ادخل في لُب صفحات التاريخ، حتي تدرك معنى أن تكون مصر هى البوابة الأولى للدخول إلى العالم الإسلامى والشرق الأوسط، وأن مصر وحدها كفيلة بصد كل الغزاه عنها عن العالم الإسلامي كله، وأنها وحدها إن سقطت تداعت عليها كل الأمم، ولن تقوم قومة للعرب مرة أخرى. هنا علينا أن نرى واقعاً يمتد جذوره لآلاف السنين، حقيقة لا بد أن نتداركها، مدعاة للفخر والشرف بأننا ننسب إليها، جنسياً وعرقياً.. وبالمناسبة .. تعود علينا ذكرى موقعة "عين جالوت"، تلك المعركة الفاصلة التى قضت على الزحف المغولي نحو العالم الإسلامى، وذلك بعد أن عاثوا فساداً فى الدولة الخورازمية مرورا بمذبحة بغداد، ناهيك عن القتل فى كل البلاد التى دخلوها، حتى وقف القائد قطز، قائد المماليك وحاكم مصر فى ذلك الوقت، لينهي بسواعد جنده المصريين ما رُعب منه الناس فى تلك الفترة. قبل معركة "عين جالوت" كانت الأمور السياسية فى مصر تحمل مزيداً من الإضطرابات سواء على سدة الحكم والمتنازعين عليه، أو على مستوى النزاعات والخلافات والفتن التى باتت داخل الشارع المصرى، كل هذا كان بعد انتصار جيش المماليك فى معركة المنصورة ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع. كل تلك الإضطرابات السياسية يمكن تلخيصها فى التالى .. اعتلاء شجرة الدر حكم مصر بعد وفاة الملك الصالح أيوب، الحملة الصليبية السابعة ومعركة المنصورة، انتصار الجيش المصرى فى المعركة، ثم زواجها من عز الدين أيبك، ثم اعتلاء أيبك الحكم، بعدها قٌتل أيبك على يدِ شجرة الدر، ثم قتل شجرة الدر على يدِ زوجة أيبك، ثم اعتلاء نور الدين أبن أيبك سدة الحكم وهو بعد ما يزال طفلا صغيراً، وتعيين سيف الدين قطز واصياً عليه، إضافة إلى الخطر المحدث من المغول وزحفهم نحو مصر، وهذا ما جعل قطز يعزل نور الدين عن الحكم، ويتولى هو حكم البلاد، ليبدأ بعدها بإعداد الجيش لمحاربة التتار وإنقاذ أمة الإسلام منهم ومن خطرهم. قطز كان محنكاً عسكرياً بالقدر الكافى، ولذلك حينما عزم على محاربة التتار لم ينتظرهم حتى يقبلوا على مصر، بل خرج على رأس جنده وانتظرهم فى "عين جالوت"، تلك المنطقة الواقعة بين مدينة بيسان في الشمال ومدينة نابلس في الجنوب بفلسطين، ولأنه كان يدرك خطورة أن يحارب على أكثر من جبهة، عقد صلحاً مع الصليبين الذين أحتلوا عكا، حتى يضمن له ولجيشه أن لا يحدث اتفاق بين الصليبين وجيش المغول، وبالتالي سيؤدى هذا إلى إضعاف الجنود المصريين لأنهم يحاربون على أكثر من جبهة. وهنا فى عين جالوت بدأت المعركة فى يوم الجمعة الموافق 25 رمضان 658 ه / 3 سبتمبر 1260، والتى مر عليها 759 عاماً، ولا تزال محفورة فى تاريخ مصر والعالم الإسلامى كله. الجيش المغولى بقيادة "كتبغا" رأى فى جيش المسلمين قلة وذلك بعد ظهور المقدمة من الجيش المملوكى وعلى رأسهم "ركن الدين بيبرس"، ولم يكن يعلم أن ثمة حنكة عسكرية يقودها قطر من خلف التلال مباشرة، مما جعله ينقض على الكتائب التى كان على رأسها "بيبرس"، وبدأت الحرب، وعلا صوت الجنود ب "الله وأكبر"، وثبتت مقدمة الجيش في القتال وكانت مكونة من خيرة فرسان المماليك، قرر كتبغا استخدام كامل قواته لقتال مقدمة الجيش بعد أن رأى منهم الثبات في القتال، دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف جيش التتار، استمر القتال سجالاً على الرغم من الفجوة العددية الكبيرة بين القوتين، ثم دقت الطبول دقات معينة وهي عبارة عن أوامر من قطز إلى بيبرس بسحب التتار إلى داخل سهل عين جالوت، بدأ بيبرس على الفور في تنفيذ الأوامر، فأظهر للتتار الانهزام وتراجع بظهره وهو يقاتل، عندما رأى كتبغا تراجع المسلمين أمر جنده بتتبعهم والقضاء عليهم، وبدأ جيش التتار في دخول سهل عين جالوت للضغط على الجنود الذين انسحبوا، وبعد مدة من الزمن ليست بالقليلة دخل جيش التتار بأكمله داخل سهل عين جالوت، في هذا الوقت نزل جيش المسلمين الرئيسي من خلف التلال إلى ساحة المعركة، وأسرعت فرقة قوية من المماليك لغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك أحاطت قوات جيش المسلمين بالتتار من كل جانب، أيقن عندها القائد كتبغا المكيدة التي انطوت عليه من المسلمين، وبدأ صراعاً لا مجال فيه للهرب أو المناورة، واستمر القتال وقطز في أرض المعركة يقاتل، وبدأت الكفة تميل لصالح المسلمين، وارتد الضغط على التتار، وتقدم أمير من أمراء المماليك واسمه جمال الدين آقوش الشمسي واخترق صفوف التتار حتى وصل لكتبغا، ودار بينهما قتال فتمكن آقوش من كتبغا وقتله، وبقتله قتلت العزيمة عند جيش التتار، وأصبحوا يقاتلون ليفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، واستطاعوا فتح ثغرة في المدخل الشمالي، وخرجت أعداد كبيرة منهم باتجاه الشمال، وخرج المسلمون في طلبهم، حتى وصل التتار الفارّون إلى مدينة بيسان، وعندما وصل إليهم المسلمون، لم يجد التتار أمامهم إلا أن يعيدوا تنظيم صفوفهم ويصطفوا من جديد، ودارت بين الطرفين معركة كبيرة قرب بيسان، وقاتل التتار فيها قتالاً شديداً، وبدأوا يضغطون على المسلمين، ودارت الدائرة لهم، عندها كرر قطز ما فعله في عين جالوت وأخذ يصيح بالجند «واإسلاماه... واإسلاماه... واإسلاماه» ثلاثاً، كانت هذه الكلمات دفعة معنوية لجنود جيش المسلمين، وأقبل الجند على القتال وارتفعت راية الإسلام وهوت راية التتار، وبدأ جنود التتار في التساقط، وكانت نتيجة المعركة أن أُبيد جيش التتار بأكمله، ولم يبقَ على قيد الحياة من الجيش أحد.