نسعد كثيراً حينما نجد فناناً حقيقياً بمعنى الكلمة، وليس كما يطلق العديد على أنفسهم لفظ فنان لمجرد اقترابهم من أى من الفنون ، فالفن من أسمى الموجودات والفنان الحق حباه الله بسمات أخلاقية وإنسانية ترقى بالشخص لقيم جمالية وروحية. ومنذ أيام، حضر لمصر الفنان اليابانى الأمريكى ريو جوتو عازف الفيولينة الذى استطاع أن يتخطى حدود بلده ويصل بفنه عبر قارات العالم المختلفة بإمكاناته التكنيكية والأدائية المتميزة التى أبهرت العازفين .. ولكن ما استوقفنى حقيقة هو روح هذا الفنان المتواضع رغم فنه وموهبته الفذة إلا أنه يمتلك شعورا إنسانيا عاليا يعبر عن سمو أخلاقى، وقد قام خلال زيارته بعمل ورشة عمل لعازفى الفيولينة فى معهد الكونسيرفتوار وشجع العازفين الشباب وحمسهم بكل الوسائل ، كما أضاف لهم العديد من خبراته بمنتهى البساطة واللباقة بطرق تحفز على الاستمرار والعطاء ، ولاحظت نفس الشىء حينما تم استضافته فى إحدى القنوات الفضائية، وقدمت له المذيعة مجموعة صغيرة من عازفى الفيولينة من الكونسيرفتوار لتقديم موسيقى حجرة على الهواء مباشرة، فقام بتحيتهم والتصفيق لهم ، بل والانحناء لمواهبهم وقدراتهم.. فإن كان هذا الفنان بقيمته الكبيرة يتعامل بهذا القدر من الاحترام مع الفنانين والعازفين الذين هم فى مقتبل العمر، فأعتقد أننا لا بد أن نقف عند هذا الفنان وأمثاله بكل الحب والتقدير .. فللأسف قليلاً ما نشهد فى بلدنا هذه الصورة المثالية بما تحويه من قدرة وموهبة حقيقية وفى ذات الوقت احتضان للأصغر، فالمناخ فى أغلبه طارد للمواهب ، تحفه الأحقاد والغيرة الفنية، لكن الفنان الصادق بكل ما يحويه من ثقة وفن كامن تتولد لديه الرغبة فى الإيثار وتقديم يد العون حتى يسعد بنجاح الآخرين. لقد ضرب لنا ريو مثالاً رائعاً لصورة الفنان التى نتمنى أن تصبح هى السائدة ، وإن كنت أشك فى تحقيق هذا على الأقل فى الوقت الراهن لما يعانى منه الوسط الفنى من تراجع، لكن لا بد أن يظل الأمل هو الهدف لتغيير صورة الفن والفنانين، وأن نحذو حذو هؤلاء الذين تعلموا الفن فى جوهره. وهذا الشاب ريو الذى لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، ولد فى عام 1988 فى نيويورك لأبوين عازفى فيولينة ، وبدأ تعلم العزف وهو فى الثالثة من عمره ، وشارك فى أول مهرجان وهو فى سن السابعة ، بذلت الأم جهوداً مضنية حتى تصل بريو وشقيقته ميدورى لقمة المجد الموسيقى، وبالفعل عرفت شقيقته على المستوى الدولى بأدائها المتميز وحقق ريو نجاحاً لافتاً .. وبالإضافة لكل ذلك فقد حصل على الحزام الأسود فى رياضة الكاراتيه ، وتخرج فى جامعة هارفارد فى تخصص الفيزياء عام 2011 ، وبجانب هذه البراعة فى عزف الفيولينة عشق العزف على الجيتار ، وجنباً إلى جنب الموسيقى الكلاسيكية يهوى موسيقى البوب والجاز والموسيقى الالكترونية.. ويقدم ريو العديد من الحفلات كعازف سوليست مع أهم الأوركسترات الدولية مثل أوركسترا لندن السيمفونى ، أوركسترا شنغهاى الفيلهارمونى ،أوركسترا أورفيوس للحجرة ، أوركسترا لندن الفيلهارمونى ،أوركسترا اتحاد الشباب الأوروبى ،أوركسترا توسكانينى السيمفونى ، وغيرها الكثير من البلدان الأخرى مثل المكسيك وبلجيكا وجنوب أفريقيا.. وله كثير من التسجيلات الصوتية والمرئية. كانت هذه الزيارة ناجحة، وعملت على التبادل الثقافى والفنى بين موهبة هذا الفنان وعازفى الفيولينة المصريين، وبالأخص طلبة الكونسيرفتوار التابع لأكاديمية الفنون ، والتى تضخ الفنانين المصريين فى كافة المجالات فى شتى بقاع الأرض بمواهبهم وفنهم رغم إمكانياتهم المتواضعة مقارنة بباقى دول العالم، إلا أن العنصر البشري المصري بالإرادة والتحدى يظل هو الأبقى.. فتحية لريو جوتو الذى أمدنا ببارقة أمل، وترك بداخلنا ذكرى إنسان قبل أن يكون فنانا.