نظن أحياناً أن الحياة تبدأ وتنتهى عند كل منا.. بينما المشاهد والمواقف والتفاصيل أكثر من قدرتنا على الفهم.. هذا الغوص الأسبوعى فى حياة الناس محاولة من «المصرى اليوم» لتجسيد ملامح البشر فى علاقتهم مع المكان والزمان. حركة دائبة لا تتوقف.. قطارات رائحة غادية.. مسافرون ومودعون وقادمون.. مصريون وعرب وأجانب.. شباب وفتيات.. رجال ونساء وأطفال.. ضجيج لا ينقطع، تتداخل فيه صافرات القطارات مع أصوات الباعة، مختلطة بالإذاعة الداخلية التى تعلن عن قيام قطار أو وصول آخر.. حقائب وصناديق وكراتين.. باعة جرائد، ورجال أمن، وسائقون، ومحصلون.. وعندما يظهر «الريس رفاعى» يدفع أمامه عربة محملة بالحقائب فى مدخل المحطة.. تتوارى التفاصيل شيئاً فشيئاً، ويسيطر هو بالتدريج على المشهد ليحتله تماماً فى النهاية ببدلته الزرقاء، وثمانين عاماً تركت آثارها على انحناء جسده الطويل. هو شيخ الشيالين فى محطة مصر، تشهد بذلك رخصته النحاسية المثبتة فى جيب بدلته العلوى.. رخصة يبدو أن رفاعى يحرص على بقائها لامعة، كتب عليها باللغتين العربية والإنجليزية «سكة حديد مصر- شيخ الشيالين-2».. يحمل «الريس رفاعى» رقم «2»، وهو يقول إنه يحتفظ به منذ فترة طويلة، حتى بعد وفاة شيخ الشيالين السابق، الذى كان يحمل الرقم «1»، وحسب ما تقضى به تقاليد المهنة كان على الريس رفاعى أن يرث رقم سابقه كما ورث منصبه، إلا أنه رفض ذلك تماماً، فالشيخ السابق عليه كان بتعبيره هو «صاحبى وأخويا»، ولهذا السبب رفض رفاعى تعليق الرقم، كما رفض إعطاءه لأى شيال يعمل معه فى المحطة إكراماً لذكرى الذى رحل. «رِجْلك يا ست.. رَجْلك يا بيه».. ينطلق صوت «الريس» دون توقف منبهاً من يسيرون أمامه دون أن يشاهدوه فى محاولة للنفاذ من وسط الزحام.. يجبرهم صوته على الالتفات إليه، وفور أن يلمحوا شعره الأبيض الذى يتوج رأسه، وتجاعيد وجهه الكثيفة، وظهره المحنى، يسارعون بإخلاء الطريق ليمر من وسطهم.. لا يتوقف «الريس» إلا أمام عربة القطار المقصودة.. يركن عربته الحديدية على الرصيف ويحمل الحقائب إلى داخل القطار، وقبل أن يطلق القطار صافرته معلناً الرحيل، يتلقى «الريس» أجرته ويضعها فى جيبه بعد أن يقبّلها ظهراً لبطن، لامساً بها جبهته العريضة. أكثر من ستين عاماً قضاها «الريس رفاعى» فى مهنته كشيال بمحطة مصر، يقول إنه عرف الطريق إليها فى عام 1946، لم يكن قد تجاوز وقتها الثامنة عشرة، فهو من مواليد عام 1928 لأب عمل «ترجماناً» فى قناة السويس أولاً، ثم فندق شبرد بعد ذلك، يقول رفاعى عن والده إنه كان يجيد عدة لغات أجنبية وكان يعمل ثلاثة شهور فقط طوال العام، بعدها يجلس فى المنزل لينفق من حصيلة الشهور الثلاثة، وهى حصيلة يؤكد رفاعى أنها كانت «تكفى وتفيض»، ثم يفسر أكثر: «كان عندنا بيت ملك، وماكانش فيه غيرى، بعد موت إخواتى السبعة». فى البداية عمل بمصنع للزجاج، غير أنه ضاق به بعد فترة قصيرة، وسرعان ما انفتح أمامه باب العمل فى محطة مصر، قاده إليه بعض أقربائه الذين كانوا يسكنون معه منطقة بولاق أبوالعلا ويعملون فى نفس الوقت داخل المحطة، أعجبته المهنة التى يقول عنها «كان فيها حرية»، ولما كان قد تزوج مبكراً لتفرح به والدته- كما يقول- فقد مال قلبه للشيالة نظراً لربحها الوفير وقتها، رغم عدم وجود راتب ثابت بها: «كنت باعمل عيله وكنت محتاج لكل قرش». قبل تسلمه رخصة العمل كشيال داخل محطة مصر كان عليه أن يجرى كشفاً طبياً كاملاً على نفسه، بالإضافة إلى جولة بين حكمدارية القاهرة- مديرية الأمن حالياً- ومديرية البحث الجنائى، حتى يحصل على شهادة بحسن السير والسلوك، تسلم الشهادة وسلم نفسه للمسؤولين بالمحطة فأعطوه رخصة للعمل كشيال، ومع الرخصة تسلم «عدة الشغل» المتمثلة فى جلباب أزرق، و«قايش» أو حزام معلق فى منتصفه «حديدة» مكتوب عليها «خط سكة حديد مصر»، وأخيراً «سير» أو حزام آخر يساعده فى حمل الحقائب على كتفه. أمام البوابة الرئيسية للمحطة يضع «الريس رفاعى» عربته الحديدية ويجلس فوقها.. يمد بصره إلى الفراغ، ويتذكر: «لما استلمت الشغل سنة 1946 كانت المحطة غير كده خالص.. ماكانش فيه غير 8 أرصفة بس وقطر الصعيد كان بيقف على رصيف 8». يخرج منديله من جيبه ويمسح به عرقه قبل أن يقول: «بره المحطة كمان كان حاجة تانية»، يشير لجهة اليمين قائلاً: «هنا مثلاً كان فيه موقف حمير وكارو وحناطير، وكان فيه قهوة كبيرة بيقعد عليها المسافرين». أما القطارات فقد كانت مقسمة إلى ثلاث درجات، وكانت الدرجة الأولى «البريمو» عبارة عن دواوين مغلقة على ركابها، وداخل كل ديوان كان يوجد «حوض بحنفية»، وكانت مواعيد القطارات التى يحفظها رفاعى عن ظهر قلب «مظبوطة بالدقيقة والثانية»، ولذلك كانت كل فئات المجتمع تستعين بالقطارات فى حلها وترحالها، فيذكر رفاعى أنه شاهد الملك فاروق وهو يستقل قطاره الملكى كثيراً من داخل المحطة، عكس الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذى كان يركب القطار العادى لأنه «من الشعب»، على حد تعبير رفاعى، وهو نفس ما كان يفعله الرئيس السادات، أما الرئيس مبارك، فلا يذكر رفاعى أنه شاهده يركب قطاراً من محطة مصر قبل ذلك. مجتمع المحطة نفسه تغير كما يروى رفاعى: «كان فيه أجانب كتير بيسافروا من محطة مصر، ودول كانوا بيدفعوا كويس للشيالين»، هذا بالطبع غير ركاب خط «القاهرة- غزة» الذين كانوا يعملون فى التجارة، وكانوا معتادين على جلب بضائع عديدة من غزة لبيعها فى القاهرة: «كنا بنُرزق منهم أحسن رزق، قبل هزيمة يونيو 1967»، وخفت أقدام الأجانب من المحطة بالتدريج: «دلوقت كل فين وفين لما نلاقى سايح داخل المحطة، وكمان بيجر وراه شنطة تروللى ومش محتاج حد يشيلها له». لا يتوقف خيط الذكريات.. فبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية كما يتذكر رفاعى تم تخصيص رصيف «7» لاستقبال قطارات جرحى الإنجليز، وكان الشيالين يقومون بالمساعدة فى حملهم إلى السيارات المنتظرة فى الخارج، وهو ما كان يحدث أيضاً عندما يقع حادث لقطار خارج القاهرة: «كانت هيئة السكة الحديد بتعمل لنا انتداب عشان نروح نشيل الجثث وننقلها للمستشفيات». على أن «النقلة» الحقيقية لمجتمع الشيالين، كما يقول رفاعى، لم تحدث إلا بعد قيام ثورة 1952، تحديداً بعد إسناد إدارة السكك الحديدية للدكتور المهندس سيد عبدالواحد، وفور أن تأتى سيرته يترحم رفاعى عليه «الله يرحمه هو اللى خلى للشيالين قيمة»، فبالإضافة إلى منحهم عربات حديدية بعجلتين يحملون عليها الأمتعة، جعلهم يستبدلون جلابيبهم الزرق ببدل زرقاء تصرفها الهيئة بواقع ثلاث بدل لكل منهم سنوياً، كما منحهم الحق فى العلاج بمستشفى السكة الحديد «اللى يتعب ياخذ أورنيك كشف من هنا ويروح يكشف فى المستشفى ببلاش»، وكان بصدد منحهم رواتب ثابتة كل شهر لولا أن وافته المنية داخل مكتبه فى صبيحة أحد الأيام. بعد وفاة سيد عبدالواحد عاد الحال إلى ما كان عليه، لا رواتب، ولا كشف على حساب الهيئة، فقط.. ظل الشيالون محتفظين بعرباتهم الحديدية، وبدلهم الزرقاء بواقع ثلاث بدل كل عام إلى أن توقفت عملية التسليم منذ ما يقرب من خمس سنوات، كما يقول رفاعى، وصار على الشيالين أن يفصّلوا البدل على حسابهم الخاص، حرصاً منهم على مظهرهم العام. لم تغير ثورة يوليو من ملابس الشيالين فقط، لكنها أيضاً غيرت فى تنظيمهم، إذ أعطتهم الحق فى تكوين «رابطة حمالى الشنطة بمحطة القاهرة وضواحيها»، التى سجلت بوزارة الشؤون الاجتماعية تحت رقم 259، وتكونت الرابطة لترعى مصالح 250 «شيالا» فى محطتى القاهرة والجيزة، وكان مطلوباً من كل واحد فيهم أن يدفع قرش تعريفة شهرياً لصندوق الزمالة.. وصلت حالياً إلى ثلاثة جنيهات بعد أن هبط عدد الشيالين أنفسهم فى القاهرة والجيزة إلى 140 «شيالاً». لا يحصل «الشيالون» على أى مكاسب من الرابطة باستثناء ألفى جنيه مصاريف جنازة تصرف لمن يموت منهم، أما الذين يصابون ببتر أعضائهم تحت عجلات القطار، وهى حوادث واردة جداً، فيؤكد رفاعى «مابياخدوش حق ولا باطل سواء من هيئة السكة الحديد أو من وزارة النقل»، رغم أنها الوزارة التى تعطى الترخيص للشيالين بالعمل داخل المحطة، إلا أن وزيرها الأسبق سليمان متولى نفى من قبل أى علاقة له بالشيالين، فكما يروى رفاعى، أجرت المذيعة الشهيرة آمال فهمى مقدمة البرنامج الإذاعى «على الناصية» لقاءً مع الشيالين، أعقبته بلقاء مع وزير النقل حاملة معها مشاكل الشيالين وهمومهم، وإذا بهم يجدون الوزير ينفى علاقة الوزارة بالشيالين قائلاً «دول مش تبعنا.. دول تبع هيئة السكة الحديد»، ويتساءل رفاعى مندهشاً «إزاى نكون مش تبعهم واحنا مانقدرش نطلع رخصة الشيالة إلا بموافقتهم». كان من الطبيعى إذن أن تقفز مشاكل الشيالين إلى سيناريو فيلم «باب الحديد» الذى وضعه الراحل عبدالحى أديب، وكتب حواره محمد أبويوسف، وأخرجه الراحل يوسف شاهين، وعرض للمرة الأولى عام 1958، خاصة أن السيناريو كان يعنى فى الأساس بتصوير حياة المهمشين داخل مجتمع السكة الحديد.. نماذج كانت موجودة وقتها يمر عليها الجميع مرور الكرام دون أن تلفت انتباههم.. «هنومة»- هند رستم- بائعة المياه الغازية.. «قناوى»- يوسف شاهين- بائع الصحف، وأخيرًا «أبوسريع»- فريد شوقى- الشيال الذى يسعى طوال أحداث الفيلم لإقامة نقابة للشيالين تحميهم من الحوادث المتكررة التى يتعرضون لها، كما تحميهم من استغلال شيخ الشيالين- عبدالعزيز خليل- الذى يقف ضد إقامة النقابة حرصاً على مصالحه، وحتى يظل متحكماً فى مصير الشيالين. الفيلم الذى صور بالكامل داخل محطة مصر شارك فى تمثيله الريس رفاعى ضمن مجموعات الشيالين الذين استعان بهم شاهين خلال الأحداث، فيذكر رفاعى أنهم كانوا يعطونهم 10 جنيهات يومياً لكل شيال نظير الاشتراك فى الفيلم «كنا معاهم خطوة بخطوة»، كما يذكر معاناة يوسف شاهين وهند رستم أثناء تصوير المشهد الأخير من الفيلم، وهو المشهد الذى اقتضى منهما النوم بين فلنكات السكة الحديد، وبالتالى تلويث نفسيهما بالزفت والقار المنتشرين فى الأرض. أما فريد شوقى فيرى رفاعى أنه قام بالدور «تمام وصح الصح»، فقد كان حريصًا على الجلوس والأكل مع الشيالين طوال الوقت، ومعرفة مشاكلهم وطريقة تصرفهم، وحملهم للأمتعة ليظهر بالشكل الذى ظهر به فى الفيلم. ورغم أن «أبوسريع» الشيال نجح ضمن أحداث الفيلم فى إقامة نقابة للشيالين، فإن الشيالين الحقيقيين لم يتمكنوا حتى الآن من إقامتها، وأكثر من ذلك لم يستطيعوا الحصول على راتب ثابت «إنشاالله حتى 10 جنيه» ويرى رفاعى أنها ستزيد بمرور الأيام وعندما يتقدم الشيال فى العمر يجد لنفسه معاشًا يريحه من الشقاء اليومى داخل المحطة. «هو لو كان فيه معاش كنت فضلت أشتغل لغاية دلوقت» بهذه الكلمات برر رفاعى استمراره فى العمل مع تخطيه سن الثمانين، «اللى حايشنى من القعدة بنتى الصغيرة، لسه بتدرس فى كلية طب قصر العينى، وفاضل لها سنتين ع التخرج، ويوم ما تتخرج هاحس إنى أديت رسالتى وهاقعد فى البيت، بس برضه هاجى المحطة عشان أسلم على زمايلى». «28 شيالاً» يمثلون وردية عمل داخل محطة مصر، تتجدد كل 24 ساعة ليحل مكانها وردية جديدة مكونة من نفس العدد تقريبًا، يقسمون أنفسهم نصفين.. نصف يجلس خارج المحطة فى انتظار ورود السيارات المحملة بالحقائب.. يركزون أبصارهم على ركابها، ويقفزون إليهم قبل أن ينادوا عليهم، والنصف الآخر يجلس بالداخل على الأرصفة فى انتظار وصول القطارات لحمل الحقائب إلى خارج المحطة، ويترك الجميع الأجرة لتقدير الراكب، حسب عدد الحقائب ودرجة ثقلها. ورغم أن مكانته كشيخ للشيالين وسنه المتقدمة تعفيانه من العمل، فإن الريّس رفاعى لا يزال حتى الآن يعمل كتفًا بكتف مع زملائه من الشيالين، يقف مثلهم خارج المحطة منتظرًا ورود السيارات.. يقفز إليها قبل أن ينادى ركابها عليه.. ويمد يده ليرفع الحقائب على عربته الحديدية.. يدفعها أمامه مخترقًا بها محطة مصر من الداخل وسط حركة دائبة لا تتوقف، وضجيج صاخب لا ينقطع.