لو سألت أى ضابط شرطة فى مصر الآن عن " أسود يوم في حياته " .. لن يتردد وسيقول 28 يناير 2011 .. وهو اليوم المعروف ب " جمعة الغضب " ، فقد كانت نكسة بحق للداخلية اضطرت بعدها للاختفاء تماماً من كل مكان في مصر ، كان يوم الحساب الشعبي علي ما فعله بعض الضباط وأمناء الشرطة مع الآلاف علي مدي سنوات طويلة سخرت خلالها وزارة الداخلية إمكانياتها البشرية والمادية لخدمة النظام وأمنه علي حساب المواطنين وحياتهم ، وبعيداً عن فتح ملفات الماضي ، وأيضاً بغض النظر عن روايات فتح السجون واقتحام وحرق الأقسام ، فهذا شأن قضائي مازال بحثه جارياً ، سنحاول خلال السطور القادمة الاستماع لشهادات ضباط ليس باعتبارهم " رجال الميري " .. لكنهم في الأصل شباب فجأة وجدوا جهازهم الأمني ينهار ورؤساءهم يختفون ويتركونهم بمفردهم في مواجهة حشود وطلقات رصاص وحرائق .. فكيف مر عليهم هذا اليوم ؟! الضباط فوجئوا مثل بقية المواطنين بقطع الاتصالات البداية مع ضابط برتبه نقيب كان يعمل في تأمين خط سير وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي ، قال : سمعنا يوم 22 يناير أن هناك مظاهرات بعد 3 أيام هدفها الرئيسي هو إقالة وزير الداخلية ، وانتشرت بين الضباط شائعات تؤكد أن أمن الدولة رفع تقريراً بذلك إلي مكتب العادلي لكنه رفضه ولم يبلغ به الرئاسة ، بل وأكد لمبارك أن الوضع تحت السيطرة وأن بعض الشباب علي الفيس بوك يرغبون في تقليد مظاهرات تونس ليس أكثر ، ولا داع للقلق اطلاقا ، وبالفعل كان تعامل الأمن المركزي مع تجمعات ميدان التحرير يوم 25 يناير عادياً مثلما كان يحدث مع أي مظاهرة ، وذلك رغم كثرة أعداد المتظاهرين ، لكن الأمن المركزي نجح في التعامل معهم بدون اشتباك أو وقوع ضحايا ، وتطور الموقف الي أن وصل الأمر الي قطع الاتصالات يوم جمعة الغضب والذى فوجئنا به تماماً مثل بقية المواطنين ، وأتذكر أن وقتها لم تأت إلينا شواء في شرطة النجدة أو في القوات المسئولة عن تأمين خط سير الوزير أي تعليمات اضافية ، وأنا كنت وردية مسائية ونزلت من البيت الساعة 3 عصرا وكنت أتابع علي الفضائيات أن هناك مظاهرات في كل أنحاء القاهرة والمحافظات المختلفة ، ولكنني لم أتوقع أن تتطور الأمور بسرعة مثلما حدث ، فبمجرد اقترابي من منطقة وسط البلد وجدت قنابل الغاز المسيل للدموع مسيطرة علي سماء المنطقة ، ولا يوجد طريق لسير السيارات ، واضطررت للدخول إلي شارع بولاق أبو العلاء " وكالة البلح " للخروج إلي الكورنيش أمام أحد المولات الذي كان قد بدأ في الاشتعال ، وأتذكر أنني وقفت صامتاً لفترة أتابع ما يحدث مندهشاً بشدة ، ووجدت ضابط أمن مركزي مصاب بطلق خرطوش ومعه عسكري مصاب في قدمه وهما يحاولان الهرب من المنطقة ، وعندما اقتربت من العسكري أدرك أنني ضابط ونصحني بعدم ارتداء " الملابس الميري " والهرب لأى مكان ، وقتها تركتهم متجهاً إلي مقر عملي بالقرب من منزل حبيب العادلي في المهندسين والذي نزل من بيته في حوالي الساعة الخامسة مساء ، ونزلت قبله زوجته في سيارة أخري ومعها ابنهما ، ورفض العادلي وجود حراسة معه وانطلق إلي مكان لا نعلمه لأنه نتيجة قطع الاتصالات وانتهاء الشحن في أجهزة اللاسلكي فقدنا التواصل مع رؤسائنا ، وأتذكر أن أخر كلمة سمعتها في اللاسلكي كانت ربنا معاكم والتي جاءت لنا من اللواء عدلي فايد رئيس مباحث أمن الدولة الأسبق ، وبعدها انقطع الارسال ، وأنا شخصيا قمت بتغيير ملابسي وقررت العودة الي المنزل لأننا لا نملك تعليمات واضحة ، ةكانت الأقسام من حولنا تحترق ، وأتذكر أنني في طريق عودتي الي المنزل مررت علي قسم امبابة ، وهو من الأقسام القليلة التي لم يتم حرقها يوم جمعة الغضب بسبب الحكمة التى تصرف بها مأمور القسم ، وبعد أن عدت إلي منزلي لم أستطع النزول مرة أخري إلا بعد أسبوعين ، ولم أكن أتحدث مع أي شخص في المنزل بعدما تعرضت لضغط عصبي شديد ، فقد وجدت أماماً اشخاصاً يموتون ولم استطع مساعدتهم سواء كانوا ضباطاً أو مواطنين ، وذنبهم جميعاً في رقبة الحكومة وقتها ، وللعلم .. كلنا كضباط شباب كنا نتوقع أن هذا سيحدث بسبب سياسات وزارة الداخلية . قلت للعساكر " ربنا معكم وكل واحد مسئول عن نفسه " ! رتبته " رائد " بالأمن المركزي وكان ضمن القوات المكلفة بالتواجد في ميدان التحرير يوم " جمعة الغضب " ، وأكد لنا أن التعليمات كانت واضحة بمنع بأي شكل وصول التجمعات والمظاهرات إلي الميدان حتي لا يتكرر ما حدث يوم 25 يناير ، وقال : كنا نعرف أن عدد المشاركين سيكون أكبر ، وبالتالي سوف يستحيل علينا اخراجهم من ميدان التحرير لو دخلوه ، وبالفعل بدأنا في تنفيذ هذه الأوامر بعد صلاة الجمعة مباشرة وقامت مدرعات الأمن المركزي باطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع باتجاه التجمعات ، وأنا شخصيا كنت من القوات الموجودة أمام دار القضاء العالي عند منطقة الأسعاف ، وأطقلنا قنابل الغاز في اتجاه المسيرة القادمة من مسجد الفتح في رمسيس ، ونحن يومها لم نكن مسلحين الا بالقنابل المسيلة للدموع ، ولكننا فوجئنا بأعداد المتظاهرين ونوعياتهم ، فمثلا في مسيرة مسجد الفتح خرج الأطفال من منطقة شبرا وبولاق أبو العلا ليلقوا الطوب علينا ، وبالتالي كان رد فعلنا اطلاق قنابل الغاز ، ومع تزايد الطوب ووفاة البعض نتيجة الاختناقات أو التدافع من الزحام فقدنا السيطرة علي الموقف ، وبدأ المتظاهرون في الهجوم علي المدرعات التي أصيب سائقيها من العساكر بحالة من الهلع والخوف نتيجة اشتعال مدرعات أخري أمامهم ، ولذلك صدموا بعض المتظاهرين في أثناء فرارهم ، فزادت حالة الغضب ضدنا ، وأنا أتذكر أنني وقتها نجحت في الخروج بالمدرعة التي كنت أقودها إلي شارع جانبي وقمت بانزال العساكر وقلت لهم " ربنا معكم وكل واحد مسئول عن نفسه " ، ووقتها ذهبت الي جراج الترجمان في منطقة السبتية وقررت الانتظار لبعض الوقت حتي أعرف ماذا سوف يحدث ، والغريبة أنني وجدت عدداً كبيراً من الضباط وعساكر الأمن المركزي هناك هاربين من المتظاهرين ، ووقتها أدركنا أننا فقدنا الاتصال برؤسائنا تماما ولم تكن لدينا تعليمات واضحة ، ولذلك كل شخص كان يتصرف حسب جرأته وقدرته علي التعامل مع الموقف ، وأنا رأيي أنه لولا قطع الاتصالات لكان الموقف تم السيطرة عليه مثلما حدث يوم 25 يوم يناير ، أيضاً غرور حبيب العادلي صور له أن الناس عندما تري سيارات الأمن المركزي ستخاف وتجري .. وهذا لم يحدث لأن الأعداد كانت كبيرة جدا ، وبعد أن خلعت الملابس الميري نجحت في العودة الي منزلي وظللت فيه لمدة شهر كامل لا أري الشارع حتي عدت لعملي . حرق القسم الذى كانت الناس تخاف تمر من أمامه داخل قسم بولاق الدكرور فوجيء الضباط باشتعال النيران في الجزء الخلفي من القسم ، وذلك في الوقت الذي كانوا مشغولون فيه بمتابعة ما يحدث في ميدان التحرير من خلال التلفزيون ، ويقول ضابط برتبة مقدم من قوة القسم : كان قسم بولاق من أوائل الأقسام علي مستوي الجمهورية التي أشعلت فيها النيران ، وهذا اليوم كانت الأوضاع متوترة في كل أنحاء الجمهورية ، ونحن كضباط أمن عام ليست لنا علاقة بالمظاهرات ولم يكن يتخيل أي شخص أن يحدث هجوم علي أقسام الشرطة ، خاصة وأن قسم بولاق معروف بالحزم والشدة لدرجة أنه كان يقال في المنطقة أن الناس كانت تخاف تمر من أمامه ، وعندما فوجئنا بأن هناك حريقاً في الجزء الخلفي من القسم لم نتخيل للحظة أن المهاجمين من سكان الحي أو المسجلين خطر .. في البداية ظننا أنه حريق عادي وقمنا لاطفائه ، ولكننا فوجئنا بأن هناك هجوماً منظماً من كل بلطجية المنطقة علي القسم ، في البداية وقفنا وتصدينا للهجوم وأطلقنا النار في الهواء لردعهم ، ولكن فوجئنا بحالة من الغضب داخل الحجز وقيام المساجين بإشعال نيران في البطاطين ، وبالتالي أصبح من الصعب السيطرة علي الوضع في القسم ، ففضل معظم الضباط ترك القسم للبلطجية والمسجلين الذين نعرفهم بالاسم ، ووقتها ظل القسم مشتعلاً لمدة 3 أيام وتمت سرقة كل الأسلحة وهرب المساجين والذين كان منهم مسجلين خطر تسببوا بعد الثورة في أعمال عنف وسرقة بالاكراه وغيرها ، ويوم " جمعة الغضب " سوف يظل في عقل كل ضابط في مصر سواء في الخدمة أو علي المعاش .. فهو أصبح نقطة فارقة في حياتنا جميعا ، خاصة وأننا جميعاً كانت لدينا اعتراضات واسعة علي طريقة ادارة الوزارة وتعامل البعض مع المواطنين . الكل كان يبحث عن ضباط شرطة للانتقام منهم وإلي الاسكندرية .. فقد أكد لنا ضابط بمباحث قسم الرمل ، وهو من الأقسام التي تعرضت للحرق ، أن يوم جمعة الغضب كانت التعليمات واضحة وهي أن الأمن المركزي سوف يتعامل مع المتظاهرين ، بينما والأمن العام والمباحث في الأقسام لينتظروا المعتقلين لترحيلهم الي معسكرات الأمن المركزي ليتم التحقيق معهم من قبل ضباط أمن الدولة ، ويضيف: هذا هو السيناريو الذي نجحت الداخلية في تنفيذه يوم 25 يناير ، وتوقع حبيب العادلي اعادة تنفيذة يوم جمعة الغضب ، وألتزم جميع الضباط به ، وقد طلبوا من ضباط المرور نزول الشارع بدون " طبنجات ميري " حتي لا يستعملوها اذا تعرضوا للعنف أو الاستفزاز من المتظاهرين ، وبالفعل كنت يومها في قسم الرمل مقر عملي ، وبعد صلاة العصر شاهدت في التلفزيون هجوم البلطجية ومسجلين الخطر علي بعض الأقسام ، فكان قرارنا نحن كضباط بالقسم هو الدفاع عن مقر عملنا ، وفي حوالي الساعة الرابعة عصرا بدأ الهجوم علينا من المناطق المحيطة بقسم الرمل ، وبدأنا بالفعل اطلاق النار في الهواء لإبعاد المتظاهرين عن القسم ، لكن الأمور مع انقطاع الاتصالات كانت تتزايد كل دقيقة سوءً ، ومع فقدان الاتصال مع القيادة أصبح كل ضابط يتصرف بما يهديه إليه عقله ، ولهذا شعر الجميع بأن الداخلية انسحبت ، لكن ما حدث كان أكبر من أن نواجهه بسبب تعرض حياة الكثيرين للخطر سواء الضباط أو المواطنين ، وأنا شخصيا ظللت موجوداً في القسم حتي شعرت بأن الأمر أصبح خارج السيطرة وأن عدد الراغبين في الاقتحام يتزايد ، بينما كان عددنا نحن كضباط وأفراد لا يقارن بهم ، وكل دقيقة تمر تعني أنك مضطر إلي إطلاق النار ، والناس تتخيل أننا كنا بلا شعور .. لكن لم يكن لدينا أى خيار أخر ، فحاولنا الدفاع عن القسم إلي أن قررت تركه والخروج من المنطقة بالكامل ، خاصة وأن الكل كان يبحث عن ضباط شرطة للانتقام منهم ، ونحن كنا معزولين عن مصر ولا نعرف ما يحدث في الخارج .