ذات يوم لم يكن في مقدرة أحد أن يتجرأ علي جدرانه، فقد تنامت سطوة مؤسسه حتي أصبح الحاكم غير المتوج لمصر، لكن الطير الذي علا وارتفع، لم يلبث أن هوي بعد خمسة شهور فقط من النفوذ غير المحدود، فتعرض مسجده ومنشآته للعبث، عقب ثورة مفاجئة عليه. وتجاوزت جرأة العامة حدودها في عصرنا، بمبان أخفت بعض جدرانه، ولم يسلم اسمه منها، فقد تحول المسجد من »قوصون» إلي »قيسون» لا علي الألسنة فقط، بل أيضا علي لافتات لجنة الزكاة الملحقة به! لم يكن الفتي يتوقع أن يتغير مسار حياته إلي النقيض بمجرد وصوله إلي مصر عام 1320، فقد جاءها من إحدي قري بخاري، ضمن مماليك خوند ابنة القان أزبك، التي تزوجها الناصر محمد بن قلاوون، رآه السلطان فأعجبه واشتراه بثمانية آلاف درهم. رقاه في المناصب، وأحضر إخوته من بلاده، وزوجه الناصر ابنته وتزوج اخته. وكان يمكن لقوصون أن يكتفي بما وصل له، لكن سقف أحلامه كان بلا نهاية. بدأ قوصون بناء مسجده، في موقع منزل الأمير جمال الدين قتّال السباع الموصلي، هدمه الأمير ليقيم الجامع الذي اكتمل بناؤه عام 1330. لا أحد يعرف بالتحديد تصميمه الأصلي، ليس نتيجة استهدافه فقط، بل لأسباب أخري لاحقة،. سقط النصف الأعلي لإحدي مئذنتيه عام 1801 فهدم جانبا من المسجد، ورجح الجبرتي أن يكون سقوطه نتيجة استهداف الفرنسيين للموقع بالبارود، ثم جاء إنشاء شارع محمد علي في 1873 ليقتطع جزءا آخر من الجامع، كان يضم المئذنة الثانية، وهكذا أصبح ما تبقي منه بلا مآذن. شهد عصر تشييد المسجد صراعا بين الأمراء المماليك، وبرز فيه فرسان ثلاثة، تساقطوا تباعا في غضون سنوات قليلة، لتبقي مساجدهم شاهدة علي تاريخ من النزاع الدموي. أطاح قوصون بالأمير بشتاك، وشارك صرغتمش في الإطاحة بقوصون، ولم تمض سنوات قليلة حتي كان السلطان حسن قد أنهي مسيرة صرغتمش، خلال نزاع آخر! عندما شعر السلطان قلاوون بقرب وفاته حاول الصلح بين قوصون وبشتاك ليحسم ولاية العهد، وتم ذلك بشكل ظاهري، وبمجرد وفاته، استخدم قوصون سطوته عام 1341، لتولية الابن الأصغر للناصر، وهو الأشرف كُجُك، فقد كان عمره 5 سنوات فقط. لم يكن ما فعله قوصون غريبا في تلك الحقبة، فقد كان يتم تداول منصب السلطان بين أمراء المماليك، لكن اختلاف الأمراء علي من يتولي المُلك، كان يجعلهم يولون أحد أبناء السلطان المتوفي مؤقتا لحين حسم الأمر! وهكذا وقع الاختيار علي السلطان الطفل، ليمهد قوصون المجال لنفسه، لكن أحلامه سرعان ما تحولت إلي كابوس!