"ربنا يشفي كل مريض".. ذلك الدعاء الذي يردده المصريون دائما حينما يعلمون أن هناك من أنهكه المرض، وتتحول آهات الألم إلى بسمات فرح حينما يشفي المريض، وتبدأ حياته من حيث انتهي المرض.. إلا مريض الجذام.. ذلك المرض الخبيث الذي تكون ويلات من شفي منه أكثر ممن أماته. فمريض الجذام يتعذب ويتأوه من المرض الذي ينهش في جسده ويأكل أطرافه، بينما من يشفي منه يعاني رفض المجتمع له ونبذه بل إن أقرب الناس إليه حتي أبناءه يفرون منه، فخريج مستعمرة الجذام لايجد له مكانا بين أهله، وإذا عاد إليهم محاولا العثور علي حضن دافئ يعوضه سنين الوحشة والصرخات، وما إن شاهدوا ندبات الجذام الظاهرة عليه يمتلئون منه رعبا ويفرون منه خوفا من العدوي في حين أن الأطباء الذين سمحوا له بالخروج يعلمون أن المرض انتهي من جسده ولم يعد هناك خطورة منه.. ذلك النفور الاجتماعي من خريجي مستعمرة الجذام دفعهم إلى نسيان ذكرياتهم القديمة.. طفولتهم وأراضيهم وأهاليهم.. والعودة إلى المستعمرة مرة أخرى، واستوطنوا حولها، وقاموا ببناء منازل لهم من الصفيح، كونوا قرية خاصة بهم، وكل من خرج من المستعمرة ونبذه أهله يأتي إلى تلك القرية ويحتضنه أهلها بصدر رحب لعلمهم بأنه لا خطورة منه وأنه شفي من المرض. قرية خريجي مستعمرة الجذام في أبوزعبل بمحافظة القليوبية، عرفت في البداية بعزبة الصفيح نظرا لأن كل بيوتها كانت مقامة بالصفيح، ولكن بعد أن بدأت الجمعيات الحقوقية وعلي رأسها جمعية كاريتاس مصر تنظر لأحوال أهل القرية وأنشأت لهم منازل حديثة ومراكز صحية ومدارس، سميت بقرية عبدالمنعم رياض، وأصبح سكانها الآن أكثر من 4 آلاف نسمة، يعملون في كل شيء ويتحدون اليأس والخوف. والغريب أن أهالي مرضي الجذام الذين رفضوهم من قبل جاءوا ليعيشوا معهم في تلك القرية المملوءة بالحنان والخير والتي حولها حب المرضي وترابطهم مع بعضهم إلى ما يشبه طوق النجاة للأصحاء الفقراء الذين يقصدونها للمعيشة فيها والاستمتاع بالطمأنينة داخلها برغم فقر مواردها وتهميش المسئولين لها. انتقلت "مجلة الشباب" إلى تلك القرية وقابلت أهلها ولأننا لم نكن نفهم وانسقنا وراء كل ما قيل عن المرض والخوف من مرضاه، انتابنا القلق من الاقتراب منهم خاصة حينما رأينا آثار المرض ظاهرة على وجوههم وأيديهم، حتى بادرنا أحدهم وهو يحتضن ابنه قائلا "يعني هو أنا لو فيا حاجة خطر مش هخاف على ابني اللي هو حتة مني؟"، هنا أدركنا مدى ظلم المجتمع لمرضي الجذام وهم أحرص على الأصحاء من أنفسهم، وحينما يشعر مريض الجذام بخطورة مرضه يبتعد عن الأصحاء ويحذرهم. سلمنا باليد علي أهالي القرية وتركنا كل الوساوس جانبا وداعبنا أطفالهم وأخذنا نضحك مع شبابهم وبناتهم، وبدأ محمود علي، 70 سنة، يحكي مشواره مع المرض قائلا إنه من مواليد مركز البداري في أسيوط، وأصيب بالمرض في عام 1970، واكتشف إصابته أثناء وجوده بالمدرسة في الصف الأول الإعدادي، وحولته الوحدة المدرسية إلي مستعمرة الجذام في أبوزعبل، ويقول : هرب مني أهلي وانقطعوا عن زيارتي، وعندما شفاني الله وسمح لي الأطباء بالخروج، هرولت مسرعا إلي أهلي فوجدت أخي ينبذني ويرفض أن يسلم علي، مع أنني كنت في أشد الحاجة إلي حضنه بعد 9 سنوات من الشقاء مع المرض، وكان أبي وأمي متوفيين، ووجدت أهل القرية يهربون مني رغم أنني حاولت أن أشرح لهم كثيرا أنه لو كان المرض لايزال في جسدي لما جئت إليهم، لأنني عانيت ويلات هذا المرض وأشفق أن أصيب به غيري، ولكنهم ظلوا يعاملونني بقسوة حتي هربت أنا من معايرتهم لي بمرضي، وجئت إلي هنا وبنيت بيتا بجوار مستعمرة الجذام، وتم توظيفي في حي المطرية كعامل نظافة، وعدت إلي بلدتي مرة أخري في عام 1989 ولم يقتنع بشفائي إلا "هدى عبدالعظيم" ابنة عمي وتزوجتني لتؤكد لهم أنني أصبحت شخصا عاديا لا يعاني الجذام، فقاطعتها أسرتها فأخذتها وجئت للمعيشة هنا بجوار مستعمرة الجذام، وأنجبنا وائل، وياسمين ونطالب المسئولين بتمليكنا البيوت التي أنشأناها حول مستعمرة الجذام. عم "عشم" يحكي عن نفسه قائلا : اسمي عشم جادالله سعيد، من مواليد محافظة سوهاج، ودخلت مستعمرة الجذام في عام 1979 وكان عمري وقتها 22 سنة، والمعروف عن أهل الصعيد أنهم يهربون من مريض الجذام بشدة بل ويطردونه بعيدا عنهم، فعشت وحيدا لسنوات طويلة داخل المستعمرة، كنت أري المرض ينهش في جسدي ويملؤني الرعب حينما أشاهد أيدي زملائي التي تساقطت من المرض، كل هذا دون قريب يسأل عني ويشعرني أنني بني آدم له قيمة عند أحد، وبعد أن خرجت ظننت أن أهلي سيقابلونني بتهاني الشفاء فوجدتهم ينظرون إلي على أنني عدو جاء ليدمرهم ويعديهم بالمرض، فبكيت من عدم تصديقهم لشفائي، وجئت هنا في قرية عبدالمنعم رياض وتزوجت إحدى خريجات مستعمرة الجذام ونعيش حاليا سعداء. الحاجة إنصاف، لا تتذكر اسمها كاملا، وكل ما تذكره أنها جاءت إلي مستعمرة الجذام بعد وفاة الرئيس عبد الناصر بأربعة أيام، وكانت النساء تصرخ على وفاة الرئيس بينما هي كانت تصرخ من المرض ومن قسوة أهلها عليها ونبذهم لها، وشفيت من المرض بعد أن تآكلت يداها، وبرغم فداحة مصابها إلا أنها لا تتوقف عن الضحك وقول الإفيهات الساخرة، وتقول إنها الآن لا تستطيع العمل وكل ما تركه لها المرض يدان مدمرتان تستطيع فقط من خلالهما أن توصل حبة اللب إلي فمها كي "تقزقزها"، وتجلس أمام البيت الذي بناه لها أصحاب القلوب الرحيمة لتبيع البيض من أجل ان تنفق علي أبنائها بعد أن توفي زوجها، وبعد أن رفض أهلها استقبالها عقب خروجها من المستعمرة. اكتشف هلال عبده مرضه بالصدفة حينما ذهب إلي العيادة الخارجية بالفيوم وبعد أن صرف آلاف الجنيهات لعلاج ذلك الألم الشديد في جسده وأطرافه، ونصحه أحدهم بالذهاب إلي العيادة الحكومية وقطع تذكرة كشف بجنيه واحد فقط، فضحك هلال رغم ألمه وقال: يعني الاطباء اللي خدوا مني آلاف فشلوا والتذكرة أم جنيه هي اللي هتجيب الديب من ديله؟. ولما ألح عليه الناصحون ذهب وهناك اكتشفوا أنه مريض بالجذام وجاء إلى المستعمرة وخرج منها بعد 7 سنوات، وبرغم عدم نفور أسرته منه إلا أن أهل قريته بالفيوم أشعروه بأنه منبوذ فأخبر أسرته بأنه قرر الرحيل إلى قرية مرضي الجذام وبني بيتا وتزوج بفتاة لم تكن مريضة، ويؤكد: "أنا قلت لأهلها إني كنت مريضا عشان ما يكونش الجواز باطل رغم أنني دلوقت مش مريض، وهما لما لقوني صريح وآمين معاهم جوزوني بنتهم وهم مطمئنون، ودلوقتي أنا عايش مع ناس مش بيعايروني بالمرض!!" ناصر عبدالعال وحنان حمدان، تعرفا علي بعضهما داخل مستعمرة الجذام، هو من بني سويف وهي من البحيرة، ولكنهما أحبا بعضهما برغم ويلاتهما مع المرض، وساعد الحب في تقوية مناعتهما ولم يلبثا وقتا طويلا داخل المستشفى حيث خرجا بعد عام واحد فقط من دخولهما في عام 1986، ويقول ناصر: "ظهر علي المرض وأنا في المدرسة، وكان التلاميذ يعايرونني فبطلت أروح المدرسة وتمكن مني المرض لدرجة إني ماكنتش أقدر أمشي، وكانوا بيشيلوني من الأرض ويحطوني علي السرير، ودخلت مستشفي الجذام في أبو زعبل واتعرفت على حنان وهي اللي صبرتني علي المرض والمعاناة وبسبب حبها لي اتغلبت علي المرض وهي كمان وخرجنا من المستشفي، ولما لقينا زملاءنا عملوا قرية خاصة بيهم اتجوزنا وبنينا بيتا فيها ودلوقتي ربنا رزقنا ببنتين زي القمر". أما حكاية عم غطاس عبدالملاك؛ فهي مختلفة بعض الشيء، لأنه لم يكن يعالج في مستعمرة الجذام بأبوزعبل، وكان علاجه في مستعمرة الجذام بالمنيا ويقول: "ربنا كرمني وشفاني من المرض ولما خرجت لقيت الناس هناك بتعاملني وحش قوي، فعرفت إن ابن عمي مريض وموجود في مستعمرة أبوزعبل، قلت أزوره لأن محدش هيحس بقسوة المرض ده إلا اللي جربه، ولما حكيت له عن معاملة الناس السيئة لي في المنيا، قالي على القرية بتاعة مرضى الجذام وجيت هنا وربنا كرمني واتجوزت واحدة ما كانتش مريضة، ومراتي استحملتني كتير". ويقول ميلاد رزق، مدير شئون العاملين بمستعمرة الجذام في أبوزعبل، ومسئول فرع جمعية كاريتاس مصر هناك: إنه حينما تم انتدابه من مصلحة الضرائب للعمل بالمستشفى كان خائفا بشدة من العدوى بالمرض، حتي رأي المرضي متصالحون مع أنفسهم ويقاومون المرض بشدة وشعر أنهم يخافون علي الأصحاء بشدة ويخشون عدواهم بالمرض، فتعاملت مع الأمر بطبيعة ولما وجدت أن خريجي المستعمرة لا يجدون مكانا يؤويهم بعد أن رفض أهاليهم استقبالهم، ساعدناهم من خلال جمعية كاريتاس مصر في بناء منازل لهم حول المستعمرة، وتزوجوا ببعضهم وأنجبوا أطفالا أصحاء، وبنينا لهم حضانة ومركز شباب ومكتبة للقراءة ومدرسة إعدادي، ونطالب المسئولين بمساعدتنا في إيجاد حياة كريمة لهم حتي لا يعود عليهم المرض مرة أخرى بسبب ظروفهم المادية السيئة، ونؤكد أنه ليس هناك خطورة منهم والأدوية الحديثة قضت علي المرض في أجسادهم. كانت هذه حكاية المرض والألم والفرح أيضا لخريجي مستعمرة الجذام الذين فرض عليهم أن يظلوا معزولين في قرية وحدهم أشبه بالحجر الصحي. وبقيت لنا ملحوظة أخيرة: كل فرد من أهل القرية يعيشن على وجبة يومية تصرفها له إدارة مستعمرة الجذام وتتكون من ثلاثة أرغفة وقطعة لحم أو بيض وجبن!! --- تم نشر هذا الموضوع على صفحات "مجلة الشباب" في فبراير 2008 وتم إعادة نشره اليوم بمناسبة الزخم حول فيلم "يوم الدين" وما رصده عن حياة مرضى الجذام.