في مقهي الأعيان أيضا تبدأ وقائع هذه القصة . .. كان الزمن زمن انتخابات .. وبالمدينة ثلاثة أو أربعة من المرشحين يتنافسون علي الفوز بأصوات الناخبين .. والمنافسة حامية .. والأعيان منقسمون بين تأييد هذا وذاك , وعمد القري المحيطة بالمدينة لهم دور مشهور في حشد الناخبين في صف من يؤيدونه منهم .. والمرشحون يخطبون ودهم ليضمنوا تأييدهم أو علي الأقل حسن استقبالهم لهم في قراهم حين يزورونها .. وحول إحدي موائد المقهي كان عدد من الأعيان , وبينهم عمدة إحدي القري المحيطة , يتحدثون عن الانتخابات , حين اقترب منهم قريب لأحد هؤلاء المرشحين ونهض الجميع مرحبين به وبينهم العمدة .. فما أن يصافحهم حتي يشتبك علي الفور في مشادة مع العمدة يتهمه خلالها بتأييد مرشح آخر .. ويدافع الرجل عن نفسه .. لكن الغضب الأحمق يتملك قريب المرشح فجأة , فلا يدري الحاضرون به إلا وقد رفع يده وهوي بها علي صدغ العمدة ! . وذهل الحاضرون .. ثم أفاقوا من الذهول وحالوا بين المعتدي وبين الاستمرار في عدوانه وانهالوا عليه لوما وتقريعا .. في حين كبح المعتدي عليه جماح نفسه .. وتعفف عن الاشتباك بالأيدي مع الفتي الأحمق .. وجلس في مقعده صامتا حزينا .. وراح كل من هم حوله يخففون عنه ويشيدون بحكمته وترفعه عن الدنايا .. ويجمعون علي سفاهة المعتدي وحمقه وسوء أدبه .. ويسمع الرجل مايقال بدون أن ينطق بكلمة واحدة .. ووجهه يزداد تضرجا بالانفعال الصامت لحظة بعد أخري . ويصبح الحادث حديث الأيام التالية .. وتجمع أغلبية الآراء علي تقديم حكمة المعتدي عليه وقدرته علي ضبط النفس , مما حال دون أن تسيل الدماء في المقهي , لكن الأمر لايخلو من اعتراض بعض ذوي الرؤوي الحامية الذين يعتبرون التسامح مع الحماقة ضعفا لايليق بمن أراد السيادة ! وتتصاعد حرارة الانتخابات .. وتشعل الأحداث المثيرة كل يوم انتباهنا فننسي واقعة الصفعة .. ويتواري الحادث بتوابعه في خضم الأحداث المثيرة .. إلي أن يرجع إلي بؤرة الاهتمام مرة أخري مرتبطا بحدث جديد , فلقد روي الرواة أن ذلك المرشح بعد أن أمن من ردة فعل العمدة المعتدي عليه قد خرج في موكب بالسيارات يزور القري المجاورة داعيا لنفسه , فما أن مضي في طريقه بضعة كيلو مترات حتي فوجئ بكمين يقطع عليه الجانبين ورجال ينهالون عليه وعلي مؤيديه وموكبه بالعصي والشوم فتتكسر العظام .. وتسيل الدماء , ويتحول الموكب إلي حطام وينقل الضحايا إلي المستشفي , وليس بينهم من نجا من كسر بليغ أو جرح غائر ! وتحقق الشرطة في اتهام المرشح للعمدة بتدبير الحادث انتقاما لكرامته التي امتهنت في واقعة الصفعة .. وينفي الرجل التهمة عن نفسه , مؤكداً للمحقق أنه كان وقت الحادث بين صحبه في مقهي الأعيان بالمدينة , وأن الموضوع قد انتهي في حينه .. ولو كان قد أراد الانتقام لكرامته بالفعل لما انتظر عشرين يوما أو أكثر لكي يفعل ذلك ! ويؤيد الشهود حديث الرجل , فتعجز النيابة عن إثبات الاتهام وتقرر حفظ التحقيق فيه وتقييد الحادث ضد مجهول . لكن الوجدان الشعبي لايعترف بقرارات النيابة والشرطة في مثل هذه الأحوال , وإنما يصدر علي الفور قراره هو باعتبار الحادث انتقاما من جانب العمدة ممن سبق أن اعتدوا عليه .. والأعجب أنه وهو يقرر ذلك يستشعر في أعماقه عدالته ولا يعترض عليه ! ويقول الراوي الصغير وهو يتوسط حلقتنا معلقا علي القصة : إن صمت المجني عليه إذا صمت قد لايكون في بعض الأحيان من الضعف ولا من التسامح , وإنما قد يكون انتظار صبورا للفرصة المناسبة للانتقام المؤثر ! . وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء ! الحكاية الثانية .. أيام السعادة ! الحكاية الثالثة .. الاحتفال ! الحكاية الرابعة .. التواصل عن بعد ! الحكاية الخامسة .. شيء من الألم !