاهرة والمعتصمة ونحن ما زلنا في الميدان قبل أن تنتهي التظاهرة وللأسف لم نحقق شيء. خسر الجميع وأول الخاسرين مصر .. وتفرق الصف في جمعة توحيد الصف .. والسبب هو الانسياق وراء الأهداف الشخصية لبعض الحركات أو الجماعات والذي بات واضحاً لا يقبل الشك في وجوده .. وأصبح خطراً يهدد الثورة وينخر في قوامها ويضعف قواها ويمهد الطريق أكثر أمام أعدائها وما أكثرهم في الداخل والخارج.. خسرت الثورة المزيد من الوقت الذي يمر دون تحقيق أهدافها .. وخسرت أيضاً تظاهرة كبيرة كان يتوقع لها التأثير على صانعي القرار في الدولة للعمل على تحقيق أهدافها.. وخسر الشعب هذا الحشد البشري الهائل الذي لم يره منذ سقوط الرئيس السابق خصوصاً وإننا على أبواب شهر رمضان الكريم ولا نتوقع أن تكون الاعتصامات أو التظاهرات بنفس هذه القوة أو العدد الهائل.. وخسرت الحركات الإسلامية ثقة وتأييد طائفة كبيرة من الشعب حتى أن اللوم أصبح عليها من بعض ممثليها والمنتمين إليها أكثر من الذي يوجها لها من خارجها .. وللأسف تفرق الصف. وأخيراً: أدعو شباب مصر الشرفاء الذين يخشون على ترابها والذين لا ينتمون لأي حركات أو تيارات .. ومصر مليئة بهم .. أدعوهم أن تكون لهم كلمة الفصل في هذا الأمر .. فنحن عموماً لا نعول على الأحزاب والجماعات كثيراً لأن كل منشغل بنفسه .. ولن تنجح الثورة إلا بأيدي من أوقدوا شرارتها وليس بأيدي من ركبوا الموجة مؤخراً وسبحوا مع التيار. كما أدعو الله عز وجل ونحن على أبواب الشهر الكريم أن يكون توحيد الصف من عنده .. فهو سبحانه وتعالى أقدر على ذلك منا. وهو على كل شيء قدير.