في هذا التحقيق يتذكر أربعة من الفنانين التشكيليين والمثقفين، شعورهم عندما شاهدوا كنيسة نوتردام بباريس، وما اختزنته ذاكرتهم ونفوسهم من تأثير هذا المكان عليهم، بدلالاته الروحية والفنية والمعمارية والثقافية، وصدمتهم وهم يرونه يحترق أمام أعينهم. رغم هول الصدمة، إلا أنهم لم يستطيعوا الصمت علي هذا الحريق، فبنوا بكلماتهم »كاتدرائية» لحين ترميمها، لعلها تعود مرة ثانية. د. أنور مغيث : دلالة علي المجد القديم مما لاشك فيه أننا أمام كنيسة مهمة جدًا، سواء من حيث دلالتها، أو مكان تواجدها وسط العاصمة الفرنسية »باريس»، وتعَّد أكبر أثر جاذب للزيارات في فرنسا، وربما في أوروبا كلها، إذ يتردد عليها ما يقرب من 17 مليون زائر في السنة. هذه الكنيسة هي نموذج للفن القوطي في بناء الكنائس.. قبلها كان البناء يتم علي الطريقة الرومانية، أما النحت في الخارج؛ في المواجهة هو ما يتميز به الفن القوطي، الذي يظهر في كنائس أخري مثل ستراسبور، وكولونيا في ألمانيا، ويعدان بالإضافة لكاتدرائية نوتردام من النماذج الشهيرة في الفن القوطي. ولبناء هذه الكنيسة قصة جديرة بالتأمل، فقد بُنيت علي فترات طويلة، استغرقت أكثر من مائة عام، وهذا في حد ذاته يحمل فكرة غريبة، فنحن أمام بنائين يعلمون أنهم لن يروا منجزهم، فأمامهم مهمة لعمل لن يروه كاملا، وهو ما أشار إليه هديجر، حينما أشار إلي أنهم أناس يعملون علي مشروع يتجاوز حياتهم، ويصل لأبنائهم وأحفادهم، أي أنه مشروع لثلاثة أجيال متعاقبة، الآن هذه الفكرة غير موجودة، فالمشروعات تُنجَز في سنوات قليلة حتي يراها من يشرف عليها، أما هذه الكاتدرائية فهي نموذج للفن القوطي الذي يحتاج إلي جهد كبير. كما أتذكر في هذه اللحظات الدلالات الكبيرة التي تحملها هذه الكاتدرائية، منها أنها دليل علي فكرة الإيمان، فقد تم الشروع في بنائها في زمن به المجاعات والأوبئة وناس فقراء، ولكنهم كانوا مستعدين أن يخصصوا جزءًا كبيرًا من أموالهم وأوقاتهم لهذا العمل الصرحي الكبير، الذي أصبح بمرور الوقت يحمل أبعادًا أدبية وثقافية، فكثير من الأدباء والقصاصين، تحدثوا عنها في أعمالهم، وأشهر ذلك »أحدب نوتردام» لفيكتور هوجو، وهذه الرواية خلقت خيالاً كبيرًا لدي الناس عن هذه الكنيسة، التي احتَّلت مكانًا لائقًا في القلوب لارتباطها بهذا العمل. وتعَّد كنيسة نوتردام من أهم الأماكن الأثرية في باريس، وهي ذات دلالة علي المجد القديم، في حين يأتي برج إيفل، باعتباره أول عجيبة من عجائب الدنيا التي ترتبط بحضارة الحديد والصلب، وهو تمجيد للعصر الصناعي، فقد أنشأه إيفل علي أساس أن يكون »مؤقتًا» ويتم تفكيكه بعد معرض باريس، ولكنه ظل حتي الآن. مما يعكس التزواج بينهما: »كنيسة نوتردام» التي تمثل العصور الوسطي، و»برج إيفل» نموذج لعصر الصناعة. مما لاشك فيه أننا أمام مأساة كبري، تذكرنا بحريق مكتبة الإسكندرية القديمة، هذه المأساة التي عاشت طويلًا، نفس الأمر ستشعر به أجيال قادمة بجسامة وفداحة هذا الحريق، الذي نتمني أن يتم ترميمه علي أعلي مستوي، فنحن أمام مأساة لا تخص الفرنسيين وحدهم، بل الإنسانية جمعاء. عصمت دواستاشي : معارضي أقيمت بالقرب منها قبل أن أراها بعيني، عشت معها من خلال العمل الذي خلدها رواية »أحدب نوتردام» لفيكتور هوجو، فقد قرأته وأنا في مرحلة الشباب، وبعد ذلك ارتبطت بالفيلم وأحداثه، هذا الفيلم الذي يصور الأحدب العائش في سراديب وأسطح الكاتدرائية، وقد شاهدته في الستينيات، قبل أن أزور باريس لإقامة معارضي هناك، والغريب أن أول شيء أفعله عندما أذهب إلي هناك أن أزور الكاتدرائية، لاسيما أنها تقع بالقرب من المركز الثقافي المصري هناك، وفي كل مرة أتفرج عليها، أشعر أنني - من جمالها - أراها للمرة الأولي، وأتمعن في تفاصيلها. الحالة الوحيدة التي لم أستطع فيها رؤية الكاتدرائية، هي عندما شاهدتها في الأسبوع الماضي من خلال قنوات التليفزيون وهي تحترق، كان أمرًا صعبًا لي أن أري هذا التراث الذي ارتبطت به ينهار، ونحن عجزة، فقط نتفرج علي ضياع تراث فني ومعماري وإنساني وديني؛ كل ذلك يضيع في لحظات، وينهار رمز إنساني فريد ومتفرد. كل ما أتمناه الآن أن يتم ترميمه بشكل متقن يتناسب مع التاريخ الطويل لهذا المبني بكل دلالاته، وأن يعود إلي الحالة الأولي، أو قريبًا منها علي الأقل. تعازينا للشعب الفرنسي وللإنسانية، ولكن ما حدث يجعلنا نعيد التفكير في كيفية حماية الأماكن ذات الأبعاد الحضارية الكبيرة، لذا أناشد اليونسكو التي أدرجت كاتدرائية نوتردام ضمن تراثها الإنساني، أن تفكر في الأدوات التي يجب أن تتبعها الدول للحفاظ علي مثل هذه المناطق من الحرائق، وكيفية مواجهتها ، فهذه الكنوز تتطلب منا أن نبحث عن كل الوسائل التي تحميها، لتبقيها للإنسانية شاهدة علي تاريخها، وتنوعها المعرفي والثقافي والديني. د. مصطفي الرزاز : آية معمارية تعد كاتدرائية نوتردام نموذج فريد في التراث الإنساني، وله مكانته الرفيعة في حياة الناس عامة والمثقفين ومحبي الفنون علي وجه الخصوص، فهي واحدة من المراكز الروحية الهامة في العالم، باعتبارها صرحًا دينيًا مهمًا، إلا أنها في ذات الوقت آية معمارية اجتمعت فيها خبرات رفيعة من الفنانين والرسامين والمعماريين، الذين صنعوا معجزة بكل المقاييس، تتجلي في الكثير من مفرداتها، وعلي سبيل المثال السقف الكبير العالي المحمَّل علي عدد لا بأس به من الأعمدة، وهو يعتبر عمل معماري وفني إعجازي، فالدولة الفرنسية بنتها علي أكثر من مائتي عام من القرن الثاني عشر إلي القرن الرابع عشر، الذي يعَّد بداية عصر النهضة، وحدوث ازدهار كبير للفن والثقافة، إذ تحوي هذه الكاتدرائية منحوتات رائعة وصريحة بالاتجاه الفني الجديد، رغم أن الكاتدرائية تنتمي للاتجاه القوطي المتأثر بالحضارة الإسلامية في الأندلس، فهي تختزل ملامح أكثر من عصر، والزخارف التي تتصدر الواجهة عبارة عن عقود فوق عقود تنتمي إلي الطراز القوطي، المهيمن في ذلك الوقت علي الحضارة الأوروبية السابقة علي حضارة النهضة. وعلي جانب آخر أتذكر في هذه اللحظات الحزينة زياراتي المتكررة لها، وكنت أشعر بارتياح نفسي كبير، باعتبارها مكانًا روحانيًا، بغض النظر عن الفخامة التي تراها منتشرة حولك، هذا الشعور الذي تحس به في المناطق الروحانية ذات العبق التاريخي الأصيل، لذا هي كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، وهذه الكارثة تجعلنا نستعيد صروحًا كبيرة انهارت في الحروب، مثلما حدث في اليابان، التي استطاعت أن تعيد ما سقط مرة أخري، وأتمني أن تستفيد فرنسا من هذه التجربة، وكل تجارب الترميمم في العالم حتي نستعيد هذا الأثر الخالد في تاريخ البشرية. جرجس شكري : الزمن يعاقب نوتردام بعد ثمانية قرون حين سمعت الخبر هربت من الصورة أو قل من صورة الحقيقة علي الشاشة، فلم أشاهد نوتردام وقد اشتعلت فيها النيران إلا في اليوم التالي، وكأنني سأمنع هذه الكارثة حين أمتنع عن مشاهدتها، فقط أردت أن أهرب من رؤية احتراق هذا الأثر الذي انتظرت طويلًا في طابور لم أعرف أخره في سبيل أن أدخل نوتردام باريس أو كاتدرائية سيدتنا مريم، ولم أفلح في المرة الأولي لأنني كنت مرتبطًا بموعد وطال الانتظار، وفي المرة الثانية كنت ضيفًا علي معهد العالم العربي مع مازن معروف وطه عدنان الذي حكيت له ما حدث في المرة الأولي وكنا في الصباح وعلي بُعد خطوات من الكاتدرائية فاصطحبني علي الفور وخلال دقائق كنا في الداخل، لا أعرف ماذا فعل طه سوي أنه ابتسم وقال لي بالفرنسية مرحبًا بك في نوتردام باريس يا جرجس، وفي الداخل لا أذكر ماذا حدث لي سوي أن عيني قد تعبتا من التأمل، من النظر بدهشة، إذ رُحت أرنو لكل شيء أي أنظر في صمت كما في اللغة العربية، كأنني عاجز عن الكلام حيث، سخرت كل طاقتي للنظر وكأنني ألتهم عمارة القرون الوسطي بكل تجلياتها في ساعة أو هكذا كنت أقول لنفسي. في المرة الأولي حين فشلت في الدخول طفت حول الكاتدرائية، تأملت العمارة القوطية الشامخة، وكنت قبلها في لوديف قد شاهدت نفس الطراز في كاتدرائية صغيرة ... وكانت هذه المرة للنظر في محتويات نوتردام من الداخل. نوتردام التي بُنيت علي أنقاض أول كنيسة مسيحية في باريس، نوتردام التي خلدها فيكتور هوجو مع شخصية الأحدب، الكاتدرائية التي تحتفظ بإكليل الشوك ومئات التحف واللوحات الفنية، كل هذا التهمته النيران في لحظات، فجأة اشتعلت النيران في التاريخ لتلتهم قطعة من الحضارة! وكأنها لم تكن، في الصباح شاهدت ألسنة النيران وهي تلتهم البرج الخشبي، تلتهم ثمانية قرون من وجدان الحضارة الإنسانية، فقط وجدتني أعود إلي الصور التي احتفظت بها للكاتدرائية وتذكرت ما كنت أفكر فيه وأنا أشاهدها أو أي أثر آخر، كيف أنها تقف شامخة تتحدي العدم وتقاوم الزمن وكيف انهارت الآن في لحظات! وأنا أشاهد نوتردام تحترق كنت أعتقد - أو هكذا أردت - أن هذه الآثار يمكنها أيضًا مقاومة النار، وكل الكوارث الطبيعية، فهي أقوي من الزمن لأنها استطاعت أن تواجهه بقوة علي مدي ثمانية قرون، كنت أشاهد الزمن وهو يعاقب تحفة معمارية قاومته كثيرًا وظنت أنها انتصرت عليه، ومساء الاثنين الماضي 15 أبريل 2019 ، لم يحترق فقط البرج الخشبي أو جزء من البناية، لم تحترق اللوحات والآثار الهندسية؛ بل التهمت النيران عصرًا بكامل مفرداته.