أشارت إحدي الدراسات إلي أننا نلمس هاتفنا 2617 مرة في المتوسط يوميا وأكثر من 5400 مرة لمن لديهم هوس استخدام الهاتف. هل تركض خلف مطالب الحياة التي لا تنتهي؟ وتسوقك أحلامك فيها في وحشة دروب ومتاهات لا تكاد تري لها مخرجا؟ وتلهث مرغما كي تنال أقصي ما تستطيع من كل شيء حتي ولو علي حساب سلامك النفسي وعلاقاتك مع أقرب الناس إليك؟ وتجأر بالشكوي من وجود فراغ في حياتك رغم كل مشاغلك؟ إذن أنت بحاجة إلي بعض من الهوجا! والهوجا Hygge كلمة إسكندنافية تعني الرضا والاعتدال وخلق علاقات دافئة مع من حولنا وتوازن يعيد إلينا ما نفقده جراء مكابدة الحياة، وحمي تملك الأشياء، والاستسلام لوتيرتها اللاهثة، فكل ما حولنا يدفعنا نحو حب الذات والانصياع لرغباتها ويمطرنا بوعود أن في ذلك السعادة... كل السعادة. فوكزات الاستهلاك الشره تكاد تطرحنا أرضا، الإحساس الدائم بالحاجة إلي شيء ما يشقينا، نقضي سنوات طويلة من عمرنا أمام الشاشات في حين نكاد لا نعطي تناول الطعام والتحدث مع أفراد الأسرة والأصدقاء أي وقت، وباتت بيوتنا جزرا منعزلة عن محيطها، وحتي داخل الأسرة الواحدة مزيد من الجزر. إن الهوجا تأخذك بعيدا عن هذه الأشياء لتعود بك إلي الحياة الحقيقية عن طريق الالتحام مع أفراد الأسرة والأصدقاء والطبيعة، وخلق أجواء دافئة في حياتنا وعلاقاتنا، والاستمتاع بما لدينا مهما كان قليلا أو بسيطا مثل تناول الشاي أو القهوة مع شريحة من الكيك اللذيذ في ليلة شتوية، علي أريكة أو حتي علي الأرض مع أبنائنا وأسرنا وأصدقائنا بجوار مدفأة أو بدونها، يكفي دفء العلاقات بيننا، نتجاذب أطراف الحديث عن أشياء نحبها جميعا، فلا مكان للجدال أو المناقشات الساخنة أو البغضاء والكراهية، أو نقرأ كتابا نحبه أو هواية تسعدنا، أو نزور مريضا ونساعده علي التعافي، أو نظفر بنوم هانئ، أو نفتح نوافذنا لنور الشمس في الصباح الباكر وإضاءة مريحة بسيطة ليلا، أو تشاركنا بعض النباتات بيوتنا، أو نخرج للتريض أو المشي ونغلق هواتفنا قليلا، حيث أشارت إحدي الدراسات إلي أننا نلمس هاتفنا 2617 مرة في المتوسط يوميا وأكثر من 5400 مرة لمن لديهم هوس استخدام الهاتف. إن هذا من شأنه أن يبني بداخلنا ذكريات سعيدة تمنحنا الرضا في حياة بها الكثير من المعاناة. نحاول القبض علي اللحظات السعيدة في حياتنا مهما قلت أو ندرت حتي في أصعب الأوقات حين تضربنا أعاصير الحياة، فالسعادة حالة ذهنية في المقام الأول. لا يهم أين نسكن أو كيف نسكن، المهم أنه سكن لنا نجد فيه السكينة والراحة والطمأنينة والدفء. وكلما كان السكن بسيطا كانت لدينا فرصة للحصول علي هذه الأشياء. إن التخلص مما لا حاجة إليه في بيوتنا سيطلق أسر نفوسنا وعنان راحتنا. وما من شك في أن قارب الحياة يبحر أحيانا وسط أنواء المصاعب والآلام وهو جزء من الرحلة. تدليل النفس والأحبة يمكن أن يكون سهل المنال في معظم الحالات، تدركه الأم التي تمضي طوال اليوم في إعداد الطعام ورعاية الأبناء وغيرها حين تعتبر أن هذه نعمة حباها الله بها وهي نعمة الأسرة والأولاد، وأن كل هذا يهون في سبيل هؤلاء الأحباب. والأب كذلك، وكل منا يمكنه الحصول علي الرضا رغم متاعب العمل وضيق ذات اليد أحيانا، إذا ما استحضرنا ثمرته التي ننتظرها في مخيلتنا طول الوقت. وإذا ما فشلنا في الحصول علي مبتغانا، فلا بأس، هذا جزء من الحياة: يسر وعسر، سراء وضراء، ضيق وفرج، سطوع وأفول. المهم الرضا بالمقادير والإيمان بأن القادم أفضل. وعلي النقيض هنالك فلسفات ورؤي للعالم سائدة في شرق آسيا بالتحديد تري أن الإنسان لن يستريح إلا إذا عرف ماذا يحب وماذا يجيد وما حاجة المجتمع لعمله وهل هناك مقابل مُجز لذلك؟ ولذا عليك العمل بلا هوادة وترك حياة الراحة والدعة. كل يسعي لإدراك الرضا والسعادة بطريقته. وهذا ما يتماهي مع مقاصد الأديان السماوية التي نزلت في المقام الأول من أجل تحقيق السعادة للإنسان وغيره من المخلوقات علي الأرض. فعندما تلين قلوبنا تجاه أنفسنا ومن حولنا فإن ذلك يمنحنا زيادة في رأسمالنا من الإيمان والنعم والهبات الربانية ومن ثم رصيدنا من الرضا والسعادة في الدنيا والآخرة. ويتفق أيضا مع آخر الأبحاث التي بينت أن أكثر ما يسعدنا ويمنحنا سلاما هو نعمة الشكر لله جل وعلا وكذلك شكر من ساق الله نعمه علي أيديهم، كما أن للإحساس بأن هناك من يحبنا ونحبه ويأنس بنا ونأنس به والحرص علي الصحبة الطيبة، والبذل والعطاء والإيثار والإيجابية والتطوع والصبر ونبذ الشكوي نصيب كبير في خلق حالة الرضا والسعادة. وأخيرا لعل الدعوة إلي مزيد من التبسط والاعتدال والترشيد، وكبح جماح حمي الامتلاك المادي التي أوردت الإنسان مورد الشقاء، والفكاك من إسار الشاشات والحياة الرقمية وعلاقاتها الافتراضية، وتعهد العلاقات الإنسانية بالرعاية كي تنمو وتزهر رحمة وتراحما وعطاء ودفئا وأمنا وراحة وسكينة، لعل ذلك يعيد إلينا إنسانيتنا التي باتت تواجه تهديدا وجوديا غير مسبوق. نوتردام والتراث الإنساني »سوف نعيد بناء نوتردام لتصبح أكثر بهاء وجمالا من ذي قبل وذلك في غضون خمس سنوات، سنحول هذه الكارثة إلي فرصة لتوحيد شمل أمتنا حول مشروعنا القومي» بهذه الكلمات خاطب الرئيس ماكرون الفرنسيين صبيحة اليوم التالي للفاجعة التي ألمت بالبلاد جراء حريق كاتدرائية نوتردام التاريخية في باريس. وقد تابع الكثيرون حول العالم بصدمة وحزن شديدين مشهد الحريق الهائل الذي اندلع في كاتدرائية نوتردام أو كاتدرائية الكاتدرائيات في مدينة النور باريس والمدرجة علي قائمة اليونسكو للتراث العالمي. هزت الفاجعة الكثيرين من كافة الأديان والمعتقدات، من زار الكاتدرائية ومن لم يزرها، من قرأ عنها ومن لم يقرأ، حتي من شاهدها لأول مرة وهي بين أنياب النيران. واستدعت اللحظة مشاعرنا الملتهبة أمام تلك المشاهد المماثلة لأماكن ومتاحف ومواقع أثرية من مساجد وكنائس ودور أوبرا وقلاع ومكتبات ومسارح وقد وقعت في براثن الحريق أو الحروب أو الزلازل أو الإهمال أو الهدم المتعمد وغيرها. تري ما الذي يشعل نيران مشاعرنا بهذا الشكل؟ وما الذي يجعل الإنسان يتعلق بآثار الماضي وينتحب إذا ألم بها سوء؟ ولماذا يهب الجميع في لحظات فارقة تكون فيها الروح القومية في أوج عنفوانها ونقائها وقد غسلت الكارثة الغبار والصدأ الذي تراكم عليها فغيب لمعانها وأطفأ جذوتها؟ وفضلا عن الجوانب الاقتصادية للتراث فيما يطلق عليه الصناعة الثقافية وما يرتبط بها من أنشطة سياحية وثقافية وصناعية وتجارية، إلا أن الارتباط الوجداني بيننا وبين التراث هو أكثر ما يأسرنا، ويشعرنا بالانتماء إلي جماعة من الناس نتماهي معهم ومع قيمهم ورؤيتهم للعالم، نحب التراث الذي خلفوه لنا؛ لأنه شاهد عيان علي أحداث وقصص عنهم لم نحظ بمعايشتها، فهنا مشي أجدادنا وحاربوا وعاشوا الحياة بحلوها ومرها وانتصاراتها وانكساراتها، وما لذلك كله من دروس ملهمة. إنه الارتباط الوجداني الذي يؤجج مشاعرنا ويحثنا علي فعل أقصي ما يمكن من أجل الحفاظ عليه لأن في ذلك حفظا لذاكرتنا وحاضرنا ومستقبلنا. لقد جبل الإنسان علي التعلق بالأشياء في حياته، ولعل نظرة عامة علي أسطح المنازل أو الشرفات أو الحجرات تكشف عن ذلك، فكلها تكتظ بأشياء من الماضي مثل ملابسنا ولعب أطفالنا وكتبنا وأثاثنا القديم المتهالك، نتمسك بهذه الأشياء، نحاول تجميد الزمن وكأن الاحتفاظ بها يمنحنا ذاكرة فوق ذاكرتنا، نتنفس أيامنا الحلوة ولا نريد أن نفرط فيها مهما مر عليها من أعوام. إن هذا الإحساس الشخصي تجاه أشيائنا الشخصية هو ذاته ذلك الإحساس القومي تجاه تراث الأمة، لا يمكنها التفريط فيه ويتملكها الذعر خشية أية أخطار تتهدده. إن التراث ليس فقط آثارا مادية خلفها أسلافنا ولكنه كل ما يتعلق بالتجربة الإنسانية والإبداع الإنساني وأشكال التعبير عنهما من معارف ومعتقدات وأساطير وأدوات وصور وحرف ومأكل وملبس ووثائق وكتب وكل مكونات البيئة المحيطة بنا. والتراث المادي هو البوتقة التي تنصهر فيها كل تلك العناصر فيصبح تعبيرا صارخا عن هويتنا. إن الولع بالتراث هو أكبر ما يمكن أن يأخذ بأيدي أبنائنا، وهم يصارعون أزمة هوية جراء أعاصير العولمة، نحو إدراك الذات والزهو بمخزون أمتهم الثقافي والحضاري والبناء عليه، ذلك الزهو الذي يتملك أحدنا مثلا حين ينتسب إلي عائلة ذات شأن. ولقد تجلي في هذا الحادث المروع آيات التضامن الإنساني والوعي الثقافي بأشكال عديدة منها التبرعات من رجال الأعمال والشركات الكبري والهيئات الحكومية والإقليمية والدولية ولكن أكثر هذه الأشياء هو ردة فعل المواطنين الذين قضي بعضهم الليل بجوار الكاتدرائية وقد افترشوا الأرض علي الضفة الأخري لنهر السين قبالة الكاتدرائية يرقبون في حسرة وحزن مروعين. فالكاتدرائية بالنسبة للفرنسيين ليست بناء أثريا يزوره الملايين من البشر كل عام ولكنه جزء من حياتهم ووجدانهم، لم يتوقف دعمهم والتفافهم حول ضرورة إعادة البناء، لقد جعلهم الحادث أكثر إيمانا بهويتهم وذاكرتهم الجمعية وثقافتهم. زاد التصميم علي أن تظل الكاتدرائية مقصدا سياحيا وروحيا حتي علي حالتها هذه، وتم اقتراح تشييد كاتدرائية مؤقتة ذات هيكل خشبي في ساحة نوتردام كي لا ينقطع سيل الزائرين الهائمين عشقا لها من كل مكان فلابد ألا تغلق أبوابها. كما قاموا بتنظيم الرحلات إلي مكان الحادث كي ترتبط الأجيال الجديدة بالتراث وتشاطر الكبار الأحزان والآمال والتصميم علي إعادة الوضع لأفضل مما كان عليه، كما واكب الحادث إقبالا منقطع النظير علي مسرحية »أحدب نوتردام» الغنائية التي ارتبطت بالكاتدرائية وارتبط القراء حول العالم بالكاتدرائية من خلالها. لقد أبرز هذا الحادث تلك المكانة للتراث والذي تتسابق الأمم كي تدرج كنوزها علي قائمة التراث العالمي لليونسكو لما لذلك من ثمار جمة منها منحها مكانة عالمية ورواجا سياحيا وثقافيا ووعيا جماهيريا وتعهدا بتقديم الدعم الفني والمالي اللازم لصونها. ويصادف ذلك أيضا الاحتفال باليوم العالمي للتراث الثقافي في الثامن عشر من إبريل الحالي وهو مناسبة ليست فقط للاحتفال وإنما للتضامن العالمي من أجل إنقاذ الإرث الثقافي العالمي حيثما كان وإقامة الفعاليات من أجل الترويج له وصونه كتنظيم الرحلات برية ونهرية وبحرية لزيارتها وكتابة المقالات واللافتات في شوارع المدن عنها وغيرها من الفعاليات. صيحة إيقاظ لعل ما حدث يكون بمثابة صيحة إيقاظ للمحافظة علي التراث الثقافي المصري بأشكاله المختلفة ومراجعة الإجراءات اللازمة لحمايته من الأخطار بشكل دوري ودقيق وسرعة الشروع في إدراج العديد والعديد من كنوزه وتقديمها للعالم قبل أن تمتد إليها يد الإهمال ويطويها النسيان. ولعل ما حظيت به الكاتدرائية من صيت ومكانة عالميتين قد ساهم في هذا الهوس بها والحزن والتصميم علي استعادتها، فكم من كنوز عالمية لا يلتفت لها العالم ولا يعبأ بها لأنها لم تجد من يقدمها للعالم، فلننهض بهذه المهمة قبل فوات الأوان. رئيس قسم اللغة الانجليزية بآداب كفر الشيخ