" زوجتى الغالية .. وصلت الى ميناء الأسكندرية يوم الأربعاء الماضى فى السابعة صباحا ثم إتجهت الى القاهرة .. لم ألتق بعد بالخديوى توفيق وسيعلموننى بموعدى معه .. والأن كيف حالك فى وحدتك؟ لم أحظ بدقيقة سكينة واحدة منذ إفترقنا أحمل هم قضائك الليل وحيدة". كانت هذه الكلمات الرقيقة هى أول رسالة من "جاستون شارل ماسبيرو" عالم الأثار الفرنسى لزوجته بمجرد وصوله الى الأسكندرية قادما من فرنسا الى مصر البلد التى وقع فى عشقها حتى قبل أن تطئها قدمه وكما يقولون "لكل غريب دهشة " كانت دهشة ماسبيرو بكل ما هو فرعونى تفوق رغبته فى البقاء بوطنه وإنتصر عشقه لمصر على حبه العظيم لزوجته لذا قرر أن يتركهما معا الزوجة والوطن ويأتى الى ارض المحروسة ليكمل حياته بها ولم يكن يعلم أن إسمه سيبقى مخلدا بها على أهم مبنى حكومى فيها . "جاستون شارل ماسبيرو" هو الإسم بالكامل لماسبيرو الذى لانعرف عنه سوى مبنى الإذاعة والتليفزيون المصرى الذى يقف شامخا أمام نيل مصر العظيم ليشهد على عشق هذا الفرنسى لتراب مصر وحضارتها وهى أيضا لم تبخل عليها بالكثير من أسرارها وكنوزها. ولد ماسبيرو فى باريس عام 1846 لأب إيطالى غير معروف وتولى تربيته أحد النبلاء الإيطاليين وعندما وصل الى الثانية عشر من عمره بدأ يتعلم اللغة الهيروغليفية ويهتم إهتماما خاصا بالتاريخ الفرعونى لذا قرر أن يتعلم ويتقن اللغة العربية حتى فاز فى المسابقة العامة للأدب العربى وهو فى سن الثالثة عشر وإلتحق بعدها بمدرسة "إيكول نورمال سوبريور" التى أنشئت لإلتقاط المواهب وتخريج رجال الدولة ونال جائزتها الأولى فى الأدب والتاريخ عدة مرات وعندما وصل الى عمر ال21 إلتقى بعالم الأثار " أوجوست مارييت" ووصف له مدى عشقه وشغفه بالتاريخ الفرعونى فأعطاه مارييت نص هيروغلوفى وطلب منه ترجمته ورغم صعوبة النص إلا أن ماسبيرو إستطاع فك رموزه فى سبع أيام مما أثار إعجاب "مارييت" ونصحه بدراسة علم المصريات وعمل ماسبيرو بنصيحته ودرس هذا العلم بمفرده من خلال إطلاعه على الأثار المصرية التى كانت موجودة وقتها فى متحف اللوفر ونقوش المسلة المصرية بميدان كونكورد وحقق شهرة كبيرة فى علم المصريات حتى تم إختياره عام 1869 ليكون مشرفا على أول رسالة دكتوراه فى علم المصريات"إيحبتولوجى" بجامعة السربون وكان أصغر من منح لقب أستاذ مساعد بها وفى عام 1874 حققت محاضرات ماسبيرو عن مصر شهرة كبيرة وبدى وهو يتحدث عن مصر وكأنه ولد بها رغم أنه لم يكن رأها من قبل وكان المفروض أن يتم تعيينه بشكل رسمى فى السربون إلا أنه قام بثورة ضد قرار الحكومة الفرنسية بفرض رقابة على المكتبات ورفض التراجع عن موقفه مقابل التعيين قائلا "لن أبدأ حياتى بهذا الموقف الجبان" . وفى عام 1876 كانت الصدفة التى غيرت حياة ماسبيرو عندما مرض أستاذه "مارييت" فلم تجد الحكومة الفرنسية أمامها سوى ماسبيرو الذى كان يجيد اللغة العربية فى السفر الى مصر ليتولى بدلا من أستاذه منصب مدير مصلحة الأثار المصريةلأن فرنسا كان تحرص على أن تبقى صاحبة اليد المحركة لقطاع الأثار فى مصر لكونه أهم نقاط قوتها فى مواجهة النفوذ البريطانى ومن ثم إضطرت لإختياره رغم غضبها عليهوكأن القدر أراد لحلم حياته أن يتحقق فجاء الى مصر فى5يناير عام 1881 وتولى منصب مدير "الأنتكخانة" وأنشأ ماسبيرو بها أول مطبعة هيروغليوفية . وبعدما حقق نجاحا كبيرا بالأنتكخانة أصدر الخديوى عباس حلمى الثانى فرمانا بتعيين ماسبيرو مديرا لعموم المتاحف المصرية براتب ألف جنيه فى السنة وهو بالمناسبة أعلى راتب حصل عليه موظف مصرى أو أجنبى على مدى تاريخ مصر كله قياسابهذا الزمن . إختارالباحث الفرنسى الإقامة فى عوامة على النيل كانت معروفة وقتها بإسم "المنشية" وأمضى بها أغلب حياته تقريبا وأكمل الحفريات التى كان يقوم بها أستاذه "مارييت" فى سقارة كما أنشأ المعهد الفرنسى للأثار الشرقية الذى لم تقتصر الدراسة فيه على الأثار الفرعونية بل إمتدت للأثار الإسلامية والقبطية . كان لماسبيرو الفضل فى إكتشاف أكثر من أربعة ألاف نص بالهيروغليفية فى معبدى إدفو وأبيدوس كما إستكمل أعمال إزالة الرمال عن أبو الهول مؤكدا وجود مقابر تحتها ولم يجد شيئا ولكنه أصر على وجود مقابر بتلك المنطقة والمدهش أنه تم إكتشاف تلك المقابر التى تحدث عنها منذ عدة سنوات وفى نفس الأماكن التى كان ينقب بها. لماسبيرو فضل كبير فى إعادة ترتيب المتحف المصرى الذى كان موجودا ببولاق وقتها ولكن هذا المتحف أصبح يمثل خطورة كبيرة بعد زيادة الفيضان فإختار المتحف المصرى الحالى ونقل إليه كل محتويات المتحف القديم عام 1890 كما نقل إليه أيضا خبيئة كان إكتشفها بالكرنك تحتوى على مئات التماثيل المنتمية لعصور مختلفة . سرقة أثار مصر وتهريبها كانت تزعج الرجل الغيور على ارض المحروسة بشدة لذا قام بمواجهة تلك السرقات ونقل بمساعدة العالم المصرى " أحمد كمال " المئات من الأثار المنهوبة الى المتحف المصرى كما أنه كان صاحب الفضل فى سن قانون جديد ينص على آلا يسمح للأشخاص بالتنقيب عن الأثار ويقتصر الأمر على البعثات العلمية فقط مما حد من سرقة ونهب جزء كبير جدا من تاريخناوأثار ضده حقد المهربون الأجانب ولم يكتف بذلك إنما ساعد البوليس المصرى عام 1881 فى القبض على عائلة "عبد الرسول "أشهر من عملوا بتجارة الأثار فى تاريخ مصر وأجبرهم على الإعتراف بسرقاتهم وحصل منهم على معلومات عن مكان فى الدير البحرى لم يكن يعرفه أحد غيرهم وقام بالتنقيب فيه حتى عثر على مومياوات أحمس الأول وتحتمس الثالث ورمسيس الثانى. وفى عام 1892 قدم "ماسبيرو " إستقالته وعاد الى فرنسا بسبب المشاكل التى تعرض لها من وجود الإنجليز فى مصر وظلت روحه معلقة بمصر حتى عاد إليها زائرا عام 1914 وبقى بها لمدة عاما واحدا سافر بعده الى فرنسا وتوفى عام 1916 وأطلق إسمه على شارع مواجه لكورنيش النيل تكريما له وتخليدا لأعماله العظيمة فى مصر وعندما أنشأ بها مبنى الإذاعة والتليفزيون إتخذ نفس الإسم وسجل المخرج شادى عبد السلام إسم ماسبيرو أيضا فى السينما بفيلم " المومياء". وليت المصريين تعلموا الدرس فى حب الوطن والحفاظ على أرضه وتاريخه من الغريب عنهم الذى عشق أرضهم وحافظ عليها أكثر من أصحابها فالمثل الصينى يقول "أنك لاتنزل النهر مرتين " ولكننا فى مصر نشمر وننزل النهر والبحر والترعة مرات ومرات ونمرض ونموت ولكننا أبدا لانتعلم الدرس ولا نتوب عن ما فعلنا فلو كنا تعلمنا الحفاظ على أثارنا وترابنا وتاريخنا من الفرنسى الغريب لربما إختلف الأمر كثيرا ولكننا اليوم وبعد أكثر من مائة وأربعون عاما على إكتشافات ماسبيرو وحربه ضد سرقة الأثار مازالت أثارنا تنهب وتاريخنا يسرق ليعرض فى متاحف العالم كمعجزة لن تتكرر . # #