نتطلع نحن الصغار إلي شباب المدينة الصغيرة التي نشأنا فيها بالأعجاب والأنبهار , نلحظ كبرياءهم وترفعهم عن مخالطة الصغر من أمثالنا , فلا يقلل ذلك من إعجابنا بهم أو من تطلعنا لأن نصبح مثلهم ذات يوم . مع وعد صادق منا بألا نترفع علي الصغار وألا نردهم عن الاقتراب منا إذا رغبوا في صداقتنا ! نراهم عن الأصيل يتنزهون نزهتهم اليومية في الصيف فيمشون في جماعات من ثلاثة أو أربعة أشخاص ويرتدي الآخر قميصا من المربعات , ويضع الثالث نظارة طبية تضفي عليه هيبة يبدو معها وكأنه عالم يجري أخطر الأبحاث , فأما شعورهم جميعا فطويلة وغارقة في الفازلين ومصفقة عل طريقة أنور وجدي , وأما أحاديثهم فعن الجامعة ... والكليات ... وزميلات الدراسة ... والبعثات الخارجية التي يطمحون للفوز بها بعد الحصول علي الشهادات , وأفلام السينما ... ومباريات الكرة . وأما النزهة نفسها فليست غالبا سوي مشوار طويلة من المشي فوق كوبري المدينة القديم ذهابا وإيابا .... ولم يكن نادرا ً أن ينحني أحدهم علي الأرض لالتقاط السلسلة التي يتلهي بها فينسدل شعره الطويل علي وجهة ثم يعتدل في وقفته ويرجع برأسه إلي الخلف بقوة ليعيد شعره إلي طبيعته كما كان يفعل أنور وجدي في الأفلام القديمة ... ونرقب نحن هذه الحركة بإعجاب وتتجدد حسرتنا لحرماننا القهري من نعمة الشعر الطويل التي لايسمح بها الأهل إلا للشباب الموعودين بالمستقبل المشرق ... أما نحن الصغار فمهما نرجو حلاق الأسرة أن يدع شعرنا علي حالة , فلن يستجيب للرجاء , ولن يفعل إلا ما أمر به من الأهل وهو تقصير الشعر إلي أقصي حد ممكن , وبسبب هذا التعنت تصبح حرية إطلاق شعر الرأس إحدي الحريات التي نطالب بها ونناضل لانتزاعها , كما تناضل الشعوب المقهورة لانتزاع استقلالها من المحتلين ! ومن بين شباب المدينة تتوقف أنظارنا عند شاب ترشحه ملامحه البلقانية وبشرته البيضاء لأن يكون أجنبيا , لكن حديثة وسلوكه يدرجانه بين أبناء البلد الذين لا تستطيع التفرقة بين أحدهم وغيره في الشكل واللغة والملامح ... ثم نعرف أنه بالفعل يوناني ينتمي لأسرة يونانية مقيمة في مدينتنا وتمتلك لوكاندة فيها ... ونراه بين قرانائة من الشباب يتكلم ا لعامية المصرية بأفضل مما يتكلمها بعض أهل المدينة ... ويزداد إعجابنا به حين يتكلم اللغة الفصحي فيحرص علي مخارج الحروف السليمة , وقواعد النحو ... وسلامة الإعراب ... ونتساءل متعجبين كيف أجاد لغتنا القومية كل هذه الإجادة وهو الذي قد نشأ في بيت لغته اليومية هي اليونانية؟ ! فتجيء الأخبار ... بأن تفوقه في اللغة هو أيضا مثار إعجاب أساتذته بالمدرسة الثانوية .... وأن بعضهم قد نصحه بأن يلتحق بعد الحصول علي الثانوية العامج بقسم اللغة العربية بكلية آداب الإسكندرية , ونضحك نحن للنصيحة ولانعلق عليها أملا كبيرا . ثم تظهر نتائج الثانوية العامة بعد حين وينجح الشاب اليوناني فيها ... ويبدأ شباب المدينة في الاستعداد للهجرة للإسكندرية للالتحاق بجامعتها , ويذهب معهم صديقهم اليوناني , فإذا به يستجيب لنصيحة أساتذته بالمدرسة الثانوية ويلتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية , ويتفوق في دراسته ويحصل علي شهادته في اللغة بتقدير متفوق ! ويصبح حب هذا الفتي للغة العربية وتفوقة فيها رافدا إضافيا يصب في نهر الحب الكبير للغتنا القومية في أعماقنا ... وحافزا آخر للحفاوة بها . وأقرأ أيضاً : الحكاية العاشرة ... الرئيس ! الحكاية الحادية عشرة ... المهرجان !