شاهد.. هتافات حماسية من الجماهير خلال مباراة بيراميدز وسيراميكا كليوباترا    تشكيل باريس سان جيرمان لمواجهة نيس في الدوري الفرنسي    الحكومة تكشف تفاصيل جديدة عن وصول 14 مليار دولار من أموال صفقة رأس الحكمة    وكلاء وزارة الرياضة يطالبون بزيادة مخصصات دعم مراكز الشباب    بعد تشغيل محطات جديدة.. رئيس هيئة الأنفاق يكشف أسعار تذاكر المترو - فيديو    أبومازن: اجتياح قوات الاحتلال رفح الفلسطينية كارثة يدفع ثمنها الأبرياء    وزارة النقل تنعى هشام عرفات: ساهم في تنفيذ العديد من المشروعات المهمة    مخاطر الإنترنت العميق، ندوة تثقيفية لكلية الدعوة الإسلامية بحضور قيادات الأزهر    وزارة النقل تنعى الدكتور هشام عرفات وزير النقل السابق    رئيس المعاهد الأزهرية يتفقد بيت شباب 15 مايو لاستقبال طلاب ثانوية غزة    المشدد 7 سنوات لمتهم بهتك عرض طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة بكفر الشيخ    «جوزي الجديد أهو».. أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على ظهورها بفستان زفاف (تفاصيل)    طاقم عمل A MAD MAX SAGA في العرض العالمي بمهرجان كان (فيديو)    «الشعب الجمهوري» يهنئ «القاهرة الإخبارية» لفوزها بجائزة التميز الإعلامي العربي    أمير عيد يكشف ل«الوطن» تفاصيل بطولته لمسلسل «دواعي السفر» (فيديو)    هل الحج بالتقسيط حلال؟.. «دار الإفتاء» توضح    أمين الفتوى يحسم الجدل حول سفر المرأة للحج بدون محرم    خالد الجندي: ربنا أمرنا بطاعة الوالدين فى كل الأحوال عدا الشرك بالله    رئيس جامعة المنصورة يناقش خطة عمل القافلة المتكاملة لحلايب وشلاتين    يكفلها الدستور ويضمنها القضاء.. الحقوق القانونية والجنائية لذوي الإعاقة    "الزراعة" و"البترول" يتابعان المشروعات التنموية المشتركة في وادي فيران    الكويت تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للامتثال إلى قرارات الشرعية الدولية    محافظ مطروح: ندعم جهود نقابة الأطباء لتطوير منظومة الصحة    زياد السيسي يكشف كواليس تتويجه بذهبية الجائزة الكبرى لسلاح السيف    بث مباشر مباراة بيراميدز وسيراميكا بالدوري المصري لحظة بلحظة | التشكيل    رغم تصدر ال"السرب".. "شقو" يقترب من 70 مليون جنية إيرادات    جامعة قناة السويس ضمن أفضل 400 جامعة دولياً في تصنيف تايمز    الطاهري: القضية الفلسطينية حاضرة في القمة العربية بعدما حصدت زخما بالأمم المتحدة    إصابة 4 مواطنين في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    رجال أعمال الإسكندرية تتفق مع وزارة الهجرة على إقامة شراكة لمواجهة الهجرة غير الشرعية    مدعومة من إحدى الدول.. الأردن يعلن إحباط محاولة تهريب أسلحة من ميليشيات للمملكة    الزراعة: زيادة المساحات المخصصة لمحصول القطن ل130 ألف فدان    فرحة وترقب: استعدادات المسلمين لاستقبال عيد الأضحى 2024    إصابة عامل صيانة إثر سقوطه داخل مصعد بالدقهلية    «تضامن النواب» توافق على موازنة مديريات التضامن الاجتماعي وتصدر 7 توصيات    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    تحديد نسبة لاستقدام الأطباء الأجانب.. أبرز تعديلات قانون المنشآت الصحية    صور.. كريم قاسم من كواليس تصوير "ولاد رزق 3"    إسرائيل تتحدى العالم بحرب مأساوية في رفح الفلسطينية    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    الصحة: تقديم الخدمات الطبية ل898 ألف مريض بمستشفيات الحميات    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    للنهائى الأفريقي فوائد أخرى.. مصطفى شوبير يستهدف المنتخب من بوابة الترجى    قطع الكهرباء عن عدة مناطق بمدينة بنها الجمعة    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    الصحة تشارك في اليوم التثقيفي لأنيميا البحر المتوسط الخامس والعشرين    ضبط 123 قضية مخدرات في حملة بالدقهلية    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    بعد الصين.. بوتين يزور فيتنام قريبا    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    وزارة العمل: 945 فرصة عمل لمدرسين وممرضات فى 13 محافظة    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العارف بالأسرار: البحر له ريس.. لكن مالهوش كبير
نشر في المصري اليوم يوم 22 - 10 - 2009

نظن أحياناً أن الحياة تبدأ وتنتهى عند كل منا.. بينما المشاهد والمواقف والتفاصيل أكثر من قدرتنا على الفهم.. هذا الغوص الأسبوعى فى حياة الناس محاولة من «المصرى اليوم» لتجسيد ملامح البشر فى علاقتهم مع المكان والزمان.
«هوّ البحر له ريس يا حاج جيلانى؟!».. «أمال إيه! البحر له ريس.. لكن مالهوش كبير»، كلنا نعرف الشطر الأخير من هذه المقولة، إلا أن تلك الكلمات عندما تخرج عن عالِم بأسرار البحر وجامع لخفاياه، يكون لها معنى آخر غير الذى فهمناه طوال حياتنا، لأنها فى هذه الحالة تلخص قيمة سنوات طويلة، وعِشْرة أفنى صاحبها عمره فيها مع صديق غامض رغم أنه متاح للجميع.. وفىٌ، بصرف النظر عن سمعته فى الغدر، «البحر ده، دنيا تانية فيها كل التفاصيل اللى فى الدنيا العادية، يعنى ريس وشعب وحكومة»، شعبه فى الأعماق يعيش فى أمان، ما لم تمتد إليه يد الإنسان المؤذية، وحكومته هى أسماكه الكبيرة التى تفرض قوانينها على الجميع، وريّسه الحاج جيلانى، و«كبيره ربنا بس، زى دنيتنا بالظبط».
«الريس» بلغة البحر هو كبير الصيادين، و«كبيرهم» تعنى أقدمهم أو أكبرهم سناً، لكن البحر الأحمر وريسه مختلفان، لأن ريس البحر الأحمر ليس صياداً فحسب، وإنما هو العارف بكل خباياه، أسماكه وشعبه المرجانية وقواقعه وأصدافه وصخوره، يستطيع أن يحدد مكان أنواعها المختلفة بكل سهولة، يحفظ كل شبر فى مياهه الغنية بالتفاصيل، كما يحفظ كل ركن من أركان بيته، ريس البحر الأحمر هو القادر على أن يلف البحر فى أى وقت ولأى اتجاه، ثم يعود من حيث أتى، دون أن يعيقه ظلام ليل أو تخيفه أمواج عاتية أو تعصف به ريح شديدة.
على المارينا القديمة يجلس ريس البحر الأحمر، فى ساعات الصباح الأولى من كل يوم، يتذكر 60 عاما مضت، بين أحواض السمك الطبيعية المصنوعة فى البحر، التى طالما امتلأت بأنواع الأسماك الصغيرة والكبيرة والقروش، والكائنات المائية المختلفة، ثم اختفى عنها كل مظهر للحياة، والكافيتريا القديمة التى لم يتبق منها سوى أحجار متآكلة بفعل مياه البحر، ويعود بمجرد النظر إليها حيث كان يلهو ويلعب، فيدرك أن كل المشاهد رحلت مع السنين، وجزر البحر سحب الذكريات بعيدا، كما سحب الماء من الأحواض، وألقاها فى اليم السحيق كى لا تعود أبدا.
على الجانب الآخر، فى البيت الصغير الذى يتوسط الشاطئ، وبالقرب من المعهد العالى لعلوم البحار بالغردقة، ولد «جيلانى»، عندما نزح والده من الصعيد إلى المحافظة البعيدة على أطراف البحر، «لم يكن شىء فى المكان سوى المعهد، استقر أبويا على البحر، واعتبره بيته، فحمل شبكته وتوكل على الله، وأصبح ريس البحارة»، لم يكن الحصول على هذا اللقب سهلا، لأنه كان على من يريد أن يرأس البحر أن يبحر لمسافة كبيرة فى مياه الغردقة - المنطقة الأكثر خطورة بالبحر الأحمر- وأن يقطع مسافة زمنية مماثلة لا تقل عن 20 سنة يجوب فيها البحر ليلا ونهارا، هادئا كان أم ثائرا، فيفرض سيطرته عليه ويستحق أن يصبح ريسه.
جسد جيلانى النحيف وعيناه الضيقتان يحملان تاريخ البحر الأحمر ومدينة الغردقة من عشرات السنين، وجدران متحف المعهد توثيق حى للحياة فى أعماقه، كان الخير فى كل مكان كما يقول الأجداد دائما، وكما كانوا يستمتعون بالحكى عن أشياء نراها فقط فى خيالنا، يحكى جيلانى عن خير البحر الأحمر الذى اغتصبته أيدى اللصوص، ورحلت به إلى بحار أخرى أقل جمالا، وعن صياد يخرج بمركبته إلى قلب البحر ولا يعود منه، لأنه حصل على شهادة ال«ريس»، بغير حق، بعد أن أصبحت تباع ب«ثمن بخس».
جولة يومية بالمتحف هى «وِ رْد» جيلانى الذى يداوم عليه، وسواء استقبل المكان زواراً أو كان «الريس» هو زائره الوحيد، فإنه يطمئن على حالة كل شىء فيه، بداية من عرائس البحر المحنطة وانتهاء بأنواع الطيور المختلفة، رفقاء رحلاته، ثم ينتقل إلى ذكر وأنثى الترسة الصغيرين فى الحوض الكبير، بالأكواريوم، ليلقى عليهما تحية الصباح ويتابع حالة الأسماك الصغيرة الباقية فى الأحواض، المكان خال إلا من موظف المعهد «على»، المهتم الوحيد بشؤون ترستيه وأسماكه، «لم يكن المكان يخلو من السياح، كما لم يخل أبدا من أنواع الأسماك النادرة»، برودة المكان ورائحته المالحة مع ما تثيره من ذكريات تدفعه للخارج حيث المبانى الجديدة التى لم يكتمل بناؤها من عشرات السنين.
«لو صرفوا كل الفلوس دى على المتحف والأكواريوم والمكتبة لكان الحال غير الحال»، جملة يُسمعها لنفسه كل صباح، كلما نظر حول المعهد، ليرى أنصاف المبانى التى توقف العمل بها إلى غير ميعاد، كانت مشروعات لمكتبة علمية كبيرة، وأكواريوم حقيقى بمساحة كبيرة، ومجموعة معامل بحثية على أعلى مستوى، ويقارنها بحالة المبانى القديمة التى تحتاج إلى من ينظر إليها نظرة العارف بقيمتها، كى يدرك أنها فى حاجة ملحة إلى التطوير، مكتبة المعهد القديمة تحوى أسرار البحر وكنوزه، كل الكتب النادرة والقيمة التى يحتاجها عالِم بحار بداخلها، ومع ذلك فإن شكلها الخارجى لا يوحى بأنها تحوى سوى بعض القوارض التى تغذت على فتات الكتب.
المعهد العالى لعلوم البحار والأكواريوم والمكتبة والمتحف هى شهادات ميلاده وخبرته وبطاقته الشخصية، صورة الحاج محمود عوض والده مع أول عروسة بحر اصطادها، والركن الخاص بالدكتور حامد جوهر وأدواته القديمة التى كان يستخدمها فى الغطس، ذكريات جيلانى التى لم يعشها.. «أحلى أيام حياتى كانت لما مسك الدكتور جوهر إدارة المعهد، كنت طفلا، لكننى كنت أرقبه وهو يهتم بكل صغيرة وكبيرة فى البحر»، ولأن الدكتور حامد جوهر- صاحب أشهر برنامج علمى بالتليفزيون المصرى «عالم البحار»- لم يحصل يوما على شهادة ريس بحر، وكان يحتاج لمرشد بعد أن نُقل إلى الغردقة رئيسا للمعهد، كان بانتظاره ريس البحارة الأب، مَنْ فتح بين يديه كنوز البحر، ليخرجها جوهر للعالم بعدسات كاميراته.
«أبويا غطس مع الدكتور جوهر فى كل مكان تقريبا، كان يعرف اسم كل سمكة وكل نوع من الشعب المرجانية، وياخد الدكتور للمكان اللى فيه النوع المطلوب، كان ريس بحق، حافظ البحر زى شيخ البلد اللى عارف كل شبر وكل حارة فى بلده»، انبهار الحاج جيلانى بمهارات والده وقدرته على تطويع البحر لا ينتهى، وتتخلل حكاياته قصص عن شدته فى المواقف الصعبة، ورغبته فى تعليم ابنه أسرار البحر الثمينة، ليخلفه رئيساً عليه.
«تعلمتها يا حاج جيلانى؟».. «طبعاً وحفظتها زى اسمى»، خصوصا بالليل، «انزل يا واد اقطع الحبل اللى شبك فى الصخر عشان نمشى، أنزل دا الوقت يا ابوى! أمال مش هنصطاد ولا إيه؟.. ونزلت وأنا بارتعش»، ذكرى أول مرة نزل فيها «الريس» البحر ليلا لا تفارق ذهنه، تلسعه برودة الخوف دائما عندما يتذكرها، لم يكن يوازيها شىء سوى خوفه من عدم إطاعة أوامر والده، كما أن أول ليلة قضاها فى البحر بمركب صيد مكسور دون أمل فى العودة، جعلته يجزم أن البحر مخيف ليلا حتى وإن كان من يجوبه «ريس».
مع ابنته الصغرى، يجلس ليحكى مغامراته فى البحر، «إيه أسوأ مواقفك معاه؟ رحلة اليمن اللى كنا بنقضى فيها 3 شهور فى المياه، وفى معقل أسماك القرش سقطت عن المركب أثناء لمّ الشراع، كان القرش فى هذه المنطقة يحرك دفة المركب من قوته، ووجدت نفسى أسقط بينها، من شدة الخوف نزلت البحر وقتها وطلعت قبل أن أبتل»، أنقذه الحبل المدلَّى للشراع على الجانب الآخر للمركب، تعلق به ثم نزل مرة أخرى لينقذ المركب قبل ارتطامه بالشُعب المرجانية، لأن دوره كان أن يشبك الهلب فى الصخور ليتوقف المركب قبل اقترابه منها.
«وأطول ليلة فى البحر؟»، هى تلك الليلة التى خرج فيها للصيد وكسرت الشُعب قاربه الصغير، وعلى ألواح القارب المكسور أمضى أطول لياليه، «كنت مع صديق فى مكان لا تمر فيه السفن أو المراكب الكبيرة لأنها منطقة ممتلئة بالشُعب المرجانية، فقدنا الأمل فى العودة وسلمنا أمرنا لله، على ألواح القارب الخشبية الصغيرة نمنا، وبعد ليلة طويلة جدا كنا نظنها لن تنتهى، وجدنا مركب كبير اقترب لانتشالنا»، على الشاطئ كانت الرؤوس تشبُّ بانتظار بصيص أمل، النساء والرجال تجمعوا لاستقبال الغائبين، لأن ليلة كاملة بقارب صغير فى ظلام البحر الأحمر ليست ككل الليالى.
من ذكريات المارينا وبقايا الكافيتريا والأحواض التى لم يبق بداخلها سوى بعض الأسماك الصغيرة وخيار البحر، تنتهى طقوس جيلانى الصباحية ويبدأ عمله الحكومى فى المعهد مع الباحثين بين معمل الغطس ومعمل التلوث، وعلى مركبيه الصغيرين «جوهر1» و«جوهر2»، ساعات تمضى لا يشعر بها، ومعانى الملل والكسل والضيق من العمل ليس لها مكان فى قاموس حياته، وفى لانشات عشاق البحر الأحمر الذين يخرجون نهارا ليغطسوا فى أكثر المناطق جمالاً ويصطادوا ويعودون فى الليل مطمئنين أنهم مع ريس بحر بمعنى الكلمة، يقضى أكثر لحظاته سعادة.
«بعد 6 شهور اعمل حسابك إنك هتسيب بيت البحر»، صوت المسؤول فى المعهد ينذره بالرحيل، ويذكره بأنه ما إن يكمل عامه الستين، إلى المعاش، حتى يكون مطالبا بأن يترك بحره إلى شقة بعمارة فى بلوكات تحيطها الأسوار من كل جانب، لتفصلها عن البحر.. أيام الصيد وطلوع البحر بالقارب الصغير وأنواع الشبك المختلفة، الملونة للسمك الملون، والمغزولة بقوة للسمك الكبير، وتفاصيل الحياة على الشاطئ، تؤلم ذاكرته كلما امتزجت بوقع كلمات المسؤول، لا شىء يؤرقه سوى معناها، ولا يستطيع أحد أن يفسد عليه يومه إلا إذا أعادها عليه.
«أسيب البحر وأروح على فين»، عندما قالوا له إن أعمال التوسع بالمعهد ستشمل بيته انهار ضحكا، «توسيع إيه وبيتى إزاى؟»، كان لا بد أن يدرك المسؤولون قيمة السكنى على البحر لمن ولد وعاش فيه، وكان الأولى بهم أن يفكروا فيما سيهدمونه مع البيت، لأنه لن يقتصر على الحيطان والحجارة والأخشاب، بل سيدفن معه تاريخ الرجل ومقومات حياته التى لا حياة بعدها.
«عرضت عليهم أن يمنحونى مساحة صغيرة جدا على البحر، فضربوا لى الأمثلة بمن سكنوا البلوكات المعزولة ولم يموتوا أو حتى يصابوا بأعراض الاكتئاب»، حواره مع المسؤولين يطارده كلما اقتربت أيامه من الستين، «طيب هم موظفون لم يرتبطوا بالبحر كما ارتبطت، لم يقضوا أكثر من نصف أعمارهم فيه، لم يعيشوا عليه كما عشنا سنين على خيره، لم يشعروا أبدا أن اليوم الذى يمر دون أن تلمس مياه البحر أجسادهم كأن لم يكن»، لم يشعر بذلك مع أى بحر آخر «عمرى ما نزلت غير البحر الأحمر وما احبش بحر إسكندرية»، لم يفهموا تلك الكلمات وظنوا أنها مبالغة، فأعلنها جيلانى حرباً: «لن أترك البحر أبدا».
ربما لأنه رسم مستقبله منذ ولد على رمله، بأنه عندما تتزوج آخر بناته سيبقى هو ليردد ما قاله الشاعر الحيران إيليا أبو ماضى للبحر: «قد جمعتَ الموتَ فى صدركَ والعيشَ الجميلا»، ويهمس لنفسه: «أنتظر الموت على ذلك الشاطئ، أو بين تلك الأمواج، تحملنى الرياح للداخل بعيداً عن البر، لأعماق بحرى، حيث أرقد بجوار أصدافه، فيكون مهدى وضريحى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.