ظهر عدد من كاتبات الرواية في أسكتلندا في ذات الوقت الذي نشرت فيه »جين أوستين» روايتها الشهيرة »كبرياء وتحامل». وتحظي »جين» بشهرة عالمية واسعة إلي الآن، بينما طوي النسيان رفيقاتها من كاتبات الرواية الأسكتلنديات، رغم شهرتهن الكبيرة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ربما لعب السياق التاريخي دوراً في هذا الأمر، بسبب القلاقل والأزمات السياسية التي عانت منها اسكتلندا في تلك الحقبة، ولكن طبيعة تلك الروايات كانت السبب الأبرز في عدم قدرتها علي تجاوز الزمن. فقد كانت تلك الأعمال الأدبية تناسب زمنها فقط، نتيجة حرص أغلب الأديبات علي الكتابة وفق المنظومة الدينية والأخلاقية التي سيطرت علي المُجتمع في تلك الفترة، وإغراقهن في وصف الواقع المحلي ومتابعة الأحداث الجارية علي حساب التجارب الإنسانية بكل حيويتها ومراوغتها. فمن المُلاحظ أن أغلب تلك التجارب الروائية عكست واقع المجتمع الاسكتلندي في مطلع القرن التاسع عشر، وجاءت انعكاساً لتجارب الكاتبات المُباشرة وخبراتهن الحياتية المحدودة. فقد شغلت قضايا المرأة ووضعها الاجتماعي مساحة كبيرة في روايات تلك المرحلة، وكان هدف أغلب الروائيات هو غرس القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الفتيات الصغيرات. من جهة أخري، عكست بعض الروايات الجدل الدائر في ذلك الحين حول الدور المنوط بالمرأة؛ خاصة في بيت الزوجية، ودافعت عن قدرتها علي خوض التجارب اعتماداً علي ذاتها دون مُساعدة من الرجال. وجدير بالذكر أن تلك الروايات تتمتع بروح ساخرة رغم سيطرة النظرة الأخلاقية المُتزمتة أحياناً، وتسخر من الزواج كنظام اجتماعي يقهر المرأة ويحد من طموحاتها. الملمح الثاني السائد في تلك الروايات هو إسهاب الكاتبات في وصف الأماكن والأحداث الواقعية والإشارة إلي أحداث تاريخية مؤثرة في ذلك الحين، فضلاً عن الاستعانة بشخصيات روائية وثيقة الصلة بشخصيات حقيقية، لدرجة أنها تتحول أحياناً إلي سيرة ذاتية واجتماعية أكثر منها رواية. وأثار هذا الأمر تحديداً مشاكل عدة للروائيات، وكان أحد أسباب رغبتهن في الكتابة بأسماء مُستعارة، لعدم الكشف عن الهوية الحقيقية لأبطال وشخصيات أعمالهن الروائية. وإغراقاً في الواقعية وما يُعرف بالروح الاسكتلندية، استخدمن اللهجة والتعبيرات اللغوية الاسكتلندية، التي تكتسب قدراتها التعبيرية في حيز جغرافي محدود، ولا تجد لها أصداء في نفوس قرّاء اللغة الانجليزية إجمالاً. وتنتمى أغلب كاتبات تلك الحقبة إلى عائلات كبيرة وشهيرة فى المُجتمع الاسكتلندي، ما أتاح لهن الحصول على قدر من التعليم فى المنزل. ولكن عدم حصولهن على قسط من التعليم النظامي، عزلهن عن بقية طبقات المجتمع وأدى إلى محدودية رؤيتهن للحياة. وما ضاعف من تلك الانعزالية هو تحكم العائلة فى حياة الكاتبة. لم تكن إحداهن تستطيع الكاتبة دون موافقة العائلة ودعمها. وأدى هذا الدعم إلى التحكم فى اختيار الكتب التى يجب أن تقرأها الكاتبة، ومراجعة نصوص رواياتها، وتولى رجال العائلة مهام التفاوض على النشر والاتفاقيات المالية مع الناشرين. ونشرت أغلب الروائيات كافة أعمالهن، أو بعضها بأسماء مُستعارة، لأسباب عائلية واجتماعية وأخرى تتعلق بنظرة الناس للرواية فى مطلع القرن التاسع عشر. فقد كانت الرواية تحتل مكانة أدنى بكثير من الشعر والفلسفة فى ذلك الوقت ويُنظر إلى مؤلفيها على أنهم أدنى مرتبة من الشعراء والفلاسفة، كما كان أغلب جمهورها من النساء، لدرجة أن السير «والتر سكوت» نفسه كان ينشر رواياته باسم مُستعار، ولا يضع اسمه الحقيقى إلا على أعماله الشعرية والفكرية. ورغم ما انتاب تلك الروايات من قصور، إلا أنها لا تخلو من جماليات حقيقية، يمكن إدراكها بسهولة إذا ما وضعنا السياق التاريخى فى الحُسبان. وتتمتع تلك الروايات بقيمة تاريخية كبيرة، لأنها كُتبت فى لحظة تاريخية شديدة الوطأة على اسكتلندا عموماً، وعلى النساء بصفة خاصة. وكان على الكاتبات التورط فى عدد من المعارك التى فرضها الواقع بقوة، من أجل الدفاع عن الوطن، وكذلك الدفاع عن أبناء جنسهن فى إطار –وضد- الوعى الاجتماعى المُهيمن فى مطلع القرن التاسع عشر. ويرجع الفضل إلى تلك الأعمال الروائية، الجديدة والجسورة فى زمانها، فى تسجيل وتوثيق عدد من الحقائق التاريخية والاجتماعية بدقة متناهية. وبعد عقود من تجاهل تلك الأعمال واعتبارها إرثاً أدبياً ثقيلاً، بدأ عدد كبير من أدباء اسكتلندا الشباب فى نبش التراث وإعادة تقييم الأديبات الرائدات وإنتاجهن الأدبى. وهناك بعض المُحاولات الجادة فى اسكتلندا لإعادة اكتشاف تلك التجارب الإبداعية وتسليط الضوء عليها، باعتبارها إرهاصات للأدب الاسكتلندى، وأعرض هنا لأشهر أربع روائيات فى النصف الأول من القرن التاسع عشر.