صديقي يعيش خارج مصر منذ سنوات .. وفي دردشة عن حال الإعلام المصري حالياً قالها لي بشكل عفوي " أوعي تسيب نفسك تمشي في سكة فيها تطبيل ولو بالسكوت " ، طمأنته بأنني لا أجيد فنون التطبيل لأسباب كثيرة .. منها اعتقادي بأن السلطة لا تطلب مطبلين ، ولكن هناك متطوعين يعزفون علي أنغام النفاق في انتظار الثمن .. وأنا والحمد لله لا أريد شيئاً.. فقط أتمني الستر ، وكذلك التطبيل " موهبة " .. الكذب والتهليل والتضليل يحتاج لأسلوب وعلاقات وبجاحة ووجه مكشوف وإمكانيات كثيرة لا أملكها ، والصمت عندي ليس دائماً " علامة الرضا " لكنه أفضل من الهذيان، ثم تذكرت أيام عام 2008..ذهبت للإسكندرية للقاء شخص لن يتكرر،درس القانون والفلسفة وحارب في ملحمة أكتوبر 1973..عندما كلمته في التليفون لاستئذانه في عمل حوار معه قال لي :"هو أنا فجأة بقيت مهم .. ثم يعني فيه مجلة قومية ممكن تنشر كلامي " ، وألتقينا علي مقهي في سيدي جابر .. لكن صاحب المقهي رفض أن يستخدم زميلي كاميرا التصوير ، فقال لي ساخراً :" أرض الله واسعة .. حتى القهوة مش طايقانا ".. وجلسنا علي البحر..قال لي: " كنت محتاجا أن أدرس فلسفة حتي أجد إجابات كثيرة عن أسئلة كانت ومازالت تطاردني .. وعندما وجدتها فضلت الاحتفاظ بها لنفسي،أنا سمعت كلام حكومات الستينيات والسبعينيات أنا وأهلي بخصوص حكاية السلم والثعبان .. قالوا لنا إن سلم الصعود الاجتماعي هو التعليم , اتعلمنا زي ماقالوا وطلع السلم أونطة والشهادات كل قيمتها في الورق وبس واكتشفنا أن الحياة أكثر تعقيدا مما نظن ولو سألني أحد أبنائي عملت إيه لمصر .. يكفي أنني لم أسرق وكنت مواطنا شريفا وعلمت أولادي وربيتهم .. في الزمن ده الحاجات دي بتعتبر كفاية قوي ، أنا عمري ما مارست السياسة .. انا مش عضو في أي حاجة سواء كانت تنظيما سريا أو علنيا .. انا مع نفسي ولوحدي ، وبلاش تاخد بالمظاهر .. أنا مثلا حاولت في مرات كثيرة إني أدخن سجائر مستوردة علشان لما أقعد مع ناس مهمين يكون شكلي كويس بالفلتر الذهبي .. لكني غاوي سجاير رخيصة " .. وقبل أن أتركه سألته : ربما بعض اليساريين باعوا القضية من زمان .. فماذا عنك ؟ فرد ببساطة " أنا معنديش حاجة غير قلمي وده مقدرش أبيعه لأني شاحته من ابني , شوف .. كل واحد له درجة انصهار زي المعادن وقليل اللي زي شجرة الجميز , فيه واحد ممكن تشتريه بسيجارة وواحد ب 10 ملايين جنيه و 100 واحد قصادهم متقدرش تغريهم بفلوس الدنيا كلها ، وأنا قربت أموت ولسه ما انصهرتش .. يعني معقولة آخيب علي الآخر؟ ! " .. كلامي كان عن الراحل العبقري جلال عامر .. تركني وعاد لمنزله سيراً علي الأقدام وهو يقول لي : " ربنا يشهد أني بحب البلد دي وناسها .. وأنا سعادتي الحقيقية في فرحة الناس " بالمناسبة ، عم جلال مات قهراً بالسكتة القلبية في الشارع وهو يمشي في مظاهرة تندد بأحداث بورسعيد .. وكانت جملته الأخيرة " المصريين بيموتوا بعض " .. فأى شرف يتمناه أى صحفي أو كاتب أكثر من أن يذكره الناس بعد وفاته ويقولون : الله يرحمه .. عاش ومات شريفاً ومحترماً ؟! .