رغم عشقي وولعي الدائم بالتاريخ والتراث القديم، ومتابعتي الدؤوبة لكل ما تركه الأجداد من آثار شامخة علي امتداد الحقب التاريخية المتعاقبة. وتراث حضاري شاهد علي عظمة تاريخنا، إلا أن هناك قصصا وحكايات ارتبطت بهذا التراث لا تزال تُدهشني، لذلك استمتعت كثيرا بالسرد المدهش والممتع لسلسلة »حواديت المآذن» التي نشرها الكاتب الصحفي والصديق إيهاب الحضري علي مدي شهر رمضان، وتضمنت مجموعة من القصص الطريفة والحكايات الغريبة التي ارتبطت بمساجد مدينة الألف مئذنة. في كل حلقة من الحلقات كنت أنتظر الجديد من القصص المنسية، التي يحملها لنا قلم الكاتب المعجون بعشق التراث، فلم تكن الاختيارات وليدة الصدفة، وإنما جمعها حكايات تخص المكان أو مؤسسه أو الحقبة التاريخية، حيث يكون أحد هذه التفاصيل الثلاثة هو البطل، وربما يزيد عدد الأبطال في الحلقة الواحدة، لكن المهم أن الاختيارات كشفت جانبا من تراث لا يعرفه الكثيرون، حتي لو كانوا من سكان القاهرة التي تنتمي لها تلك المساجد، بل قليلون من جيران هذه الجوامع يعلمون بها، وأحيانا يقومون بتغيير الأسماء لعجزهم عن نطقها بشكلها الأصلي، فيتحول اسم جامع »قراقجا الحسني» إلي »مسجد بلا مئذنة»، ويصبح »قجماس الإسحاقي» جامع أبو حريبة، وتحمل لافتة مجاورة لجامع قوصون اسم قيسون! والطريف أن عنوان »حواديت المآذن» الذي اختاره الكاتب عند إعادة نشر حلقاته علي »فيس بوك»، في رأيي يعد عنوان ذا دلالة لكنه مخادع، إذ يوهم القارئ بأنه مقبل علي قراءة حكايات خفيفة مسلية، مثلما جرت العادة، لكن الكاتب يمزج وجهات نظره بنسيج الحكاية، ليقدم قراءة مغايرة لتاريخ مُختلف علي تفاصيله، ويظهر هذا بوضوح عند حديثه عن أحلام أحمد بن طولون التي واكبت تشييد مسجده، ويشير إلي أنها كانت أحلاما لا تخلو من دوافع تهدف إلي استقطاب الناس للصلاة في المسجد، بعد أن أحجموا عنها لأنهم لا يعرفون مصدر الأموال التي استُخدمت في بنائه. وقد يكون الحياد أحيانا هو الأساس، فيتم استعراض بعض ما أثير من معارضين ومدافعين حول الخليفة الغامض الحاكم بأمر الله، وفي حين آخر تظهر آراء الكاتب علي شكل استفسارات، مثل حديثه عن مسجد »أبو الذهب»، ففي سياق استعراضه خيانته لأستاذه علي بك الكبير، يتعرض لما كانت تذكره كتب التاريخ في مدارسنا، حول استقلال علي بك عن الدولة العثمانية، وتطرحه بوصفه حركة تحررية مبكرة، لكن تساؤلات الكاتب تفتح باب التفكير من زاوية أخري، فكيف تكون حركة تحرر وطني رغم أن المصريين ليسوا طرفا فيها؟ إنه مجرد صراع بين مماليك وعثمانيين علي أرضنا. ورغم أن الحلقات منفصلة، إلا أن هناك ربطا ينم عن قراءة دقيقة، فرغم أن الحلقات الخاصة بمساجد صرغتمش وبشتاك وقوصون لا تأتي متتابعة، إلا أن الربط يظهر عند الحديث عن مسجد »قوصون»، الذي أشار إلي الفرسان الثلاثة، باعتبارهم من أمراء الناصر محمد بن قلاوون، واختلفوا بعد وفاته وكانت نهايتهم شبه واحدة في مراحل متعاقبة، وترك كل منهم مسجدا يُقبل عليه الناس، دون أن يعرفوا ملامح تلك الفترة المُشتعلة بالخلافات والحروب السياسية، التي كان موت الأمير فيها علي فراشه أمنية غالية، لا تتحقق كثيرا تحت وطأة نزاعات دموية. تفاصيل كثيرة أشار لها الكاتب سريعا، كانت تحتاج إلي معلومات أكثر وسرد أطول، مثل زيارة الحسن بن الهيثم لمصر في عهد الحاكم بأمر لله، وادعائه الجنون خوفا من بطشه، أو مزيدا من التفاصيل عن حقيقة وجود رأس الحسين في مصر، لكني ادرك جيدا ظروف المساحة المحددة، وكان واضحا أن الكاتب استبعد مساجد أكثر شهرة، لأنه يريد أن يفتح المجال لمساجد منسية، منها ما هو مغلق، ومنها ما يعاني الإهمال، وكان ذلك واضحا في إشاراته لأحوالها الحالية، التي تهدد بعضها بكوارث، فامتزجت حواديت الماضي بالحاضر، لتدق نواقيس خطر في بعض الأحوال. إنني أشكر الكاتب الصحفي خالد ميري رئيس تحرير جريدة الأخبار علي إتاحة تلك المساحة لمثل هذا العمل البحثي، لتعريف القراء بحقبة تاريخية مهمة وتراث منسي، وأحيي الكاتب إيهاب الحضري علي هذا الجهد المتعمق، والأسلوب السردي الشيق والمبسط، والقادر علي اجتذاب ملايين القراء لمعرفة الكثير عن تاريخهم، وأطالب الكاتب الذي جمعني به عشقنا للتاريخ والآثار بتحويل تلك السلسلة إلي كتاب يضاف لسلسلة الكتب التي تحتاجها المكتبة العربية