في البدء كانت رحلة الحصول على نسخة من الرواية متعبة جداً حيث لم أعثر عليها في مدينتي التي اسكن فيها ولم أتمكن من البحث عنها في سوق المتنبي لعدم توفر الفرصة وكنت أكلف كل الأصدقاء الذين يذهبون إلى السوق بشكل منتظم إلا أنهم تجاهلوا طلبي علماً بأن البعض منهم كان قد اقتنى نسخة من الرواية كما علمت فيما بعد ومضى عام حتى تمكنت من الحصول على الرواية وقد وجدتها معروضة على قارعة الطريق عند بائع كتب شاب في شارع ( طلعت حرب) في وسط القاهرة فقررت أن أقرأ الرواية مدة بقائي في جمهورية مصر وفعلا باشرت في قراءتها في نفس الليلة التي اقتنيتها فيها وكان اليوم التالي رحلة إلى الإسكندرية وكانت رفيقتي في الرحلة وكنت قد قرأت جزء لا بأس به من الرواية وفي اليوم التالي كانت رحلة إلى شرم الشيخ واخترت السفر بالسيارة حتى أتمكن من إكمال قراءتي للرواية ولم أشعر بالطريق رغم طوله وكانت خير أنيس وأكملت قراءتها في اليوم الثالث لوصولي لشرم الشيخ ,لقد لفت انتباهي أسلوب الكاتبة واختيارها للشخصيات ... لقد سألت ذات يوم أحد الفقهاء العارفين وهو مجتهد عالم في مجال التفسير والفقه والأصول عن معنى قوله تعالى ( نحن نكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) (سورة يس)... لقد توقف للحظة قبل أن يبدأ بشرح الآية فقال دعني أسالك سؤال فقلت تفضل (مولانا) قال ماذا يحدث عند إلقائك حجراً في نهر فقلت له أرى دوائر من الماء تتشكل بانتظام وتتوسع شيئاً فشيئا حتى تتلاشى ....فتبسم وقال إن هذه الدوائر تبقى مستمرة إلى يوم القيامة وسوف لن تتوقف ولن تتلاشى وتنتقل عبر النهر إلى البحر ومن ثم إلى المحيط .....وهكذا هو العمل فحين يترتب عليه أثرا سلبي سيكتب الله ذلك الأثر على المذنب الأول الذي أرتكب الفعل ويستمر بتحمل الإثم حتى بعد وفاته .. وكذلك العمل الصالح.... لقد كانت الرواية عبارة عن روايتين في فترات زمنية متباعدة أحداهما في الشرق والأخرى في الغرب وكانت هاتان الروايتان تسيران بخط متواز فالشخصيات المركزية في الرواية الأصلية ( الكفر الحلو) كان لها شخصيات مناظرة فشخصية (شمس التبريزي) كان لها ما يقابلها وهو (عزيز) الكاتب الروائي وأما شخصية جلال الدين الرومي فكان ما يقابلها (إيلا) وهكذا أبناء جلال الدين مقابل أبنائها وزوجها مقابل (كيرا) .... أنا لا يهمني سرد الأحداث بقدر ما يهمني تسليط الضوء على شخصية الكاتبة وهي تجسد انتمائها الديني والمذهبي من خلال شخصياتها ....فهي استمدت الشخصيات من امتدادها وموروثها الديني الذي نشأت عليه من خلال عائلتها وإن كانت هي لم تولد في تركيا أو إيران إلا أنها كانت تجسد صفات المرأة الشرقية داخلها أو داخل شخص قريب عليها كأن تكون والدتها مثلاً لا على سبيل الحصر فهي تعالج مظهر أو نزعة شرقية لم تتمكن من التخلص منها حتى في الشخصية الغربية التي جسدتها (إيلا ) فقد أعطتها الجانب السلبي من المرأة الشرقية وخنوعها الذي أزرى بها حد الذل ومن ثم بدأت تستنقذها من هذا الهوان بالتزامن مع تخلص شخصية جلال الدين الرومي من هذه القوقعة أو الهالة الدينية التي كان يحيط نفسه بها وبدأ يتمرد على واقع هو فيه السيد والعبد معاً فهو يلقب ب ( مولانا) ولكنه أكتشف أنه كان عبداً لهؤلاء القوم من خلال تحديدهم لتصرفاته وحجبهم له عما يدور في الطبقات السفلى للمجتمع. ( تبريز، قونية ،بغداد ،دمشق ) مدن رئسيه للأحداث تمتاز بتنوعها الديني والعرقي والطائفي ، عندما ندرس مكونات المجتمع الإيراني والذي يطلق على بلادهم قديماً بلاد فارس نجد أن هناك فسيفساء غريب في هذا المجتمع والذي استمد اسم بلاده من القومية الرئيسية في البلد وهي القومية الفارسية ولكن من الغريب جداً أن نرى نسبة العنصر الفارسي يمثل 17% من سكان إيران في حين يمثل الأتراك نسبة 37% من نسبة السكان في إيران وأن (تبريز) أغلب سكانها من الأتراك كما في أردبيل وغيرها من المدن والقصبات الإيرانية والتنوع المذهبي والطائفي في هذه المدن كثير ولكن غير ظاهر على السطح وعليه فإن اختيارها ل (قونية و تبريز وبغدادودمشق ) لم يأتِ اعتباطاً وكذلك شخصية (شمس التبريزي) بل كانت تريد أن تحدد مذهبها وقوميتها الذي نشأت عليه وخصوصاً إذا ما قرأنا الحديث الذي ساقه عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي يقول فيه كنّا جلوسا في المسجد بعد صلاة العشاء ونتداول شرح سورة الفاتحة وكان يشرحها علي بن أبي طالب( فقال الإمام إن سر القرآن يكمن في سورة الفاتحة وسر الفاتحة يكمن في البسملة وسر البسملة يكمن في الباء وسر الباء يكمن في النقطة التي تحت الباء وأنا النقطة التي تحت الباء.....واستطرد ابن عباس يقول وأدركتنا صلاة الصبح ولم ينتهي من شرح النقطة التي تحت الباء) ...فهي تريد أن تحدد بأن الطرق الصوفية كانت تعتبر نفسها امتداداً لعلي بن أبي طالب ففي بغداد كانت هناك العديد من الطرق الصوفية ( القادرية و الرفاعية و الكيلانية و النقشبندية و الكزنزانية ) وغيرها من هذه الطرق لم تكن كلها بمستوى النقاء الذي تكلمت عنه الرواية وكانت كلها تنسب نفسها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهذا واضح من خلال أناشيدهم وأذكارهم حيث كان الحديث يقول في نهايته وعلى لسان علي بن أبي طالب( وأنا النقطة التي تحت الباء) لا كما ورد في الرواية ..... إن نهاية شمس التبريزي وعزيز في الروايتين كان في (قونية) ودفنا بمقابرها وهم مسلمون حيث توحدت الشخصيتان معاً في نهاية الرواية وكأنهما شخص واحد و يُخَيَّل إليَّ أن الشخصيتين كانتا تفعلان فعل الضمير المحرك لشخصيات الرواية مثل جلال الدين الرومي و إيلا فالكاتبة اعتبرت موقف (الرومي ) كان سلبياً تجاه موهبته الشعرية ولكن عندما فعّلها (التبريزي) بأسلوبه بدأ بالتغيير وبدأ الشعر يتدفق من لسانه كالسيل دون توقف وكذلك كانت (إيلا) سلبية في تفكيرها حتى جاء (عزيز) ليكون المحرك لها باتجاه تحرير الذات وتجاوز العبودية التي رسمتها لنفسها من خلال عكوفها على تربية أولادها وقبولها للخيانة المستمرة من قبل زوجها ....وكما فاجأنا (شمس) بعدم التقرب زوجته (كيميا) فاجأنا عزيز بعدم التقرب من (إيلا) وهذا الفعل لم يكن ضمن الأخلاقيات التي تربى عليها هؤلاء فهم يحتسون الخمر ويتفاعلون مع البغايا والسكارى والفقراء وهم يرفضون أي حدود ترسم لهم ف (شمس) أرغم (الرومي) على الذهاب إلى الحانة وشراء الخمر وبالفعل احتساه وهذا ما لا يفعله الصوفي. وكما كان (شمس التبريزي) يعرف في حالة عودته إنه سيقتل وسيموت وسيترك الرومي فإن (عزيز) كان يعرف على وجه اليقين بنهايته الحتمية لإصابته بالسرطان وكما كان (شمس التبريزي ) يحنو على الشحاذين والفقراء والمظلومين والمجذومين كان شمس يعمل لدى وكالات الإغاثة ويساعد الشعوب المضطهدة والفقيرة ...إذاً هناك خط متواز تم رسمه بين الشخصيتين وصولاً إلى حالة التماهي بينهما فهما بالنتيجة يدفنان بنفس المكان ....ولكن؟؟؟؟ هناك تساؤل لطالما ألحَّ عليَّ إن شمس التبريزي كان يترفع عن إلحاق الأذى الجسدي والنفسي حتى مع البغي التي تقرُّ بسفالتها بل كان يصحح لها رؤيتها الذاتية والتقييم النفسي التي كانت تعاني منه .....ولكنه يهمل هذا الجانب مع (كيميا) حيث رفضها كلياً وأنبها لأنها طالبت بشيء من حقوقها فهو هنا قد أهدر حقاً شرعياً كإنسانة لها متطلباتها بل وتعدى ذلك حين أنبها مما سبب لها انهياراً تاماً وتمادى أيضاً أكثر من ذلك بعدم سؤاله عنها فهذه تعتبر إسقاط لشخصية الدرويش المتبحر والذي يحنو على السكارى والعاهرات ويفرط بالقسوة على زوجته ....كما أن الرواية تهمل نهاية (كيميا) ولا نعرف مصيرها ولكن حين تكلم عنها (الرومي) كان بصيغة الماضي هل ماتت أو هل ارتحلت .... لقد تبادر إلى ذهني حين قرأت شخصية ( شمس التبريزي) شخصية قد رسمتها (بنت الشاطئ) في روايتها (غادة كربلاء) ولعل شخصية (عدي الكندي) والد الصحابي الجليل الشهيد (حجر بن عدي ) كانت قريبة جداً من هذه الصورة ولكن اختلاف الأحداث غير في الروايتين جعل المسلك الروحي لهاتين الشخصيتين مختلفاً ولكنهما بنفس المواهب .... لقد عرجت الكاتبة ولو بشكل بسيط على حركة الحشاشين التي أنشأها (حسن الصباح ) في إيران أيام الوزير (نظام الملك) وحولت هؤلاء الناس الانتحاريين والذين تم تنشأتهم بصورة عقائدية لتنفيذ حكم الإعدام بالمخالفين دون النظر إلى عواقب الأمور حيث تحولوا في الرواية إلى قتلة مأجورين ينفذون ما يطلب منهم وفتوات في المواخير ودور البغاء بعد أن تم القضاء على (قلعة الموت) حصنهم الرئيسي وهو تحويل ينم عن موقف متشدد من قبل الكاتبة تجاه هذه الحركات المتطرفة وأرادت أن تبين إن هؤلاء ليس لديهم أي دين وأي عقيدة حقيقية وإنما هم جبلوا على الجريمة ويتبعون رغباتهم في الحصول على المتعة والجاه والأموال دون النظر إلى مصدرها ...وهي محاكاة رائعة لما يحدث الآن من إرهاب والأسلوب الانتحاري الذي كان الحشاشون يتبعونه في تنفيذ جرائمهم. وبالنتيجة كانت القواعد التي اتفق على وضعها (الرومي وشمس ) تصب في مجرى واحد وهو كيف يتم تحويل الاتجاهات الفكرية والعقائدية الموروثة لدى (الرومي) إلى طريق متعدد الاتجاهات والمشارب والفلسفات الفكرية التي من خلالها تمكن الرومي أن يخط اسمه بشكل قوي على ذاكرة التاريخ ويجعل من شعره أساساً قوياً لكل الذين سلكوا بعده طرق الصوفية في حين لو بقي (جلال الدين الرومي ) خطيب منبر الجمعة وداعية لفقد أثره تماما وفقد ت الإنسانية شاعرا مجيداً يتفاعل شعره مع الوجدان الإنساني ويتوالد منه الكثير من الشعراء الصوفيين الذين نقرأ لبعضهم هذه الأيام