في الصفحات الأولي من مسرحية مجنون ليلي لأمير الشعراء أحمد شوقي تجد هذا الحوار الجميل الساذج بين هند وليلي.. تقول هند وهي تضيق بالحياة في الصحراء : سئمنا من البيد ياابن ذريح ومن هذه العيشة الجافية ومن موقد النار في موضع ومن حالب الشاة في ناحية وانتم بيثرب أو بالعراق أو الشام في الغرف العالية وقد تأكلون فنون الطهاة ونأكل ماطهت الماشية ! وترد عليها ليلي : فما البيد إلا ديار الكرام ومنزلة الذمم الوافية لها قبلة الشمس عند البزوغ وللحضر القبلة الثانية ونحن الرياحين ملء الفناء وهن الرياحين في الآنية ويقتلنا العشق والحاضرات يقمن من العشق في عافية ولم نصطدم بهموم الحياة ولم ندر لولا الهوي ماهية ! ولكن ليلي التي تتغني بالصحراء والحياة فيها , هي اكثر تعاسة من هند التي ضاقت بهذه الحياة الشاقة الجافة ! وهذه الصحراء لم يعد لها وجود , الا علي الخريطة . فقد استبيحت الصحاري الآن .. بالطرق المرصوفة والسيارات والطيارات وأنابيب البترول .. واجهزة التليفون واسلاك الكهرباء .. وانتقلت المدينة إلي قلب الصحراء .. والي سكان الصحاري . وفي كثير من البيوت يعلقون صورة للابل .. والسفن القديمة للصحراء .. كما نعلق نحن في مصر في بيوتنا صورا لحاملات البلاص .. ولكن الذين يعلقون حاملة البلاص يقصدون أشياء أخري كثيرة .. فالبلاص لابد ان يسقط منه بعض الماء علي صدر من تحمله .. وهنا يقوم الماء بدور السوتيان , فيبرز النهدين .. والصدر .. ولأن حاملة البلاص قد ملأته من الترعة , فهي قد نزلت الي الماء , وحتي لايبتل كل ثوبها , فإنها ترفع طرفا منه .. حتي تبدو ساقها للذين جلسوا بالقرب من الترعة .. فهي اذن لوحة استعراضية للوجه والنهدين والردفين والساقين .. مع اننا نسميها حاملة البلاص ! وانتشر الورد الصناعي الأقوي عودا والأطول عمرا .. أما الورد الطبيعي الأقصر عمرا والاكثر عطرا .. فله مناسبات معروفة : الأفراح والمآتم .. والورد مثل الحب الصادق العميق : حي قصير العمر .. والجنس مثل الورد الصناعي في الآنية جاف لايموت ولايحيا , وانما هو يتكرر .. والشعراء والفنانون جميعا يغنون وراء ليلي .. وراء الحب وعذاب الحب .. وراء الضعف الانساني .. فليس الحب هو إن تملك أحدا .. ولا ان تستمتع به ولكن ان تحلم بذلك .. وكل قصص العشاق في التاريخ , هي قصص ناقصة لم تكتمل .. ولولا هذا النقص في قصص الحب ماكان الحب .. أو ما كان الحنين إلي النهاية .. وبين الحب والحنين الي المحبوبة يتفجر كل الشعر .. ولولا هذه المسافة بين المحبين ماكان الحب العذري .. هذه المسافة الآن قد قضت عليها الحياة الاجتماعية : المقاهي ودور السينما والتليفونات والكليات والأندية الرياضية .. لم تعد هناك مسافة ولم يعد هناك خوف .. فالمدن كبري وهي قادرة علي إخفاء العشاق .. وحبوب منع الحمل قادرة علي ان تتكفل بالباقي ! ولذلك أصبح الحب غريبا ! وأصبحت أعجب أخبار الدنيا ان يحب إنسان أحدا .. وكل المجانين في الشعر العربي عاشوا وماتوا علي أبواب المحبوب .. وكل مجانين الحب في الأدب العربي لم ينالوا من المحبوب شيئا . الشاعر الايطالي دانتي تخيل ان حبيبته بياترنيشه تمشي معه في الغابة وراح يروي ما الذي رآه في الجنة والنار .. مع ان بياترنيشه هذه فتاة غبية بليدة .. كان زواجها عاديا : اختارت رجلا غنيا وفضلته علي شاعر عبقري مفلس . وحبيبة الشاعر بتراركه .. وحبيبة الفيلسوف نيتشه كانت فتاة يهودية .. وكانت محبوبة لعباقرة عصرها : العالم فرويد والشاعر رلكة والفيلسوف نيتشه .. وقد ربطتهم في عربة يجرونها , وهي تلهب ظهورهم بالسياط .. حمير أو خيول أو كلاب .. وأسعدهم ذلك !! وكذلك كل هذه الأسماء المعروفة في الأدب العربي : قيس والمجنون وكثير وعمر بن أبي ربيعة والرافعي والعقاد وغيرهم .. ولذلك سوف تبقي قصة غرام إدوار الثامن بامرأة أمريكية متزوجة هي قصة العصر الحديث كله . فمن أجلها ترك العرش !! وسوف تبقي قصة الأميرة ديانا التي تزوجت ولي عهد بريطانيا من معالم الخير في هذه الدنيا .. انها فتاة عادية سوف تكون ملكة .. وأشفق الشعب البريطاني عليها من قوالب الملك وقيود الأسرة العريقة .. ولكنها أصرت علي أن تبقي بسيطة تنزل إلي الأسواق تشتري احتياجاتها .. وان تحمل طفلها .. فإذا بكي وضعت اصبعها في فمه ليسكت كما تفعل كل الأمهات والخادمات أيضا ! وازداد حب الناس لها وتمنوا لها السعادة .. لأنها بطلة قصة حب .. وإذا كان في الدنيا كلها من عنف : السياسة والاقتصاد والحرب .. وإذا كان الشباب يرقص بعنف ويغني بعنف .. ويموت بقسوة , ويكره بدم , فما ذلك إلا لأنه قد انساق وراء قسوة الكبار .. ولكنه في نفس الوقت في حاجة إلي الحب . وإذا كان الناس يفضلون عصير التفاح والبرتقال علي أكل التفاح والبرتقال .. فلأن التكنولوجيا الحديثة قد فرضت علينا لأسباب اقتصادية .. ولكن لاتزال أفلام رعاة البقر محبوبة من كل الناس .. لأن فيها شجاعة ورجولة ولأن فيها قوة فردية .. ولأنها فطرية فالناس يمشون علي أرجلهم ويزرعون بأيديهم .. ويأكلون بأصابعم .. ويصيدون الحيوانات ويطبخونها .. وينامون في الصحراء .. ولسبب آخر : إنهم يحبون .. فالمرأة تظهر في هذه المسلسلات : نعمة ورحمة ونقطة تحول .. وفي التوراة تقرأ نشيد الانشاد فتجد بطلة النشيد فتاة اسمها شولاميت راعية غنم .. خطفوها ووضعوها بين ألوف من حريم الملك سليمان , ولكنها ظلت تبكي حبيبها راعي الغنم .. وكان بكاؤها أول تمرد معروف علي الحب بالاكراه والزواج بالقوة وشراء القلب بالذهب ! وفي الشعر العربي أن فتاة اسمها ميسون زوجوها بالقوة فقالت : لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إلي من قصر منيف وأكل كسيرة في كسريتي أحب إلي من أكل الرغيف وبعل من بني عمي رفيق أحب إلي من ملك عنيف وكلب ينبح الطراق دوني أحب إلي من أسد مخيف ! انها تفضل الحب في كوخ مع الكلب , علي الحياة في قصر مع الأسر والكراهية .. شاعر قديم أيضا يقول : تتيه علي العشاق في حلل خضر مفككة الأزرار محلولة الشعر فقلت لها : ما الاسم؟ قالت : أنا التي كويت قلوب العاشقين علي الجمر شكوت إليها ما أقاسي من الهوي فقالت : إلي صخر شكوت ولم تدر فقلت لها : إن كان قلبك صخرة فقد أنبع الله الزلال من الصخر ! ان كل العاشقات الحبيبات العذريات : شولاميت وميسون .. انهن مريضات حبا .. يقتلهن العشق .. وبنات المدن يقمن من العشق في عافية .. ولاينقذ الناس من الناس إلا ألوان من الحب .. حب الناس .. حب الخير .. حب الجمال .. حب العدل .. حب الله ..