تغيرات كبيرة شهدها المجتمع المصرى فى السنوات الأخيرة كان لها تأثير خطير علي ارتفاع معدلات العنف حتى أصبح القاتل والمقتول من الأسرة الواحدة ، وأصبحت الجرائم الأسرية العناوين الرئيسية يومياً في صفحات الحوادث .. وقد أجريت علي هذه الظاهرة دراسات عديدة أكدت جميعها أن الجانى دائما فى سن الشباب ، وأن 70% من هذه الجرائم تقع نتيجة "سوء الظن والمخدرات والفقر والجهل" .. فما هي أسباب ارتفاع معدلات هذه الظاهرة ؟ ولماذا لا تصل غالبية الجرائم الأسرية لسلطات التحقيق؟ الإجابة بالتفاصيل فى سطور التحقيق التالى. البداية بالنسبة لنا كانت من دراسة حديثة أعدها المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية حول الجرائم التى تقع فى دائرة الأسرة الواحدة بحيث يكون الجانى والمجنى عليه من داخلها، فقد كشفت الدراسة عن حقيقة مهمة وهى أن الجانى غالباً "شاب" ، وأن الشباب فى المرحلة العمرية التى تتراوح ما بين 26و 44 عاما هم الأكثر ممارسة لجرائم العنف الأسرى ، وأن الذكور يشكلون أغلبية من مرتكبى جرائم العنف الأسرى بنسبة بلغت 78,7% بينما يمثل الإناث النسبة الباقية ، والدراسة التى أعدها الباحث ظريف شوقى بالمركز أكدت أن 87,2% من مرتكبى الجرائم فى محيط الأسرة من المتزوجين ، بينما والنسبة الباقية من الذين لم يتزوجوا بعد. جرائم " سوء الظن " دراسة أخرى صادرة عن المركز نفسه كشفت أن 92% من جرائم الأسرة المصرية تقع تحت طائفة الجرائم الماسة بالعرض والشرف نتيجة الشك فى السلوك أو سوء الظن مما يدع الزوج لقتل زوجته أو يدفع أحد الأشقاء لقتل شقيقاته ووجدت الدراسة أيضا أن 70% من الجرائم الأسرية ارتكبها الأزواج ضد زوجاتهم وأن 20% من هذه الجرائم ارتكبها الأشقاء ضد شقيقاتهم بينما ارتكب الآباء 7% فقط من نوعية هذه الجرائم ، فى حين أن نسبة ارتكاب الأبناء جرائم القتل ضد أمهاتهم لم تتعد نسبتها 3% ، وكشفت هذه الدراسة عن مفارقات خطيرة منها أن 70% من هذه الجرائم تمت دون أن يتأكد الجانى من حقيقة التهمة الموجهة للمجنى عليه داخل محيط الأسرة ، حيث لم تقع هذه الجرائم فى حالة تلبس ، بل كان السبب دائما هو الشائعات وسوء الظن وكلام الجيران والأصدقاء أو المعارف، ووجدت الدراسة أيضا أن المجنى عليه فى 60% من الجرائم التى تقع فى محيط الأسرة دائما برىء ، وأن ما تسبب فى قتله من أجله لم يكن صحيحا وأن السبب دائما هو " سوء الظن " والشائعات المغرضة. وحول أدوات الجريمة فى محيط الأسرة تشير الدراسة السابقة إلى اعتماد الجانى على الأسلحة البيضاء أو أدوات المطبخ الحادة فى ارتكاب جريمته بنسبة 52% وذلك بواسطة السكين أو الساطور، فى حين بلغت نسبة الجرائم التى يقوم فيها الجانى بإلقاء المجنى عليه من "الشرفة" 11% وبلغت نسبة استخدام القتل باستخدام السم 8% وبلغت نسبة القتل بالرصاص 5%. وتدل هذه الأدوات إلى أن الجرائم الأسرية دائما ترتكب بشكل مفاجىء ويميل القاتل دائما لاستخدام الأسلحة التى فى متناول يديه. في بيتنا جريمة عائلية وبعيدا عن لغة الأرقام فإن قصص الجرائم الأسرية لا ترتبط بشكل معين فكل قصة لها طابعها الخاص وظروفها المختلفة ، من بين أخطر هذه القصص التى تناقلتها صفحات الحوادث مؤخرا هى قصة الأب الذي تجرد من كل مشاعره الإنسانية فقتل بناته الثلاث فى جزيرة نيلية بمدينة "ببا" ببنى سويف .. واعترف القاتل بجريمته البشعة أمام سلطات التحقيق وكان مبرره أن ظروفه الاقتصادية دفعته للجريمة وأنه خشى عليهم من غدر الزمن فقرر أن يتخلص منهن، لكن جيران هذه الأسرة المنكوبة أكدوا أن القاتل لم يكن مستقيما من الناحية النفسية. كانت ظروف الفقر المدقع تدفع الأسرة دائما للشجار والخلاف، وحاول الجيران كثيرا التدخل لكنهم فشلوا حتى استيقظوا ذات صباح على هذه الجريمة البشعة. وشهد حى الهرم جريمة من نوع آخر عندما أقدم زوج شاب على قتل زوجته فى ساعة مبكرة من الصباح ثم اتصل بقسم الشرطة مبلغا عن نفسه ومعترفا بجريمته دون أدنى إنكار وأثبتت التحريات أن الجانى شك فى سلوك زوجته وحدثت بينهما خلافات عديدة كانت مقدمة لارتكاب الجريمة .. فقد سيطرت على الزوج مشاعر الغضب وسط إحساس عاصف من سوء الظن والغريب أن التحريات لم تثبت شيئا يسيء لسمعة الزوجة وأن القاتل تسرع فى جريمته. قصة أخرى نشرتها صفحات الحوادث حول قيام شاب فى منطقة بولاق بالاعتداء على شقيقته حتى أودى بحياتها .. كان هذا الشاب قد أدمن المخدرات وحاولت شقيقته إثنائه عن هذه العادة لكن سحقه "الكيف" وأعمى بصيرته، وذات مساء تجرد هذا الشاب من مشاعره الإنسانية فقام أولا بالاعتداء على والده لأنه منع عنه المصروف فحاولت شقيقته أن تدافع عن أبيها وكان الثمن الذى دفعته غاليا وهو حياتها. بداية التفكك قصص عديدة ونماذج تتكرر يوميا حيث أصبحت ظاهرة الجرائم الأسرية أمرا معتادا ولم يكن شائعا من قبل .. هذه الظاهرة يرصد بداياتها لنا الكاتب الصحفي محمود صلاح أحد أشهر المتخصصين في تغطية أخبار الحوادث في الصحافة المصرية ، ورئيس تحرير جريدة " أخبار الحوادث " السابق ، يقول : جرائم الأسرة حالة شاذة وجديدة على المجتمع المصرى ولم تكن موجودة من قبل، وأنا شخصيا عندما عملت أول صفحة حوادث متخصصة فى الصحافة المصرية ومن خلال القصص الأسبوعية فى هذه الصفحة حاولت أن ألقى الضوء على مواطن الضعف فى الأسرة المصرية والتى منها تنبع الجريمة ووجدت أن ملامح التغير الحقيقة قد بدأت بسفر المصريين للعمل فى الخارج وكانت تلك هى بدايات التفكك وبداية الانفتاح على كل شىء .. فهناك نوعية من الجرائم تغيرت مع تغير المجتمع وتغير الشخصية المصرية مثل ظهور جريمة العائلة، وهى الجريمة التى يكون الجانى والمجنى عليه من عائلة واحدة فمثل هذه الحوادث لم تكن تعرفها الأسرة المصرية على الإطلاق، وإذا حدثت فهى تعد نادرة من النوادر لكن أصبح شائعا أن يقتل الأب أولاده أو العكس وعشت حتى باتت هذه الحوادث أمرا عاديا بعد حالة من التخريب أصابت بنيان الأسرة المصرية. جرائم فوق القانون ومن الناحية القانونية، يقول الدكتور عادل عامر خبير القانون العام ورئيس مركز المصريين للدراسات القانونية والاقتصادية والخبير بالمعهد العربى الأوروبى للدراسات الإستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية: هناك نوعان للجرائم الأسرية فإما أن تكون جرائم اجتماعية بسبب الميراث، أو أن تكون جرائم جنائية بدعوى الدفاع عن "الشرف" وهذا النوع تحديدا ينتشر بكثرة فى صعيد مصر طبقا لمفهوم "الشرف الخاص" بمعنى أن هناك عادات وتقاليد خاصة بالزواج فلا يجوز للبنت مثلا أن تتزوج من خارج القبيلة وإن حدث ذلك تكون قد ارتكتبت جريمة مخلة بالشرف ويتم قتلها وتنتشر هذه الجريمة أيضا فى مصر بشكل عام نتيجة الشك فى السلوك أو الظن السيئ أو أى سبب آخر ،أيضا هناك شكل آخر من هذه الجرائم وهى تلك المتصلة بالاعتداء على "ذوى الأرحام" طبقا للتوصيف القانونى وتتمثل فى جرائم الاغتصاب التى تقع داخل الأسرة وهذه النوعية تنتشر خصيصا فى العشوائيات أو فى المساكن الضيقة فمثلا عندما تقيم الأسرة أو العائلة فى غرفة واحدة تكون هذه الأسرة عرضة للكثير من الجرائم الأسرية. والمشكلة الأخطر أن الجرائم الأسرية حتى وإن وصلت للقتل والاغتصاب لا تصل لجهات التحقيق ،فالاغتصاب فى المناطق العشوائية أصبح من الأمور المعتادة ومن الصعب أن تشتكى الأسرة أحد أبنائها بهذه التهمة وفى صعيد مصر أيضا يتم التكتم على جرائم القتل المتصلة بالشرف إلا فى حالات قليلة. ويضيف الدكتور عادل عامر أن هناك أسبابا عامة أدت لانتشار الجرائم الأسرية وارتفاع معدلاتها فى المجتمع المصرى فى السنوات الأخيرة ،ولعل أهم الأسباب ارتفاع نسبة الفقر والضغوط الاقتصادية وضيق السكن وانتشار الأفلام الإباحية والتراث القبلى، وأخيرا عدم وصول نسبة كبيرة من هذه الجرائم لسلطات التحقيق لانتفاء الشكوى. وحول أسباب الظاهرة من الناحية الاجتماعية تقول الدكتورة هالة يسرى أستاذة علم الاجتماع بمركز بحوث الصحراء: التغيرات التى شهدها المجتمع المصرى فى السنوات الأخيرة كان لها تأثير كبير على ازدياد حدة العنف داخل الأسرة ولعل من أخطر وأهم الأسباب التى تدفع للجريمة الأسرية هى "المخدرات" فهناك كميات هائلة تدخل مصر وتؤدى لتدمير شبابنا وتعزز بداخلهم الميول العدوانية تجاه الأسرة حيث يقوم الشاب بالاعتداء على أحد أشقائه أو شقيقاته أو والده أو والدته من أجل أن يحصل على ثمن "الكيف" ، أيضا من الأسباب الأخرى والأهم هو الفقر المتبوع بالضغوط الاقتصادية فهذا العامل له تأثير كبير فى تفكك الأسرة وتدفع أعباء الحياة للعنف والجريمة الأسرية فهناك ارتباط كبير بين ذلك. أيضا التغيرات السياسية الأخيرة التى أعقبت الثورة كان لها تأثير على الجوانب الاجتماعية.