كم مرة- لا أنساها أبدا- قابلت الأستاذ بليغ حمدى ؟ نعم وأقول لكل أصحابى: إننى عشت زمن بليغ حمدى وقابلته وجلست معه فى حوار طويل تكلمنا فيه عن الغربة والموسيقى وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم ووردة- طبعا- والجميلة شادية. بليغ حمدى الذى لم نعرف- فى مصر- أن بلدنا أنجبت هذا العبقرى الذى عاش فى شبرا أغلى سنوات حياته، لا يمكن أن أختصر حق بليغ حمدى فى أنه كان موسيقارا عظيما ، لكنه كان إنسانا أعظم، بالبحث عن عبقرية بليغ حمدى سوف تقودنا اكتشافات مبهرة فى حياته الخاصة التى امتدت لتعيش كل شىء وكل حالة وكل إحساس، الرجل الذى كنس شوارع القاهرة شوقا إلى جملة موسيقية يضيفها عمدا باقتدار إلى موسيقاه ، الرجل الذى لم يترك آهة تخرج من صدر عابر سبيل إلا وجعل منها فاصلة موسيقية تشبه حياتنا، الرجل الذى كان موهوبا إلى درجة أن كل نغمة يريدها فى لحن تصبح سهلة هينة بسيطة، لا يجد صعوبة فى جعلها موسيقى .
بليغ حمدى ، حكى لى أنه درويش فى بلاد الله ، منذ طفولته وهو هائم على وجهه فى عالم الموسيقى ، نفسه الرجل الذى نسى موعد زفافه على السيدة وردة لأنه كان مشغولا بلحن جديد لعبد الحليم حافظ ، وحين جاءت له الفكرة الرئيسية فى اللحن سافر إلى بيروت لكى يكتمل فى مقهى يطل على الروشة ، ثم تذكر أن الليلة حفل زفافه فعاد منكوش الشعر ببنطلونه الشارلستون الواسع وبلوفر أزرق ليتزوج حبيبته الأولى والأخيرة ومطربته القديرة وردة .
فى المرة الأخيرة التى قابلت فيها مولانا- فى الموسيقى- الأستاذ بليغ حمدى- قبل وفاته- كان يفكر فى المرحلة الرابعة لموهبته الفنية، بعد مرحلة ميلاده الأولى ثم مرحلة عبد الحليم وأم كلثوم ثم مرحلة على الحجار ومحمد منير، كان يأمل أن يكتب ويلحن أوبريتات شعبية تقدم للجمهور موسيقى لا تعتمد على النجم، إنما تعتمد على الموسيقى ومتعة الموسيقى .
الآن أتخيل ماذا لو كان بليغ حمدى قد امتد به العمر ونفذ وعده ، وترك لنا أوبريتات رائعة نذهب إليها سعداء لأننا نحب الموسيقى، نصلى ونمحو خطايا، ونحيا ونطول السماء بهذه المتعة الرائعة.
لكن بليغ مات ، وفى نفس التوقيت تقريبا ماتت أشياء كثيرة، مات إحساس الدولة بقيمة الموسيقى والسينما والمسرح والفنان، لم يستوعب زمن منتصف التسعينيات أن وجود فنون جميلة راقية يعوض كثيرا غياب دروس التعليم ودروس الدين الحقيقية.. الجهل ليس فقدان الحروف، إنما فقدان الذوق والتذوق .
نفس التوقيت الذى كان فيه تجار السيراميك يمحون مكتبات الفجالة لكى تتحول إلى محلات تبيع قواعد الحمامات وأحواض الغسيل، وتجار الكاوتش يستقطعون مسارح وسينمات عماد الدين، وتجار الممنوعات يمنحون جوائز الدولة ويخططون للاستيلاء على الإعلام بصحفه ومجلاته وقنواته.
الآن- فعلا- أعتقد أن العباقرة ماتوا فى الوقت المناسب لكى لا يعيشون على حسرة ويموتون قهرا ، بليغ وعبد الوهاب والموجى وفؤاد المهندس وسعاد حسنى إلى آخر القائمة التى لا آخر لها . اسمعوا بليغ ، فهو التلميذ الأستاذ. هو مولانا العاشق لمصر والتراث والشجن والحب والجمال.