قبل وفاته بأيام أرسل لنا يومياته التي تنشر يوما من كل شهر، لم ندرك أنها الأخيرة في سلسلة ابداعاته .. و»الأخبار» إذ تنعي واحدا من المبدعين العرب، تسأل له المغفرة ولأسرته الصبر والسلوان. ضربات الزلزال التي هزت عددا من أقطار الوطن العربي فيما أطلق عليه انتفاضات الربيع العربي، تركت بالتأكيد شروخا في النفوس والعقول والقلوب من النوع الجسيم الذي لن يمحي الا بجهد جبار ووفق خطة تنخرط فيها كل مؤسسات المجتمع وأجهزته المعنية بالعمل في مجال الموارد البشرية، تنميتها وتصليح أعطابها ورفع ما ألحقته بها مراحل التأزم والاحتراب من أضرار وما وضعته في طريقها من عراقيل تسد في وجهها باب النجاح والتحقق والانجاز. وأستطيع شخصيا باعتباري كاتبا ان اري ما يمكن ان يراه متخصص في علم النفس او علم الاجتماع او التربية والتعليم، وهو ان هذا التأهيل في مثل هذه المراحل التي تعقب الازمنة الصعبة، يجب ان يأخذ الاولوية علي كل الاولويات، باعتباره بديلا للفوضي وفساد المجتمعات، واذا كان قد تأخر في التحقق والحضور في حياتنا وبرامج استعادتنا للمواقع التي فقدناها لصالح أهل الفوضي والجهل والتخلف والمتلاعبين بشريعة الله وأديانه، فما ذلك الا لأن توابع هذه الزلازل لم تكن تعطي فرصة لاحد يمضي في رسم الخطط والسياسات وفق التراتبية التي تضمن النجاح للمشروع وتلبي حاجة المجتمع لضمانات العافية النفسية لأهله. لقد أنجي الله قطرين هما مصر وتونس من إكمال المسير في طريق الأهوال الذي سار فيه البقية، بدءا من العراقوسوريا واليمن وصولا إلي ليبيا وأخيرا السودان، ولعل اكثر الدول المرشحة للخروج هي آخر الداخلين في لعبة تغيير النظام أي السودان، يليها ربما ليبيا وبشائر أمل تلوح في سوريا بعد ان عرفت هذه البشائر طريقها إلي العراق، ونأمل ان نري اليمن المنكوب بالحوثيين، يعود سعيدا كما كان ايام حضارة سد مأرب. الوقت في مثل هذه القضية التي تتصل بالصحة النفسية حاسم جازم، وها هي هذه الدورة من دورات انتفاضات الربيع تقترب من قفل العقد الاول من أعوامها، وتصوروا ما يمكن ان تفعله تفاعلات مثل هذه الاعوام علي عقلية طفل، باعتبار الاطفال هم الفئة التي يجب ان نبدأ بها المعالجة والتأهيل والاعداد، لشفافية ورهافة وجدان أبناء وبنات هذه المرحلة العمرية، وقوة تأثرهم بهكذا أحداث. نعم، الاطفال أولا، ولكن لا استثناء لأية فئة، لخطورة ما تتركه مثل هذه الحروب من أثر علي كل الأعمار، ويستطيع من تابع معاناة الجنود الأمريكيين المشاركين في حرب فيتنام علي مدي خمسين عاما بعد انتهاء الحرب ان يعرف الفاتورة الفادحة التي تعقب فاتورة الحرب نفسها. ونصل إلي أكثر الاسئلة اهمية وجوهرية عن المادة العلمية التي يجب اعتمادها في مهمة التأهيل، لنكتشف اننا بلغنا اكثر مراحل العمل يسرا وسهولة وجاهزية، فعالم اليوم مفعم إلي حوافه بمثل هذه المادة، ويكفي ان نشير إلي ما توفر من مادة اعقبت حربين عالميتين خاضتها اكثر القوي قدرة علمية علي وضع الخطط والسياسات لمثل هذا التأهيل، وهي خطط وسياسات ومناهج متاحة لكل من يريد استخدامها والاستفادة بها. افتتان بنشرة الأخبار أذكر أن صديقنا الكاتب الكبير الراحل الأستاذ عبد الله القويري كان يدمن الانصات لنشرة الساعة الثالثة من اذاعة لندن العربية ولم يكن ممكنا ان يتخلف عن سماعها مهما كانت الظروف، ومهما كان المجلس الذي يجمعنا يقتضي وجوده، فكان لابد ان يترك هذه المجلس عندما تحين الساعة الثانية والنصف ليسرع إلي بيته لسماع النشرة، ولم يكن يسمح لأي إنسان يلاقيه في الطريق بأن يعطله عن موعده مع سماع النشرة، وتوصلنا في بعض الاوقات إلي تدبير وسيلة يسمع بها النشرة دون مغادرة الجلسة، إذ كان الممثل المصري المعروف المرحوم زين العشماوي يعمل في طرابلس مدرسا بمعهد التمثيل، وكان يملك سيارة جاكوار قديمة لا شيء يعمل فيها بانتظام سوي المذياع، ولانها سيارة تنتمي لفخر صناعة السيارات البريطانية فقد كان الراديو فيما يبدو معدلا ومضبوطا علي التقاط موجات اذاعة لندن، ولهذا كنا نرجوه ان يكون قريبا بسيارته خاصة اذا جمعتنا جلسة هدرزة بمقهي الاورورا فكنا نرغم الاستاذ القويري علي البقاء معنا والانتقال إلي سيارة زين العشماوي لسماع النشرة، وبعد سماعها يكون الاستاذ القويري جاهزا للبقاء للهدرزة حتي الليل دون شاغل يشغله عن لقاء الاصدقاء. ولم يكن الأستاذ القويري حالة استثنائية فقد كان الافتتان بإذاعة لندن يشمل كل المهتمين بالشأن العام، الا ان هذا الافتتان بإذاعة لندن، انقضي عهده منذ زحف الفضائيات علي سماء الاعلام وعالم الأخبار، وها هو الانسان يجلس في صالون بيته وتحت أمره ازرار الريموت لينتقي ما يشاهده من بين أكثر من ألف محطة، عدد كبير منها صارت قنوات متخصصة في الاخبار، وصار هذا الفيض من الاخبار يحاصر الانسان ويلاحقه ويكاد يسمم عليه نهاره وليله باعتبار ان الاخبار تتغذي علي الكوارث والمآسي والحوادث الفاجعة والعمليات الارهابية، وتكاد تحيل نومه إلي كوابيس وكان لابد ان تحدث ردة فعل ربما تناقض الافتتان القديم بإذاعة لندن في أزمنة شح الاخبار، خاصة الاخبار البعيدة عن التحيز الحكومي وبعيدة عن الاعلان والدعاية والبروباجندا، اما الآن فخريطة الاختيار تجعله مستحيلا ان تحتكر حكومة واحدة الترويج للأخبار التي تظهرها في صورة نقية سليمة وإخفاء كوارثها وخطاياها. المهم أنني شخصيا صرت أعاني من حالة نفور من النظر في نشرات الاخبار، او الاستماع اليها من الاذاعات، خاصة وان عملية الضخ القادمة من اجهزة الاعلام المرئي والمسموع لا تترك فرصة لانتقاء أي خبر تسمع او تشاهد وانما عليك ان تتلقاها مثل الدش فوق الرأس بعكس الصحيفة او شاشة الكمبيوتر، ولهذا صرت لا أبالي بمشاهدة نشرات الاخبار في التلفاز او الاستماع اليها في المذياع اما الصحف فقد كان دائما اهتمامي يذهب إلي صفحات المقالات والصفحات الثفافية لان الاخبار عادة ما تصبح بائتة فقدت قيمتها، وإذا كان لابد من معرفة خبر فلم يعد يمكن ان يخفي علي الانسان لانه سيكون في دقيقة موجودا امام انظارنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمن يداوم النظر فيها، واذا لم يكن فلابد ان يحمله له صديق عبر مكالمة هاتفية او عبر رسالة مكتوبة. واعتقد ان الهروب من النشرات المسموعة والمرئية يصبح هذه الايام شرطا من شروط المحافظة علي العافية النفسية بل والجسدية للانسان لانها صارت مصدر توتر وغصص ومتاعب ما أغنانا عنها الا عندما يكون الخبر ضرورة قصوي تحتمها شروط الامان والسلامة لانفسنا وعائلاتنا كما في اوقات التأزم والاحتراب، أنجانا الله من ويلاتها. شهرة في علاج الأفاعي التقيت في احد مراكز العلاج في الخارج بمواطن ليبي ينتمي إلي نفس البلدة التي أنتمي اليها جنوبطرابلس، واسمها مزدة وقلت له قد يستغرب بعض الناس سعينا للقدوم للعلاج في الخارج مع انتمائنا لاحد اكثر مراكز العلاج شهرة في ازمنة مضت. وضحك الرجل لأنه يعرف ان اكثر انواع العلاج رواجا في البلدة كما قال لي هو كتابة الاحجبة. وأفهمته انها قصة حقيقية وشهرة حصلت عن طريق كاتب ايطالي كان في الاصل طبيبا سجل للبلدة هذا الانتصار وهذه السمعة في كتابه »بلسم للأفاعي» أو باللغة الانجليزية » »ure for Serpents» إبان عمله في ليبيا في العقد الثاني او الثالث من القرن العشرين، واقتبس هذا العنوان من فترة قضاها في مزده، وحضر جلسة في عشة تملكها عائلة من الحواة، ذات اصل إفريقي، تعيش علي اعمال السحر والشعوذة، واهم ادوات العمل لديها كانت ثعبانا، متوسط الحجم، تصادف اثناء زيارة الطبيب لهذه العائلة، ان كان الثعبان يمر بوعكة صحية، مما تسبب في حالة من الحزن والكآبة خيمت علي كل افراد العائلة فالثعبان مصدر رزق وعيش، وهو يتمدد واهنا ضعيفا، فاقدا للنشاط والحركة، بسبب مرض غامض ألمَّ به، وكانت ربة الاسرة تندب حظها خوفا علي مصير الثعبان، ووجد الطبيب نفسه في وضع حرج، لان طبيبا اجنبيا مثله، ينظرون اليه بإكبار وتقدير، وأمل في ان يكون لديه العلاج الذي يشفي الثعبان المريض، وأعفته الظروف من أداء هذه الخدمة، لان احدي نساء العائلة كانت قد ذهبت لاحضار اعشاب طبية، لعلاج الثعبان، وغمر الفرح ربة العائلة التي صارت تفتح فم الثعبان وتضع معجون الاعشاب في جوفه، حتي تعود إليه الصحة والعافية، وكان هدف الطبيب من هذه الزيارة ان يري عرضا من عروض هؤلاء الحواة، ولكن مرض الثعبان حرمه من هذه المتعة، لانه حتي بعد ان استعاد الثعبان صحته، ورجع لممارسة ما يتمتع به من نشاط وحيوية وقدرة علي الرقص والقفز في الهواء، قررت ربة الاسرة منحه اجازة من عمله المضني واليومي، ليقضي ما تبقي من النهار لاعبا راقصا ضاحكا، يمرح ويركض في الساحة المحاذية للكوخ، مصدرا فحيحا يعبر به عن حالة من الفرح والبهجة بعد إبلاله من مرضه. اهتمت الصحافة المحلية بالكتاب في ذلك الوقت ونقلت بعض ما كتب عنه في الخارج ولعل اهل البلدة انتظروا ان تجلب لهم هذه السمعة الطبية زوارا اجانب تضيفهم إلي الزوار الذين يأتون لمشاهدة آثارها الرومانية ولكنها دعاية لم تجلب أحدا، اذ لا وجود لأحد يحرص علي إنقاذ أفعي من الموت. أديب ودخان خلال المرات القليلة التي اصطحبني فيها والدي إلي مقهي البريد عندما كنت طفلا، رأيت رجلا في منتصف العمر، ينتحي ركنا بمفرده، ويضع في يده قلما، وامامه ورق. عندما أردنا مخاطبة الجرسون بطلباتنا، رد علينا همسا، طالبا ان نتكلم بصوت خافت، لان الاستاذ يكتب، ولم اعرف ما معني ما كان يقوله الجرسون، خاصة وان الرجل لم يكن في واقع الامر يكتب شيئا، كان الورق امامه فارغا، لم يلمسه، والقلم في يده لم يخط به حرفا، والسيجارة بين إصبعيه، يمتص دخانها وينفثه سحبا في الهواء، ثم يسرح ببصره وراء هذه السحب وهي ترسم دوائر وخرائط من وهم وخيال، كأنه يريد الامساك بها دون جدوي، وشرح لي والدي ما غمض من امر الرجل، قائلا انه اديب مشهور يأتي هنا ليكتب القصص، ومنذ ذلك الوقت ارتسمت في ذهني صورة عن الادب والادباء، من خلال هذا الرجل، ورق ابيض، ودخان يطير في الهواء، ورجل يحاول دون فائدة ان يمسك بدوائر الوهم فلا يقبض الا علي الهواء. • روائي ليبي