مصر قبل 25 يناير .. غير مصر بعد 25 يناير ... تلك الجملة من أشهر الجمل التي برزت بعد اندلاع الثورة الشعبية في مصر .. وهي جملة بحد ذاتها تملؤها ثورة الرفض لما كان سلبيا قبل هذا التاريخ .... ولكن هل ما كان سلبيا من قبل قد أتي من تلقاء نفسه .. أم تم صنعه عن قصد وتقصير .. ؟ ربما من أهم السلبيات التي مرت علي كل الحكومات منذ اعلان أول جمهورية بمصر بعد ثورة 1952 إلي قيام ثورة 2011 هو ' التفخيم '.. وإعطاء الاشياء اكثر من جوهرها .. وأكبر من حجمها الحقيقي ... فمثلا كلمة ' فخامة ' التي تسبق اسم رئيس الدولة .. تعدت كونها اسلوب تبجيل للحديث عن الحاكم .. وتجسدت في أفعال ملموسة .. وصارت كلمة وفعلا تزرع في اللاوعي في نفوس الشعب مخافة تجاه رئيسه بدلا من الاحترام والود الحقيقيين .. وتصنع معها سدودا بينهما .. بل وتسلب من الرئيس نفسه حق الخطأ كأي إنسان معرض لأن يخطئ .. وتفرض عليه الترفع عن التراجع أو حتي الاعتذار ... وبالطبع قد لا يلعب الشعب كله دور النافخ في البالون .. وانما يتبلور مجموعة منه كالطفيليين حول الحاكم تعرف ب ' البطانة '.. وهم من المحترفين في بناء جدار له وجهان بين الشعب وبين حكامه .. فوجه الجدار الذي يراه الحاكم .. هو حب الشعب الشديد له .. وتسليمه له بكل مقدراته . ثم لا تلبث تلك الحالة ان يحيلها افراد تلك البطانة الي ان الشعب يعجز عن التصرف بشيء دون قيادة حاكمه وبناء علي توجيهاته .. وانه شعب خانع لا يعرف مصلحته اكثر مما يعرفها حاكمه .. ولذا عليه اصدار الامر فقط وفقا لما تأتيه من بيانات اغلبها زائفة توهمه ان شعبه سعيد إلا بعض الجاحدين منه ... اما الوجه الآخر للجدار فهو مايراه الشعب .. أي انه يري الحاكم ذا سطوة وجبروت .. وان الشعب يعمل لديه .. ولخدمته لا العكس .. وان علم الحاكم ورؤيته اعمق بالطبع .. وان الحاكم هو السبب الأول في صد كل خطر يأتيهم من الداخل او من الخارج .... مما يرهب الشعب من حاكمه ويصبح الشعب محكوما عليه ببقائه تحت سطوة حاكمه .. لا تحت كنفه .. ولذلك فان محاكمة البطانة ومحاسبتها اولا بأول قد توفر علي الشعب ثورات لا يعلم الا الله بأي شيء قد تأتي علي البلاد او أي شيء ستأخذ منها .. وتناقلت الينا دروس الثورتين السابقتين في التاريخ المعاصر لمصر .. الأولي كانت ثورة يوليو 1952 .. وكان انقلابا عسكريا من مجموعة من ضباط الجيش .. ثم تحول الي ثورة شعبية بعد خلع الملك فاروق عن عرش مصر .. ثم حول الشعب .. البكباشي الثائر جمال عبد الناصر إلي زعيم .. ثم انتهت الثورة بموت ' الزعيم ' .. وحلت ثورة أخري بمباركة ' القائد ' أنور السادات .. هي ثورة التصحيح في مايو 1971 .. ورغم اختلافها عن مفهوم الثورة الشعبية .. إلا انها سميت ثورة .. وخاض بعدها السادات حرب ونصر اكتوبر 1973 .. ومنح نفسه و منحه كل من حوله أوسمة من الالقاب .. كان أهونها لقب ' بطل الحرب والسلام '..... وتولي بعده اللواء طيار حسني مبارك .. وتم التفتيش في سجل انجازاته عن نقطة بداية لينطلقوا منها الي ما اعتادوه من تفخيم الحاكم ورفعه فوق الجميع ... فكانت صاحب ' الضربة الجوية الاولي '.. والتي بالتأكيد كان لها اثر حربي عظيم في تحقيق النصر في حرب اكتوبر ... ولكنهم ربما ارادوا من ورائها شرعية ما لن يعترف به بعد ذلك .. و في حكم كل من الرؤساء الثلاثة كانت هناك آليات تجهيزهم تمهيدا للإطاحة بهم .. وذلك عن طريق فصلهم عن شعوبهم جوهريا لا ظاهريا .. حتي يمكن السيطرة علي كل فريق علي حدة .. وكانت تلك الآليات تقريبا واحدة ولكنها ذات تنوعات طبقا لحداثة العصر ... الاغاني الوطنية التي لا تلبث ان تعدو اغاني شخصية باسم وشخص الحاكم .. التماثيل والصور التي تصنع للحاكم والتي تكبر احجامها مرة بعد مرة الي ان غدت في احدث العهود بحجم المباني الضخمة وتغطيها بالفعل وليس مجازا .. كذلك المشاريع الضخمة التي يطلق اسم الحاكم عليها وكأنها لافتة توضع علي فيللا احدهم لتعلن ملكيته لها .. بالرغم من انها مشاريع من الشعب والي الشعب . بل ان الكثير منها قد لا يصل فعليا لمستحقيه ... كل تلك الاشياء واكثر هي مسامير في نعوش هؤلاء الحكام .. حتي ليكاد العقل يؤيد ان تغيير سياسة المحكوم .. اهم من تغيير سياسة الحاكم .. واهم من تغيير الحاكم نفسه .. فالحذر كل الحذر للشعب من التفخيم للقادم .. في شخصه .. وفي فعله .. وفي أقواله .. بل ان وضعه في مقياس حقيقة حجم تصرفاته وقراراته هو ما سيجعل من مقولة : مصر قبل 25 يناير غير مصر بعده ... سيجعلها عرفا وقانونا غير مكتوب يلتزم به الجميع سواء حاكما أم شعبا إذا ما ارادوا مصر مغايرة لمصر التي كانت قبل الثورة الشعبية في 2011 والحذر كل الحذر أيضا من التغاضي عن السوس الذي ينخر في كرسي الحاكم وينقلب علي رأس الشعب .. هذا السوس هو البطانة الفاسدة لأي صاحب قرار أو أي مسئول . فاصحاب الفخامة يكمن داؤهم في أصحاب البطانة .. ولدينا مثل شعبي خاص بالمصريين دون باقي شعوب العالم : ' قالوا لفرعون إيه فرعنك .. ؟؟ قال : ما لقيتش حد يصدني ....' والشعب المصري صاحب فطنة .. وكله نظر .