أربع نغمات، في موسيقانا الحديثة هي أعذب نغماتها وأقواها، بل هي أساسها وجدارها ونقطة ارتكازها، وهذه النغمات ليست من مقامات الموسيقي المعروفة، فلا هي من السيكا ولا من البياتي، ولا من الحجاز كار، إنها نغمات أخرى، من مقامات أخرى، مقامات عبقرية خالدة. كانت موسيقانا قبل هذه النغمات بدائية هزيلة ليس فيها عمق، ولا سمو، ولا معني، كانت أناشيد الأذكار أعمق ما فيها، وكان جمهور مستمعيها من الصهبجية والحشاشين، وكان الكلام الذي تتألف منه الأغاني محشوا بألفاظ تركية أو ألفاظ عامية ليس فيها ذوق أو جمال، مثل: "شفتوش"علي" يا ناس..لابس قميص ولباس.. وبيلعب البرجاس.. على القنطرة !" جاءت النغمة الأولي فنقلت أغانينا من غرز الحشاشين إلي صالونات العظماء والكبراء، وسيطرت بجمالها علي الأدباء والشعراء فنظموا المقطوعات بلغة سهلة جميلة فيها معني، وفيها خيال،هذه النغمة هي " عبده حامولي " أي "سي عبده" كما كان يسميه أبناء جيله، وقد استطاع " سي عبده" أن يجعل للمطرب اعتبارا، وأن يرغم الأعيان علي أن يستمعوا للفن المصري، وكانوا لا يسمعون إلا الموسيقي التركية، وبفضل صوت عبده الحمولي العذب القوي وبفضل ذوقه الفني الممتاز، عرف كيف يربط بين الموسيقي الصامتة وبين الكلام الذي يغني، وهو أول من قسم "الدور" بين المذهبجية والمغني، وكان عبده إنسانا حساسا، فكان يظهر عواطفه في أغانيه، وكان يصل بإحساساته إلي قلوب مستمعيه،فكانوا يشاركونه نشوته، وفرحته،وإذا بكي بكوا معه ! أما النغمة الثانية فهي "محمد عثمان" سلبه الله صوته القوي، وقد جعلته هذه المحنة يفكر في الموسيقي الصامتة ويتخذ منها عوضا عما فقده من صوته، وقد حلق في آفاق واسعة، وأمكنه بحسه المرهف وعبقريته الفذة، أن يدرك أن الموسيقي ليست أنغاما بلا روابط ولا حدود، فكان يضع أغانيه في إطار موسيقي بديع، لا يتعداه ولا يتخطاه، لقد فهم أن الموسيقي ليست نغمات مرتجلة بلا هدف. وبلغ من فنه أنه كان يلحن كل شيء، حتى الموال، وكان يعتمد علي التخت وكان يعطي لأفراد التخت مرتبات شهرية سواء اشتغلوا أو لم يشتغلوا، لقد فرض محمد عثمان علي سامعيه أن يطربوا بعقولهم وقلوبهم، لا بآذانهم فقط، وكان مستمعوه يرقصون لموسيقاه. والنغمة الثالثة هي "الشيخ سلامة حجازي"، إنه أول من ارتفع صوته بالغناء المسرحي، وكان صوته قويا حلوا، فساعده علي التغيير، ولم تكن رسالة سلامة سهلة، فإن الجمهور تعود أن يسمع أغاني لا ترمي إلي شيء، فجاء سلامة حجازي وجعل الأغاني ترمي إلى أشياء. أما النغمة الرابعة فهي "الشيخ سيد درويش" هذا الفنان العبقري العظيم، هذا الرجل هو الذي جعل موسيقانا موسيقي معبرة، وقد بلغ من عبقرية الشيخ سيد درويش أنه جعل ألحانه تتكلم وتنطق وحدها، وفي استطاعة أي إنسان أن يميز ألحان الشيخ سيد مجردة من كلامها. هذه هي النغمات الأربع، أو العبقريات الأربع التي جعلت للموسيقي المصرية الحديثة معني بعد أن كانت بلا معني، ويخطئ من يظن أن هؤلاء العباقرة لم يكن لهم مجهود فيما أنتجوه،وأن الفضل لمواهبهم الطبيعية، كلا، فإن العبقرية هي العمل، وقد عملوا، وشقوا، وبذلك استطاعوا أن يخلقوا، ولولا هذه العبقريات اجتهدت وناضلت، لكنا إلي اليوم ما زلنا نقول ونسمع: "شفتوش" على "يا ناس.. لابس قميص ولباس.. وبيلعب البرجاس.. على القنطرة!". بقلم: محمد عبد الوهاب آخر ساعة – 1 يناير 1948