كنت أريد أن أعرف ما الذي ينبت في حديقة سعاد عبد الرسول الافتراضية، بينما أفكر في حديقتي الشخصية وعلاقتي بأمي الشجرة حيث المعرفة والمحبة.. فإذا بها تفاجئني أنها لم تكن في البداية حديقة وإنما متحف للألم .. وإذا بمتحف الألم يتحول إلي حديقة افتراضية، تنبت فروعا وأغصانا تلتف حول عنق إحداهن أو يديها لتكبلها، تلك الأحلام الخضراء ربما هي ذاتها مكمن الألم أو ما نظنه في حياتنا هو العود الأخضر إذا به يتحول لشجر لبلاب يتسلق أجسادنا فيكبلنا ، تكتب الفنانة سعاد عبد الرسول حكايات عديدة في أعمالها المحملة بالتفسيرات والتأويلات، وحين سألتها ماذا هناك بحدائقك الافتراضية وهو العنوان الذي خرج به معرضها الفردي الذي استضافته قاعة المشربية مؤخرا ، أخبرتني حيث إنها افتراضية فربما هي غير موجودة علي الإطلاق. الحكاية بدأت من متحف أورسيه بفرنسا بينما تتجول عبد الرسول بين اللوحات هناك، وما تحمله من شخوص هي في الغالب بورتريهات لشخصيات حقيقية .. تفكر الفنانة في تلك الحالة من الزهو إذ وجدت في ذلك الجمال والتأنق المبالغ فكرة عكسية مفادها أن حالات الزهو زائفة فالأصل فينا هو الضعف، الناس ترتدي أفضل ما لديها وهي داخل البرواز أو الإطار لكن ما إن نبتعد عن الإطار حتي نفكر في خيباتنا وأوجاعنا ..ولذا أرادت سعاد أن تجسد أولئك الشخوص الذين يسكنون الأطر لكن دون هذا الإدعاء الزائف بالزهو. وربما لذلك خرجت البراويز التي وظفتها سعاد في معرضها لافتة ومتفردة تحبس بها شخوصها أو تخلق عالما موازيا لحياة بديلة، حيث وظفت أطر المرايا التي تذكرنا بأعماق أنفسنا، وكذلك أطر الأسرة المصنوعة من الخشب أو المعدن، وغيرها من الأطر التي شاهدناها تؤدي وظائف أخري في بيت الجدة وأفلام الأبيض والأسود.. إذ أصبح الإطار هنا جزءا من لغة الشكل وأداة من أدوات التشكيل كما يقول الفنان سمير فؤاد، وأصبح الإطار مثل السور الذي يصعب تخطيه أو الحاجز الذي يستحيل اختراقه. »أنا لا أحب اللوحة الفاتنة» .. تخبرني سعاد بذلك ونحن نتجول بين الأعمال وتضيف: كنت أخشي أن يتحول الإطار لديكور .. ولذا بحثت عن براويز حقيقية حتي لو كانت قديمة .. بدأت أجمعها من كل مكان كسوق الجمعة، مرورا بمحلات الأنتيكات وبالجاليرهات، وكذلك من خارج مصر من كينيا ومن فرنسا، وبالطبع بعضها تم تجهيزه خصيصا، فلكل لوحة برواز يخصها دون غيرها. وتضيف عبد الرسول: الإطارات تذكرنا بالعروض المتحفية .. أما علي الجانب الرمزي فهي تدل علي تلك القيود التي تحيط بنا من كل جانب ومنها القيود المجتمعية والأسرية التي تترسخ بالداخل لتنبت وتكبلنا وتضعنا داخل أطر تبدو مزخرفة من الخارج، إنها تلك الأشياء التي اعتدنا عليها ولكنها خانقة. تقترب من عالم سعاد فتقترب من نفسك، تتساءل متي تحمل قلبك لتنظر إليه مرتين، تتساءل مرة أخري متي يعيش قلبك بالخارج وتنبت به الأزهار ثم تتساءل ماذا سيقول لك قلبك حينئذ، لا سيما وأن كثيرا من أبطال أعمالها يحملون قلوبهم بين أيديهم، تقول الفنانة: أحد هذه القلوب هو قلب ليلي ابنتي، ربما أرسم القلوب بالخارج من محبة قديمة لمادة الأحياء فمن المدهش جدا أن نرسم ما بداخلنا بالخارج ونتأمله، في أحد مشاريعها السابقة عن المرأة والذي يعود لعام 2012 ، قامت برسم بطلاتها داخل رئة أو رحم، ربما كان الأمر له علاقة بالخوف الذي يحاوطنا، الخوف الذي يبدو طيبا أحيانا والذي يختبئ في جملة الأم مثلا » خلي بالك من نفسك». من جانب آخر تجيد سعاد اختيار الأسماء التي تضيف حميمية إلي الأشياء كلوحة قلب ليلي أو »يد جزيرة»: ، أو التي تستفزك بمزيد من الأسئلة حول ماهية أبطالها وما يفعلون ومنها »الرجل المزيف» و»رجل الفراء» و»العاشق الوحيد»، و»زهرة البرتقال» و»البتول» و»زهرة الياسمين» و»الرجل الذي يدخن وردة» .. وليس هذا فحسب بل أيضا لشخوص سعاد تركيبة متفردة بلون بشرتهم الخضراء والحمراء والزرقاء، وكأنها مخلوقات نبتت خصيصا في حديقة سعاد، إذ يبدو أولئك الأشخاص سرياليين بامتياز من النظرة الأولي لكنها تخبرني أنها علي العكس تراهم واقعيين من منظورها، إذ أنها ترسم واقعها الداخلي ، فكل تلك الشخوص والمشاهد ما هي إلا نتاج الباطن حين يظهر في الخارج. وعلي الرغم من ظهور الرجل في عدد من اللوحات إلا أن اهتمام سعاد الأول ينصب علي المرأة فلطالما اهتمت بالمرأة وقضاياها وبالتعبير عن أحلامها ومشاكلها الأمر الذي بدأ معها من مشروع التخرج، ولا تناقش سعاد في ذلك القهر المجتمعي أو الذكوري فحسب بل أيضا تتطرق إلي الاضطهاد الذي تمارسه المرأة علي المرأة لتجلدها بنفس الميراث من الألم والاضطهاد. إن عوالم سعاد عبد الرسول عوالم مدهشة وثرية .. وقد قدمت في معرضها الأخير شحنة فنية مكثفة محملة بالدلالات إذا أنها – كما يقول الفنان سمير فؤاد في كلمته عن المعرض- لا تدغدغ مشاعرنا بل تصدمها .. ولا تجعلنا نمر أمام لوحاتها تشدنا لنتوقف أمامها .. نتأمل ونتساءل .. ولو أمعنا النظر سنعثر في طياتها علي ذلك المخلص الذي سيعيد لهذا العالم الأسطوري الحياة ويوقظه من سباته العميق. وأنا منذ أن غادرت المعرض أعيد علي نفسي ذلك التساؤل الذي طرحته سعاد في مقدمة معرضها »ما دمنا من تراب فكيف لا ينبت الورد فينا ؟» وأبحث عن إجابة بطريقة بإمكانها أن تخرج هذا القدر من الجمال الذي نبت في حدائق سعاد الفنية.