في الجزء الجنوبي من شارعنا تقع بعض المنازل الشعبية الفقيرة التي يقيم فيها أهلها البسطاء من الباعة والحرفيين , وفي طفولتنا يعجب الخيال بمن تتوافر فيهم سمات البطولة بغض النظر عن مواقعهم الاجتماعية من أهل الشارع .. فلا عجب أن تستأثر بإعجابنا بعض شخصيات الجنوب الفقير من شارعنا لشهامة بادية عليهم أو قوة جسدية يتمتعون بها . ربما بأكثر مما قد نعجب أحيانا ببعض شخصيا الشمال الذين يتميزون بالجاه والمال ولاتغرينا شخصياتهم النمطية بالانبهار بهم , ومن بين شخصيات الجنوب من البسطاء تصمد في الذاكرة شخصية رجل قصير كان يحترف مهنة بائدة انقرضت الأن من شارعنا , وربما من كل الشوارع , هي مهنة السقاء , ولقد كانت عدته لممارسة مهنتة هي جاكيت جلدية رثة يرتديها فوق جلبابه المشمور دوما فوق الركبتين ليتيح لساقية العاريتين حرية الحركة بلا عناء , يحمل عليها قربة كبيرة سوداء فتحمي ملابسه من الابتلال , ثم حمار يمتطيه مع قريته , فيحصل علي الماء النظيف من حنفية عمومية في أحد أنحاء المدينة , ويطوف علي البيوت التي لم تدخلها شبكة مياه الشرب بعد , فيزدوها بحاجتها من المياه من قربته لقاء أجر شهري معلوم , فإذا بلغ بحماره أحد هذه بيوت نزل عن حماره وأنزل قربته ثم انحني علي رجل الحمار الأمامية فرفعها وعلقها في حبل يتدلى من البردعة , ليمنعه من الحركة تماما كما يفعل قائد السيارة حين يشد فرملة اليد عند مغادرته لها ليمنعها من الانزلاق , ثم يدخل البيت المقصود حاملا قربته ويؤدي مهمته الجليلة ويرجع بعد قليل ليمتطي حماره ويتجه به إلي بيت آخر . غير أن عبث الصغار وميلهم الغريزي للمشاغبة كان يفسد عليه في كثير من الأحيان خطة العمل , فلقد اعتاد بعض صغار الشارع أن يراقبوا هذا الرجل عن بعد وهو يؤدي عمله , فما أن ينزل عن حماره ويعلق رجله ويدخل أحد البيوت حتي يتسللوا إلي الحمار ويفكوا رجله المعلقة ويسرعوا بالفرار , فما أن يتحرر الحمار من قيده حتي يهرول عائدا وحده وبغير دليل إلي بيت صاحبه , الذي يحفظ الطريق إليه عن ظهر قلب مهما تبعد به المسافات , ويخرج صاحبه من البيت الذي كان فيه فلا يجد سيارته في انتظاره ويدرك علي الفور أن شياطين الشارع الصغار قد حرروا حماره من قيده , فينطلق لسانه لاعنا ومتوعدا , ويرجع الي بيته ليستعيد الحمار وهو يوزع شتائمه وتهديداته علي الجميع بما فيهم الحمار نفسه , ونتكتم نحن الضحكات الشريرة بجهد جهيد حين يعبر بنا الطريق مكفهرا ومرددا وعيده الشهير بأن يضرب من يكتشف أنه هو الذي فك رجل الحمار " بالجزمة ", هو وكل من يتصدي للدفاع عنه ! وترتجف القلوب الصغيرة وجلا بالرغم من سرورها الخفي بالموقف العصيب , ويعبر بنا الرجل عائدا بحماره بعد قليل لمواصلة عمله وهو ينظر إلينا شزرا ولسانه يواصل إطلاق قذائفة , ويكرر وعيده المرعب بالضرب بالحذاء عند اكتشاف الجاني , وهو وعيد ألفت الأذن سماعه في هذه المناسبة وفي غيرها من المناسبات العديدة , كأن يتشابك طفل من أبناء الشارع مع ابن لهذا السقاء في شأن من شئون الصغر المألوفة فيهرول الأب قادما من اتجاه بيته متوعدا بأن يضرب الطفل المعتدي " بالحزمة " هو ومن يعترض طريقة في ذلك , فيسرع الطفل بالفرار , ويرجع السقا بابنه وهو يهدر بالسباب والوعيد . شيء واحد فقط كان يخدش " جلال " هذا الوعيد المخيف ويحيله في أسماعنا إلي بهجة خفية نجاهد جهاد الأبطال لكيلا تظهر آثارها علي الوجوه , فتعرضنا لما لانحبه ونرضاه , وهو أن هذا السقا كان من أهل الحفاء , ولم ير ذات يوم منذ مولده وإلي مماته وهو يرتدي أي حذاء من أي نوع , كما لم يكن من أبنائه كبارا وصغارا أو من زوجته وبناته من عرف الحذاء ذات يوم في ذلك الزمن السعيد ! وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الحادية عشرة ... المهرجان ! الحكاية الثانية عشرة ... الحرية !