يبدو أن كل ثورة لها الكتالوج الخاص بها , بدليل اختلاف سلوكيات كل شعب ثائر عن الآخر , و لكن المصريين تحديدا استطاعوا ان يبهروا العالم كله بثورتهم السلمية , فلا يوجد شعب في الدنيا يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعد ان ينتهي منها لو لم يكن هذا سلوكه من الأساس , فما الذي حدث للمصريين ؟! و ما هي التغيرات التي طرأت علي سلوكهم بعد الثورة ؟! هذه الأسئلة استطاع دكتور مدحت عبد الهادي المحلل النفسي ان يقوم بدراسة خاصة محاولا إيجاد إجابة عنها فماذا كانت النتيجة ؟!تعالوا نستطلع معا.. هل استطاعت الثورة بالفعل ان تغير من سلوك الناس في مصر ؟ أجريت دراسات عديدة علي سلوكيات المصريين بعد الثورة ووصلت إلي نتيجة ان الثورة لم تستطع ان تحدث تغييرا جوهريا في سلوكياتنا بقدر ما استطاعت ان تكشف هذا السلوك , بمعني اننا وقت قيام الثورة كنا في حالة من أجمل ما يكون وكان يجمعنا حب غريب و شعور غير عادي بالانتماء ثم مع الوقت بدأ هذا الشعور يتغير و بدأنا نرجع لما كنا عليه و هذا يدل علي اننا كنا أكثر هدوءا او استقرارا او استسلاما في ظل النظام السابق هذا الحكم الشمولي الديكتاتوري و أقصد بكلمة شمولي هنا انه كان يحكمني علي كل الأصعدة أي هو الذي يرسم لي فقري و مهانتي و متي يفرحني بماتش كرة او علاوة 10% , و يبدو اننا كشعوب العالم الثالث نحتاج دائما لطريق مضيء و خطة محددة نسير عليها , لأن الظلام بالنسبة لنا يعني الخوف و المجازفة , و نحن بطبيعتنا الوراثية لا نحب المجازفة , لذلك عندما قامت الثورة فرحنا بها جدا و تغيرت كل سلوكياتنا و لكن لأن تلك السلوكيات لم تكن متأصلة فينا من الأساس اختفت بسرعة مع أول عقبة ظهرت في طريق تحقيق أهداف الثورة و تحول الأمر لفوضي بدلا من البحث عن طرق تحقق لنا ديمقراطية حقيقية . معني ذلك اننا شعب غير قادر علي ممارسة ديمقراطية حقيقية ؟ مازلنا تحت التجربة فلا يوجد من يستطيع ان يقول إننا كنا سننجح في تحقيق ديمقراطية حقيقية أم لا , و لكن ما أستطيع الجزم به الآن من خلال الدراسات التي أجريتها طوال السنة الماضية اننا لن نستطيع ان نمارس الديمقراطية الآن خاصة انها تعتمد علي الفكر ثم الاختيار لأننا لو لم نفكر لن نستطيع الاختيار و بالتالي سنبحث عن من يختار لنا و هنا يختفي شرط تحققها وهو التفكير و الاختيار ومن هنا فعلينا ألا نطالب بها الآن و إلا سنصبح كمن يحارب طواحين الهواء او يضرب رأسه في الحائط بلا نتيجة . و ما رأيك فيمن ينادون بضرورة تطبيق الديمقراطية اقتداء بأمريكا و أوروبا ليس أكثر ؟ أنا ضد هذا الرأي تماما و ضد ان ننادي بأي شيء اقتداء ببلد آخر فربما ما كان مناسبا لهذا البلد لم يكن مناسبا لنا , و من هنا فعلي القائمين علي أ مر مصر الآن أن يقيموا الشعب المصري و قدراته وملكاته و بناء عليه يخططوا لما هو أكثر فائدة له . و هل كان النظام السابق يقيم رغبات الشعب و يحققها؟ ! أنا لم أقصد هذا و حتي لو كان النظام السابق يعرف كيف يقيمنا و يوجهنا فإن هذا التوجيه كان يحدث بالعنف والقهر والديكتاتورية , فيكفي انه لم يعطنا فرصة للتفكير في أي شيء واعتمد في تحقيق هذا الهدف علي الجهل الذي أغرق الشعب المصري كله فيه , فهل يعقل ان بلدا مثل مصر مازالت نسبة الأمية فيه 40% و تلك هي نسبة امية القراءة و الكتابة فقط بدون أمية الوعي و التي لا تقل عنها خطورة , فللأسف النظام السابق سيطر علي كل شيء به سعادة و تعاسة الشعب المصري لذلك انا دائما , و حتي قبل الثورة كنت أصفه بأنه نظام الداهية لأنه استطاع ان يوجه شعبا بذكاء وقدرات الشعب المصري , وهي بالمناسبة ليست قدرات بسيطة و لكنها لم تجد من يستغلها . إذا كان النظام السابق داهية كما تقول , فما السبب الذي جعله لم يستطع ان يشعر بوصول الناس إلي مرحلة الانفجار ما بين يومي 25 و 28 يناير 2011 ؟ لأكثر من سبب , أولا : انه كان داهية غبيا فطوال السنوات الماضية لم يعتمد هذا النظام علي ذكائه بقدر ما اعتمد علي استسلام الناس في مصر الي هذا القدر الأسود , و ثانيا : لأنه بناء علي السبب الأول وهو استسلام الناس له تصور انه الوحيد القادر علي التحكم في مصائرهم مما أصابه بجنون العظمة الذي صور له ان الناس و الثوار لن يستطيعوا ان يفعلوا شيئا , و حتي عندما بدأت الثورة تأخذ خطوات نجاحها الأولي ظل هذا النظام صامتا لكنه لم يكن يصدق او يستوعب ما يحدث و عندما استوعب كانت فرصته قد انتهت , و هناك نقطة أخري هامة و هي ان الرئيس السابق نفسه تم تغييبه تماما عن الحكم طوال العشر سنوات الأخيرة فهو ايضا خضع لنظام الحكم الديكتاتوري الشمولي من زوجته و ابنه ورجاله , فلو كان مبارك خرج للناس يوم 25 يناير الماضي و قال لهم أنا آسف لقد أخطأت في حقكم سامحوني و طلب فرصة أخيرة لإصلاح هذا الخطأ لاختلفت النتيجة تماما . نفهم من ذلك أن نجاح الثورة جاء بالصدفة ؟ طبعا لا , و انما نجاحها في المراحل الأولي كان سببه الرئيسي رغبة حقيقية في الخلاص من القهر والظلم و الألم الذي لم نعد نستطيع احتماله . بماذا تفسر حالة العصبية المفرطة التي أصابت الشعب و الثوار و المجلس العسكري و جعلتنا جميعا ننظر لبعض و كأننا أعداء .. فأين الحب الذي ولد بين الناس من قلب الثورة ؟ عندما قامت الثورة استطاعت ان تضيء بداخلنا أربع شمعات الأولي هي الحب سواء حبنا لهذا الوطن الذي شعرنا لأول مرة انه وطننا و ليس وطن هذا النظام الغاشم او حبنا لبعض و الثانية الانتماء و الثالثة الإيمان بالقضية و بأن مصر هي الأهم و الرابعة هي الأمل و تلك هي الشمعة الوحيدة التي مازالت مضيئة بعد ان ضاع الحب واختفي الانتماء و تحول الإيمان بالقضية لمطالب فئوية , و هذا ما يجعلنا نتمسك بالثورة حتي الآن ونحاول ان نبذل أقصي ما في وسعنا لنجاحها . ألا تري ان الثورة أفرزت فينا شكلا جديدا من الأنانية ؟ هو ليس شكلا جديدا , بالعكس فتلك الأنانية شعور متأصل بداخلنا استطاع النظام السابق ان يعمل طوال الوقت علي تنميته عملا بنظرية فرق تسد , و لكن تلك الأنانية التي خلقها هذا النظام اعتمد فيها علي نظرية سيف المعز و ذهبه و السيف هنا هو العقاب الذي ينتظر المخطيء لذلك كانت أنانيتنا مقننة اي انها لا تتعدي ان اكسر عليك في إشارة لأمر قبلك او استخدم أساليب غير مشروعة لآخذ دورك في ترقية مثلا معتمدا علي خدمات أقدمها للمدير وهكذا ولكني طوال الوقت أفعل ذلك بحذر خوفا من العقاب , لذلك أول ما اختفي العقاب او المعاقب بعد الثورة تحولت تلك الأنانية لفوضي و تحول الشعور بالانتماء الذي ولد مع الثورة الي رغبة في التعامل مع اي دولة أجنبية اقتداء بمن نسمع عنهم كل يوم سواء كانت جماعة 6 ابريل او غيرها من حصول أعضائها علي تمويل اجنبي بحجة انهم نشطاء سياسيون او حقوقيون كما يدعون علي أنفسهم فتحول الأمر إلي اننا بدلا من ان نصفهم بأنهم خونة لأنهم لا يلعبون إلا لمصالحهم الشخصية اصبحنا نتمني ان نكون مثلهم , و الحقيقة انني سمعت بنفسي من رئيس تحرير احد اكبر برامج التوك شو علي واحدة من هؤلاء تدعي انها ناشطة سياسية انها كانت تأتي الي البرنامج من شهور قليلة في الميكروباص أما الآن فتركب سيارة B M W و من هنا فإن الفوضي تأتي نتيجة طبيعية لتلك الثورة التي فقد الأغلبية العظمي إيمانه بها و بدأ يبحث عن أي مكسب يحققه منها . كيف رأيت مشهد الشباب الذي كان يرقص و يرفع يده بعلامة النصر و هو يحرق المجمع العلمي أثناء أحداث مجلس الوزراء ؟ شباب مشحون بضغوط نفسية جعلته يتعامل مع كل من حوله كعدو أصيب بحالة عمي مؤقت نتيجة الجهل و استغلال البعض له , نتيجة غياب إدراكه انه يحرق وطنه و ممتلكاته و يقتل شخصا مسلما مثله محرما دمه عليه , فالشيء المؤكد ان هذا الشباب لم يكن يدرك ما كان يفعله نتيجة وقوعه تحت تأثير حالة تغييب تام لوعيه . وماذا عن الغل الذي تملك الجيش وهو يضرب معتصمي محمد محمود و مجلس الوزراء ؟ أولا يبدو أن الجيش اعتبر ثورته انتهت بمجرد سقوط رأس النظام السابق و الخلاص من فكرة التوريث التي كانت تسبب له قلقا عظيما والتي حاول من أجلها حماية الثورة في بدايتها وعندما تحقق الهدف لم يعد في حاجة لحماية الثورة , أما الثوار الحقيقيون فثورتهم لم تنته بعد لأن هدفهم الرئيسي منها كان الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية ولم يتحقق منها أي هدف حتي الآن , وبالتالي فالجيش لم يعد في حاجة لمن ' يوجع رأسه ' باعتصامات و مطالب فئوية و غيره لذلك تعامل الطرفان في أول احتكاك حقيقي بينهما بعدوانية شديدة بعد ان كانوا يلتقطون الصور معا و كان الشعب يتعامل مع الدبابة تلك الآلة التي كانت بالنسبة لنا رمزا مخيفا للحرب , و كأنها كائن أليف يسعي للتصوير بجانبه , اصبح كل طرف ينظر للآخر و كأنه عدو له و من هنا ولدت حالة الغل المبالغ فيها خاصة ان الجيش حتي الآن لم يعلن عن نواياه الحقيقية سواء كان سيسلم السلطة بالفعل ام سيظل متمسكا بها و هذا الموقف الغامض هو الذي حول سلمية الثورة لدموية . طول الفترة الانتقالية هل سيصل بالناس الي مرحلة اليأس ؟ أي فترة انتقالية كلما طالت يمكن ان تصل بمن يعيشها الي مرحلة اليأس , و لكن الفترة الانتقالية التي تعيشها مصر الآن خاضعة لسيناريوهين , الأول هو استمرار المجلس العسكري في الحكم إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا , اما السيناريو الآخر فهو إصرار الجيل الثاني من الجيش علي الاستمرار في الحكم عن طريق إتاحة الفرصة للانفلات الأمني والتسيب و تصعيد المواقف حتي تخرج الأغلبية العظمي من الشعب لتطالب الجيش بالبقاء في الحكم تحت أي شكل , مقابل إعادة الأمن و الأمان الذي اصبح من أهم أولويات الناس . بالرغم من اننا شعب متدين بطبعه إلا ان الشارع مازال خائفا من الحكم الإسلامي؟ أنا لا أري أي مبرر لهذا الخوف , بالعكس نحن علينا ان نمنح الإخوان الفرصة ثم نحاسبهم علي ما فعلوه , و أري ان الإخوان إذا أخذوا أربع وزارات تحديدا سيصبح حال مصر من افضل ما يكون وهي التعليم و الصحة و النقل و الزراعة , و لكن هذا شرط ان يعلموا الأطفال الدين بمضمونه الصحيح فهذا سيضمن لنا مواطنا صادقا لا يكذب و لا يرتشي و لا يزور و يعمل بما يرضي الله و نفس الشيء ينطبق علي النقل و المواصلات و الصحة لأنه يتقي الله في تلك الخدمات التي يقدمها للناس , فالإخوان هم الأفضل في الخدمات و لكنهم في السياسة أسوأ من النظام السابق و المجلس العسكري مائة مرة . حالة الإحباط الشديدة التي يعانيها الناس في مصر الآن .. ما السبب فيها و ما السبيل للخروج منها ؟ غياب الرؤية و شعور الشعب المصري انه يدور حول نفسه و في النهاية يصل لنفس النقطة التي بدأ منها , أليس هذا كفيلا بالإحساس بالإحباط والاكتئاب أما الخروج منها فلن يحدث بالقادة القائمين علينا حاليا , و البديل لن يكون سوي بثورة أخري مطالبها فئوية وطنية و ليست فردية .