قفزة جديدة بأسعار الذهب في مصر بمقدار 70 جنيهًا للجرام    مدير صومعة ميت غمر: استقبلنا 30 ألف طن قمح    وزير العمل يتابع إجراءت تنفيذ مشروع "مهني 2030" مع "اللجنة المختصة"    تفاصيل مشروعات تطوير الطرق في 3 مدن جديدة    ضربات الشمس تقتل 61 شخصا بتايلاند، والسلطات تحذر هذه الفئة    إسرائيليون يشعلون النار في محيط مجمع الأمم المتحدة بالقدس    موعد نهائي دوري المؤتمر بين أولمبياكوس وفيورنتينا    محلل أداء يكشف نقاط القوة في الترجي قبل مواجهة الأهلي    كولر يحاضر لاعبي الأهلي بالفيديو استعدادًا لمواجهة البلدية    حالة الطقس غدا السبت 11-5-2024 في مصر    اليوم.. آخر فرصة للتسجيل الإلكتروني لاستمارات امتحانات الدبلومات الفنية 2024    ضبط عنصر إجرامي بالبحيرة لقيامه بالإتجار في الأسلحة النارية وبحوزته 5 بنادق خرطوش    4 جوائز لجامعة المنيا بمهرجان إبداع ال12 على مستوى الجمهورية (صور)    معلومات عن البلوجر محمد فرج بعد زواجه من الإعلامية لينا الطهطاوي (فيديو)    الإسكان تناقش آليات التطوير المؤسسي وتنمية المواهب    حماس: الكرة الآن في ملعب الاحتلال للتوصل لهدنة بغزة    القسام تعلن مقتل وإصابة جنود إسرائيليين في هجوم شرق رفح الفلسطينية    «الأوقاف»: افتتاح 21 مسجدًا اليوم منها 18 جديدًا و3 صيانة وتطويرًا    «التنمر وأثره المدمر للفرد والمجتمع».. موضوع خطبة الجمعة اليوم بالمساجد    وزير الري يلتقي المدير الإقليمي ل«اليونسكو» لتعزيز التعاون مع المنظمة    أسعار كرتونة البيض في الأسواق اليوم الجمعة (موقع رسمي)    سعر متر التصالح في مخالفات البناء بالمدن والقرى (صور)    10 علامات ابحث عنها.. نصائح قبل شراء خروف العيد    «مياه شرب الإسكندرية» تتعاون مع «الحماية المدنية» للسيطرة على حريق الشركة المصرية للأدوية    مصرع ضابط شرطة إثر اصطدام «ملاكي» ب«جمل» على الطريق ببني سويف    قانل جارته فى النهضة باكيا: ادخل السجن ولا اشهدش زور ..هروح فين من ربنا    محافظة الجيزة: قطع المياه 8 ساعات عن بعض مناطق الحوامدية مساء اليوم    د. الخشت يترأس لجنة اختيار المرشحين لعمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة    أدباء: حمدي طلبة أيقونة فنية وأحد رواد الفن المسرحي    عقب صلاة الجمعة.. يسرا اللوزي تشيع جثمان والدتها لمثواها الأخير بمسجد عمر مكرم    463 ألف جنيه إيرادات فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة في يوم واحد بدور العرض    فريدة سيف النصر ضيفة عمرو الليثي في «واحد من الناس».. الإثنين    فضل يوم الجمعة وأفضل الأعمال المستحبة فيه.. «الإفتاء» توضح    الاستغفار والصدقة.. أفضل الأعمال المستحبة في الأشهر الحرم    «صحة مطروح» تتابع تنفيذ خطة القضاء على الحصبة والحصبة الألماني    تاو يتوج بجائزة أفضل لاعب من اتحاد دول جنوب إفريقيا    تركي آل الشيخ يعلن عرض فيلم "زهايمر" ل عادل إمام بالسعودية 16 مايو    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    نشوب حريق بمصفاة نفط روسية بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    حماس: لن نترك الأسرى الفلسطينيين ضحية للاحتلال الإسرائيلي    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    رئيس الحكومة اللبنانية يبحث مع هنية جهود وقف إطلاق النار في غزة    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    دعاء يوم الجمعة لسعة الرزق وفك الكرب.. «اللهم احفظ أبناءنا واعصمهم من الفتن»    أول مشاركة للفلاحين بندوة اتحاد القبائل الإثنين المقبل    تعرفي على الأعراض الشائعة لسرطان المبيض    الصحة: أضرار كارثية على الأسنان نتيجة التدخين    3 فيروسات خطيرة تهدد العالم.. «الصحة العالمية» تحذر    طبق الأسبوع| مطبخ الشيف رانيا الفار تقدم طريقة عمل «البريوش»    هل قول زمزم بعد الوضوء بدعة.. الإفتاء تجيب    عبد الرحمن مجدي: أطمح في الاحتراف.. وأطالب جماهير الإسماعيلي بهذا الأمر    مايا مرسي تشارك في اجتماع لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب لمناقشة الموازنة    ما حكم كفارة اليمين الكذب.. الإفتاء تجيب    إصابة 5 أشخاص نتيجة تعرضهم لحالة اشتباه تسمم غذائي بأسوان    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    تحرير 12 محضر تموين وصحة للمخالفين وضبط 310 علبة سجاير مجهولة المصدر خلال حملة مفاجئة بالسادات    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    رد فعل صادم من محامي الشحات بسبب بيان بيراميدز في قضية الشيبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صداقة في فيينا الجاهلة: الحياة والفن من منظار المرض والجنون
نشر في أخبار السيارات يوم 01 - 03 - 2019

قليلة هي تلك النوعية من الكتب التي يأسرك »الصدق»‬ الذي اتخذته منهجًا لها سابقًا علي أي منهج آخر، »‬الصدق الفني» المدرسة الغائبة لصالح شروط وأشكال أخري تدعي أنها أكثر احترافية في التعامل مع الفن ورؤيته للواقع والحقائق علي مختلف التوجهات.. سياسة، فن، أعراف مجتمعية.
توماس برنهارد في عمله، الذي قام بترجمته سمير جريس، والصادر مؤخرًا عن داري سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع، اختار الالتزام من البداية بذلك الصدق الذي طبع الكتاب كله بسيماه بداية من العنوان الخالي من أي زخرفة فنية »‬صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين»، عنوان كفيل بألا تتوقف أمامه عينا القارئ العادي، إلا إن كان يدرك من هو توماس برنهارد، أو يعرف حجم الإنجاز وراء اسم فيتغنشتاين، لو أن برنهارد يفكر مثلما الحال الآن في المردود التجاري من الكتابة لانتقي عنوانًا لافتًا وكان بين يديه من التيمات التي يشملها عمله ما مده ببغيته: الموسيقي، الجنون، الموت، النمسا الجاهلة التي لا تطاق، مدعو الأدب، جوائز السلطة وسلطة الجوائز، وصداقة بين مريضين، أحدهما مجنون والآخر مصدور، كلاهما لا يحتمل ما يحيط به، لا يطيق الزيف، وينتظر الموت بفخامة أوبرالية.
الموت والمرض في »‬صداقة» يشكلان الوعي والإطار الذي يري من خلاله المؤلف، هما أيضًا المنظار الذي يجبر قارئه علي النظر من خلاله، ليدرك أن الصورة الشائعة عن الحياة ليست إلا ظلًا لأخري أكثر عنفوانًا وجمالًا لكننا لا نراها وسط كم الأكاذيب التي يدفع إليها الطمع والرداءة وسجون المظاهر الاجتماعية، لكن هذا لا يمكن رؤيته إلا بشرط أساسي لا فصال فيه يكمن في التخلي، الترفع عن العالم وقوانينه الحاكمة: الشهرة، المال، الجوائز..
أفضل ما في توماس برنهارد أنه أحد هؤلاء الكتاب القلائل الذين يشجعونك علي أن تأخذ منهم موقفًا منذ الصفحات الأولي، ولا حل وسط، إما أن يصبح علي قائمة كتابك المفضلين أو أنك لن تلتفت لأعماله مجددًا، بالطبع الحالة الثانية، حالة التنافر، ستحدث مع قارئ يبحث عن كتب تمده بالأمل، تخبره أن الغد سيأتي والشمس ستشرق! هذا قاريء لا يريده برنهارد ويسعي للابتعاد عنه وعن كل ما يمثله.
»‬كل شيء يبدو سخيفًا إذا فكر الشخص بالموت!». هكذا يقول، وحالة الموت تلك تسيطر علي الكتاب، تحاصر المؤلف وصديقه، هو مصاب بالسل الذي ظل معه إلي أن مات به، وصديقه باول مصاب بالجنون الذي أودي به، يعيشان مع علتيهما عالمين إلي أين يذهبان، كل خطوة في حياتهما تقربهما إلي مصيرهما النهائي.
المرض عند برنهارد ليس مجرد حالة عابرة، حتي وإن طمع في معجزة للشفاء، ورفض الاستسلام، لكن المرض يتأصل ويعبر جسده وصولًا إلي الروح ليصنع ثنائية جديدة تضاف إلي ما يملأ العالم، عالم الأصحاء وعالم المرضي وكيف يري كل منهما الآخر، يقلب المعروف والمتداول »‬في أغلب الأحيان لا يكون للأصحاء رغبة في تقديم يد العون إلي المريض، إنهم في الحقيقة، ينافقون علي طول الخط متظاهرين برحمة لا يشعرون بها»، المرض هنا يصبح عقيدة تفرض نفسها ومع رغبة الخلاص تبقي عين الفنان والناقد والمتهكم واعية لوجودها المسيطر مانحة لها الفرصة الكاملة للتعبير عن نقائص عالم الأصحاء ونفاقهم الوحشي، رؤية لا تخص الصحة والمرض فقط بل يمكن سحبها ببساطة علي كل شيء، برنهارد وباول يمثلان عالم الفن المثالي الباحث عن الكمال الرافض للثروة والقصور الباردة التي تجد تمثيلًا لها هنا عند عائلة فيتغنشتاين بالغة القوة والعظمة والتي احتقرت، إلي النهاية، فلسفة لودفيج فيتغنشتاين ولم تفهم سبب اهتمام الغرب به، وبالتأكيد تصدت بعسف وقسوة لتبجحات ابن شقيقه باول ضدها.
لكن وسط العدمية الرهيبة، إلي جانب السل والجنون، مع رائحة الموت الطاغية، يمنحنا برنهارد وصفة لإعادة رؤية الحياة والفن بصورة مغايرة عما اعتدنا، المؤكد أنه لم يقصد هذا، ورأي كهذا كان ليكون كارثيًا بالنسبة له ولصديقه، كيف لا وهو الذي تحول الاحتفال بمنحه جائزة الدولة إلي مأساة بسبب كلمته الصريحة، أغضبت وزير الثقافة فانصرف من القاعة بعد أن حطم بابها الزجاجي غاضبًا وبعد أن »‬خرج عن طوره، ثم قفز مستاءً من مقعده، موجهًا إليّ بقبضته لكمة، ناعتًا إياي أمام كل الحاضرين بالكلب وهو يرغي ويزبد».
باول صديقه قال له تعليقًا علي قبوله جائزة الدولة أنه أمر قمة الشذوذ، وقال له بينما يتركان احتفال منحه جائزة أكاديمية الفنون »‬أنت تركتهم يهينونك! لقد بالوا علي رأسك!». ولم يكن ما قاله في الحالتين مستهجنًا من برنهارد الذي يوجه نقدًا مرًا إلي الجوائز وسلطتها »‬الجوائز لا تُعلي من قدر المُكرم -كما كنت أعتقد قبل أن أُمنح أول جائزة في حياتي- بل هي تحط من قدره، وبطريقة مخجلة للغاية»، ونقدًا يطال كل شيء في عالم الأدب، أعلامه، ومؤسساته، ومقاهيه »‬الهواء في مقاهي الأدباء فاسد دائمًا، مزعج للأعصاب، وقاتل للذهن، لم أكتسب هناك أبدًا خبرة جديدة، كل ما شعرت به في تلك المقاهي هو الإزعاج والتشتت والاكتئاب العبثي الكامل».
الرفض الذي أسس عليه برنهارد حياته ورؤيته للفن التقي برفض مماثل من صديقه باول، الذي يدور حوله الكتاب، الذي أصابه الجنون منذ طفولته، مرض عقلي يعتبره برنهارد »‬مزعومًا» موجهًا نقدًا آخر تجاه الأطباء النفسيين »‬شياطين هذا العصر الحقيقيون»، ومع التعمق في القراءة والتعرف أكثر علي شخصية باول، الفيلسوف الذي رفض نشر فلسفته، والناقد الموسيقي النابه، لا تتفق فقط مع برنهارد علي أن »‬كل التسميات التي أطلقوها علي مرض باول العقلي المزعوم كان يتضح سريعًا أنها خاطئة وسخيفة» بل أن باول في الأصل ربما لا يعاني من علة ما إلا كراهيته لنمط حياة العائلة النمساوية بالغة الثراء التي ينتسب لها ما دفعه ليتحول من مليونير إلي فقير يجد قوت يومه بالكاد ويعمل في وظيفة متواضعة بعد أن وزع »‬ما يسميه الملايين القذرة علي الشعب الطاهر». ورغم الخلاف الذي لا يخفيه برنهارد مع صديقه علي مسألة الفقراء فإنه لا يبدي له وجهة نظره فيما يفعله منجذبًا إلي صفاته النادرة »‬لم يسبق لي أبداً أن تعرفت إلي إنسان حاد الملاحظة متوقد الذهن، ثري الفكر، وواسع الخيال ومرهف الإحساس مثله».
يحتفي »‬صداقة» بهذه القيمة، الصداقة التي »‬لم نجدها هكذا مبذولة علي قارعة الطريق، بل تعبنا طوال تلك السنوات إلي درجة الإنهاك كي ننميها معًا، ونحافظ عليها علي نحو نافع ومريح لنا، حذرين أشد الحذر لئلا تصاب بمكروه وهي الرقيقة الهشة»، صداقة تخرج من ردهات المصحات إلي عالم الموسيقي والأوبرا حيث المناقشات بالساعات، علي مقاعد المتفرجين حيث باول يمكنه أن يصنع النجاح لعرض بصيحات الإعجاب أو يساهم في فشله بصفير الاستهجان، صداقة أنقذت برنهارد من مزاج سوداوي مرضي، ومن هواجس الانتحار، ومن عالم المتأدبين.
يجبرك المؤلف علي التفكير، هذا بالطبع إن لم يسحبك في دوامة العدمية والتمرد، والحقيقة أن اليأس الذي يطبع كتابه »‬صداقة» يغلف رغبة جادة في إعادة الأمور لما ينبغي أن تكون عليه، هو لا يقول ذلك، لكنك بينما تقرأ ستجد نفسك مدفوعًا لأسئلة لم يطرحها، ربما لهذا رأي مترجم العمل سمير جريس في مقدمته وحول النقد العنيف الذي يوجهه برنهارد لوطنه النمسا معبرًا عن »‬حب جارف له»، وسواء صح ذلك أم لا يبقي »‬صداقة» رغم كآبة المرض والموت، وفيينا »‬السخيفة الجاهلة»، عملًا يحتفي بالإنسانية والفن ويعلي من قدرهما ما جعل الناقد الألماني مارسيل رايش رانيتسكي، وسمير جريس، يتفقان علي أنه »‬الأكثر عذوبة ودفئًا إنسانيًا من بين كل ما كتب برنهارد».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.