هذا الرجل غريب حقا.. لعيناه لمعة، لن تدركها إلا وهو جالس أو ينظر سريعا إلى البحر، بخلاف هذا الوضع ستجد عينان مستكينتان للغاية، مسملتان لله والقدر والبشر في بعض الأحيان. هيثم خيري عوض.. تخيل أن اسمه عوض ويعمل صيادا؟ سيبدو لك أن اسمه تقليديا جدا، وأن عيشته أيضا تقليدية جدا، وستعرف بعد قليل أن حياته لا يجعلها مكتملة إلا بعض المنغصات والالتواءات. يكره الرسو على الأرض، هو قال هذا أكثر من مرة، وحين كنا نكف عن الصيد في منطقة عميقة ونذهب قرب الشاطئ يفقد حماسه. لن تشعر به أصلا إن صادفك حظك وطلعت معه "طلعة صيد"، بالكاد تراه ينام في مقدمة اللانش أو يعمل "دور شاي" للصيادين أو يتحدث ببطء وهدوء وصوت بسيط لا تكاد تسمعه مع "الريس حسن"، ريس المركب، أو وهو يتحدث إليك بجمل بسيطة للغاية إن كان قد عرفك وعرفته وبدأتما تتحدثان: حاسب.. أيوه اسحب بقى.. متشدش لها قوي إلا لما تتمكن من الطعم. يقصد السمكة بالطبع، يعرف أن نوعها "قمر" دون أن يلمس الخيط.. من طريقة "تنتيشها" في البحر يعرف نوع السمكة التي ستخرج، هو خبير بشئون الصيد وواسع الاطلاع على سمكات البحر الأحمر والمتوسط بغير كلفة، بمنتهى التواضع والرصانة والطيابة. رث الثياب تقريبا، أو لبساطته قد لا تلحظ ما الذي يرتديه، ربما شبشب وبنطلون قماش أو "ترنج" و"تي شيرت" مفتوح الياقة من كثرة ارتدائه. له أذنان كبيرتان، تميزانه، لكنه لا يثير الضحك ولا الشفقة، وأسنان بيضاء تماما لامعة، كبيرة، تستقر في فكه الكبير بغير انتظام، شعر ناعم فاحم السواد لا تعرف له "تسريحة" إنما يتركه دائما كيفما استقر من فعل الريح، وجسد ليس هزيلا ولا قويا، بين بين، وليديه قبضة بحار متمرس، وكرش صغير بفعل "القولون" كما عرفت منه فيما بعد. حين يقف ساهما يرقب شيئا ما، لا أعرف كنهه في العادة، تجده واقفا كحيوان بدائي أو كرجل إفريقي يكاد يثني يداه أمام صدره، وهو يترقب. متى تحدث لأول مرة معك؟ تقريبا أيضا لا تتذكر، لكنك تعرف فقط أن الكلام بينكما "إتسرسب بهدوء"، طلبت منه شاي فلبّى على الفور بهمة وكأنه تذكر شيئا جديدا عليه. سكرك إيه يا باشمهندس.. وإنت يا أستاذ تشرب شاي.. سكرك إيه مضبوط؟.. يا أفندية هانعمل دور شاي.. حد جاي معانا؟ مرة وقفت إلى جواره في مطبخ صغير جدا يفضى إلى طرقة هي كل قوام المركب، ومن خلف المطبخ غرفتان متر في متر تقريبا. تحدثنا بشيء من الاستفاضة. أنا بصطاد من صغري كنت قد كده (يشير إلى طول متر تقريبا). أتفحص أكثر سنه: كان عندك كام سنة. مش فاكر بس كنت عيل صغير قد بنتك (كنت قد أريته صورة ابنتي البالغة 5 سنوات). يحكي المزيد: فضلت أصطاد لحد ما عرفت كل صنوف السمك وكلت كل السمك اللي في البحر دقماق وسموس في النيل وفي البحر شعور ولوط وشخارم وحريد ماللي قلبك يحبها. اصطدت بره مصر.. في أوروبا؟ أومال إيه.. رحت باغي وشفت برج إيفيل.. رحت لندن وشفت الساعة الكبيرة اللي هناك.. واصطدت مرة توناية. سمكة تونة يعني؟ آه من ليبيا.. أكبر سمكة في عمري.. كانت توزن بالصلاة على النبي 400 كيلو. هنا كان ينظر إلى السمكة التي اصطادها، أكاد أتصور هيئته وهو يصيدها بصحبة جدعان صيادين آخرين، أعرف أنه صار كبيرا إلى درجة أنه زوّج ابنته حديثا، لكنه لا يزال شابا فتيا، في الخمسينيات من عمره. حكينا عن فرح ابنته، أو لنقل ذكرته به، حيث كان قد تحدث عنها باقتضاب شديد: ملحقتش الفرح.. والولية مراتي زعلت مني.. وحنان (ابنته) زعلت راخره.. بس نعمل ايه بقى.. النصيب. عرفت منه أنه كان يعافر في البحر الأحمر في ليلة بلغ ريحها 18 عقدة، أي يصعب الإبحار فيها إلى حد "يغيظ"، بحسب تعبيره، ومكث في البحث 3 ليال بصحبة فرج وعمار ويكن زملاء الشغلانة منذ 15 عاما تقريبا إلى أن هدأت الريح، وانتهى الفرح. بس بزور حنان الوقت.. أروح لها البيت، وهاتجيب لنا نونة. هاتعلمه الصيد؟ طبعا (قالها بشكل قاطع ورضا كامل عما يفعل). الواحد منا لو مصطادش هاتفوته خيرات ربنا كلها.. البحر والريح والهوا والميه والسما والسمك وخيرات ربنا. شوف الجبل. أنظر إلى جبل ينتمي لسلسة جبال البحر الأحمر، وفوق سطحه تلمع أشعة الشمس الأرجوانية. ماله. يا جدع بقولك شوف.. ربنا عنده خيال بردك. هنا توقفت كثيرا مع تلقائية الرجل في حديثه عن الله. ضحك ضحكة صافية، وأكمل: إحنا عندنا خيال بس هانروح فين من خيال ربنا.. إحنا هنا نقعد نتفرج على ملكوت الله وبس على كده. ومش بتزهق يا عم عوض. شوف بقى.. موضوع الزهق ده أنا معرفوش. عمرك شفت موجة قوم بعد دقيقة واحدة لقيتها نفس الموجة؟ أبدا.. عمرك شفت نوارس حاطة ف مكان فتقوم تشوف نفس النوارس في نفس المكان في اليوم اللي بعده.. عمرك جيت تصيد سمكة وفلتت منك وتاني يوم صدتها هي هي.. أبدا. ليلتها فرجني الرجل على مخلوقات غريبة، شفت أسماكا تنير البحث وأسماكا كالثعابين طويلة تشع نورا، وأسماكا تطير، وهو يتفرج عليها كأنه يراها لأول مرة، ويحكي لي عن أنواعها ويذكر أسماءها واحدة تلو الأخرى. عمي عوض من رشيد، له ابنتان وأبناء ثلاثة، يعمل بعضهم في البحر أيضا في الإسكندرية ورشيد صيادين، بينما ابتعد هو قليلا عن الأبناء والزوجة لأجل "أكل العيش"، لكني حين أبديت عدم تصديقي لتلك الرواية قال: أنا أحب أعيش مع نفسي كده. سيتحدث عم عوض عن السياسة بكثير من الضيق، كأنه يحكي في قضية لا يود النقاش فيها، لا يعرف إلا أن رئيس جمهوريتنا الحالي "السيسي". وإيه رأيك في أداؤه؟ لعله خير.. كويس واللهي.. أقولك حاجة.. أنا معرفش.. أضحك عليك تقوم تفقسني يعني وإنت راجل صحفي وفاهم.. هاهاها. طيب تعرف إبراهيم محلب؟ آه.. ماله راخر. طيب رئيس الوزرا الجديد شريف إسماعيل؟ لا.. معرفوش طبعا. أنا راجل صياد يا أستاذ هيثم مليش في الكلام ده. سأتركه مع نفسه كثيرا، لأنه يحب أن يكون وحده في بعض الأحيان، وحين أقترب منه صباح يوم تالِ في مقدمة المركب، أجده ممسكا بطرف خيط شديد في نهايته "تقل" مرمي في قاع البحر، وطعم وسن في انتظار سمكة، سيظل على هذه الحال لعدة ساعات يصطاد في هدوء إن لم يطلب منه أحدنا طلبا، كأن يجلب طعما أو شاي أو لشوي السمك. بعد عدة أيام من الصيد ومعافرة البحر يكون الجميع قد "انهد حيله"، ريس المركب والصيادين والهواة وزملاءه، إلا هو، ستجده مستكينا للبحر يميل معه في هدوء شديد، وحين أسأله عن رقم موبايله لن يعطيني جوابا شافيا: أنا كل ما اجيب موبايل يقع في البحر والسمك يسرق الرصيد كله.. هاهاها.. اقولك حاجة يا عم هيثم، انا عنواني ميتوهوش.. هاتلقاني هنا في البحر أو في مينا الكونيسة.. أنا أخوك عوض وخلاص.