قضى الله عز وجل وقدر: أنه ما من عبد يسكت على منكر يراه أو فساد يشهده ؛ وهو قادر على أن ينكره – إلا عوقب في الدنيا بعقوبة عاجلة قبل عقاب الآخرة: فقد يُعاقب بأن يقع في المنكر، أو يمسه خبثه، أو يقع تحت سطوة أهله وطواغيته.... وليس أقل من المفسد إثماً من يراه يفسد ثم يتستر عليه ويسكت، بل هو شريكه في الأثم، وهما في الوزر سواء.
- ولأجل ذلك تكاثرت نصوص الشريعة وتضافرت تنهي عن الأمعية: فقد روى الترمذي وحسنه عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا "[1]
- ولأجل ذلك أيضاً كانت سنة الله أن يحل البلاء النازل بسبب الذنب عاماً لا يفرق بين فاعله، والساكت عليه، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الأنفال 28.
ولما قضى الله بعذاب قرية ظالمة عمها الفساد لم ينج صالحوها الساكتون من العذاب، ذكر القرطبي في الجامع عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، فِيهَا فُلَانٌ الْعَابِدُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ ( بِهِ فَابْدَأْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِي سَاعَةٍ قَطُّ ") [2].أي لم يرق ماء وجهه لله آمراً بالخير ناهياً عن الشر.
النهي عن المنكر وحرب الفساد سلوك عملي لا مجرد القول:- لقد دعت الشريعة أن يكون النهي عن المنكر سلوكاً عملياً يتمثل في أخذ موقف حازم من المُصرِّ على المنكر المقيم عليه فيُهجر إن كان في هجره ردع له عن معصيته، هذا إن كانت معصيته قاصرة عليه وحده، أما حينما يكون منكره متعدياً – يعني لا يقتصر عليه بل يتعدى فساده إلى غيره من أبناء مجتمعه، فيجب أن يكون الموقف العملي حينئذ أوضح وأصرح وأشد – ويقدر حينئذ بقدره - ولم تُبرئ الشريعة من يكتفي في نحو هذا بالكلمات يلقيها فحسب. قال الله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) المائدة 78-81.
هكذا يعم البلاء،، ويشمل العقاب، وفي واقعنا الأن خير الشواهد،،فحين اشتدت وطأة الفساد ثارت الأمة، ودفعت – ومازالت تدفع - من دماء أبناءها وأموالهم وذرياتهم أغلى الأثمان،،
والواجب هنا - ومن باب المراجعة والاعتبار – أن نسأل سؤالاً ملحا ومهماً: تُرى لو تفطنت أمتنا منذ زمن بعيد لهذا الفساد يوم أن بدأ، ثم قامت بحق الله تعالى فأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وضربت على يد الفاسد، وحاسبت الظالم، وأعانت القلة الأمرة بالمعروف المحاربة للفساد وكثرت سوادها ودعمت توجهها، تُرى لو حدث ذلك هل كنا نرى هذه المآسي، ونعايش هذه الشدائد ؟؟
لكن – للأسف - لأننا أخرنا حق الله تعالى، وتكاسلنا عن أداءه، وظننا أننا بمنأى عن سنن الله تعالى وأنها لن تطولنا، فها نحن ندفع ثمن سكوتنا الأول، ونجني ثماره المرّة.
فما بين ساعة وأخرى يفجعنا خبر قتل،، ونبأ أصابة،، وحكاية سرقة،، وقصة اغتصاب.....
ثم إننا نتعجب من الأحداث، ونتساءل: لماذا كل هذا ؟ وأين عون الله لنا ؟؟ ألسنا قد ثرنا على الباطل ونهضنا لإقامة العدل وإرساء دعائم الحق ؟؟ وربما يردد البعض: ليتنا ما ثُرنَا ولا انتفضنا، ولا تكلمنا ولا اعترضنا......
لكن الحق أن الله لا يظلمنا شيئاً (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى30)
وحين نعود أدراجنا، ونسترجع واقعنا، ونتذكر صمتنا، وسكوتنا، نوقن ونتأكد أن المبادرة كانت بأيدينا ونحن من أضعناها، نعم، لقد نَمَا المنكرُ بيننا وترعرع.. لقد نبت الفساد،، وولد المفسدون بين أيدينا وتربوا على أعيننا.. فمنا الساكت يقول مالي وماله.. ومنا المعجَب – لجهله -: يشجع ويرضى،، وربما يتمنى أن يلحق بركب الفساد...ومنا المختبئ في عالمه ( يجبن ) عن المواجهة والمجابهة...بينما كان المصلحون الصادحون بالحق بين صفوفنا قلة،، وأصواتهم خافتة،، وأفعالهم مستغربة...لذا وبلا مواربة أو محاباة،، وبكل صراحة ووضوح.. أن الذي يحدث لنا الأن هو جنى زرعٍ زرعناه بأيدينا،،نعم لقد زرعنا، وها نحن نحصد..فلا ينبغي أن نلقي باللائمة على غيرنا،، قدر ما نرجع السبب إلينا..لولا سكوتنا لما ولد (الفرعون ).... ولولا جبنُنُا وخورنا لما تملك أمرنا الرويبضة..ولولا بعدنا عن منهج الله تعالى، وتركنا لأمره (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الأنعام 111. لما وَكَلَنا اللهُ عز وجل لأنفسنا..فعلينا أن نعي الدرس جيداً،، فكم كان هذا الدرس قاسياً، ولنحذر أن نترك الفساد ثانية يتجذر في أرضنا، أو أن نوسع للمفسدين ليتملكوا زمامنا، فلن يدفع الثمن أحد غيرنا..