تريزا ماي تغادر بعد المؤتمر الصحفى ليلة الخميس الماضى لا تعرف الراحة طريقاً إلي رئيسة الوزراء البريطانية "تريزا ماي"، إذ تبدو امرأة المملكة المتحدة الحديدية كمن يقاتل في أحد ألعاب الفيديو.. تتخطي حاجزا فيظهر لها آخر، وتتجاوز خصماً فينهض ليقاتلها من جديد، فأمست وأصبحت في حلقة مفرغة تُسمي معضلة Brexit أو انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. وتبدو اللعبة قريبة من النهاية هذه المرة، لكن مع وضع مستقبل المملكة المتحدة في أوروبا علي المحك، وكذلك مستقبل رئيسة الوزراء نفسها، في ظل توقيع مسودة اتفاق "بريكزيت" جديد، مكون من 585 صفحة تم الإعلان عنه الأسبوع الماضي، وقبل أن يجف الحبر الذي كُتب به الاتفاق، وما أن تم الإعلان عن بعض وليس كل تفاصيله، أعلن عدد من الوزراء في حكومة ماي استقالاتهم، فضلاً عن الكثير من الانشقاقات في أوساط حزب المحافظين الحاكم. آخر الاستقالات كانت من "دومنيك راب"، الوزير البريطاني المكلف بتنسيق عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقبله استقال 4 وزراء، فكان لزاماً علي تريزا ماي الوقوف في مجلس العموم ب"ويستمنيستر"، لكي تشرح وتبرر وتفسر للوزراء والنواب، ما جعلها توقع اتفاقاً في بروكسل تم التفاوض عليه لمدة 20 شهراً.. اتفاق غير متوقع له الحصول علي أغلبية بالموافقة في تصويت برلماني مقرر له في ديسمبر المقبل، ويكفي تعليق محطة ال" بي بي سي" علي الاتفاق لمعرفة نوايا البريطانيين، حيث قالت المحطة الشهيرة "إن ورقة الاتفاق مكانها الطبيعي هو سلة المهملات بحلول أعياد الميلاد"، وفي تلك الأجواء المشحونة بالخلافات انخفض الجنيه الاسترليني بنسبة 2٪. مشروع الاتفاق الذي تم التفاوض عليه من قبل "حكومة تعيش في فوضي عارمة"، يشكل "فشلا ضارا جداً، وهو ما يمكن أن يقود البلاد للقفز في المجهول".. بهذه الكلمات تحدث "جيرمي كوربين"، زعيم حزب العمال المعارض، أمام مجلس العموم، ويبدو أنه يسعي لإجراء انتخابات مبكرة مما يمنح له فرصة وصول حزبه للسطلة. أما "إيان بلاكفورد"، النائب عن حزب استقلال اسكتلندا، فصاح أمام مجلس العموم أيضاً: "أوقفوا عقارب الساعة واذهبوا إلي بروكسل فوراً"، في إشارة إلي ضرورة إعادة التفاوض من جديد في مقر الاتحاد الأوروبي، حيث كان الرجل غاضباً من أن اسكتلندا لا تتمتع بامتيازات السوق الأوروبية الموحدة، وهو ما تتمتع به أيرلندا الشمالية، وفقاً لاتفاق لندن مع السبع وعشرين دولة أوروبية. غير أن المعارضة البريطانية لم تكن وحدها التي تعالي صوتها غضباً من ماي، إذ اتفق محافظون مؤيدون للبقاء ضمن المنظومة الأوربية الموحدة مع زملاء لهم مؤيدين وبشدة الانفصال عن أوروبا، علي أن رئيسة الوزراء أذلت البلاد بقبولها البقاء بشكل جزئي وضمني داخل الحظيرة الأوروبية بعدة مميزات دون أن يكون هناك نص واضح بذلك، ومن هؤلاء "كين كلارك" المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي، الذي أدان "وهم" من خلاله "تحتفظ بريطانيا بمكاسب البقاء في الاتحاد الأوروبي دون التعهد بالتزامات"، وأضاف كلارك " إذا توقفت تريزا ماي عن تقديم تنازلات الواحد تلو الآخر للمؤيدين المتطرفين للانفصال، وقبلت بالبقاء في السوق الأوروبية الموحدة للحفاظ علي الاقتصاد سيكون هناك أغلبية مؤيدة لها". فيما ذهب "جاكوب ريس موج"، النائب بمجلس العموم، إلي ما هو أبعد من ذلك، حيث يروج لاقتراح حجب ثقة عن تريزا ماي، وهو ما يحتاج ل48 توقيعاً لم يحصل عليها حتي الآن، ويوضح جاكوب:" إنها ليست مسألة الخروج من الاتحاد الأووربي، ولكنه فشل حكومي كامل"، مؤكداً أن سقوط حكومة ماي "ليست سوي مسألة وقت.. فقط عدة أسابيع". اقتراح بديل لكن لم يقدم "دومنيك راب"، أو "ريس موج" أي اقتراح بديل، فالأول شاب أقل من أربعين عاماً، وطموح وربما يكون قراره بمغادرة السفينة مرتبطاً برغبة في صعود شخصي وكسب موقف شعبي، ولكن رحيله برفقة 4 وزراء آخرين- بغض النظر عن كونهم مع أو ضد تريزا ماي- ضاعف حالة الانقسام. أما "موج ريس" ومعه 40 نائبا من أصدقائه فيلوحون بورقة No Deal أي انسحاب بلا صفقة، وهو ما يعني الدخول في حالة ثورية ضد المنظومة الأوروبية، شبيهة بتلك التي صنعتها رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر أواخر السبعينيات وأول الثمانينيات من القرن المنصرم. شبح وخارج النطاق البرلماني، يتسع نطاق الهجوم والانتقادات لتريزا ماي، التي يبدو أنها تعيش أجواء خريف غاضب، ف"أليسون بيرسون" كاتبة مقالات الرأي الشهيرة، بصحيفة "التليجراف"، كتبت عن ماي قائلة:" إن هذا الشبح المدعو زوراً برئيسة وزراء أذلت بلادها وكذبت علي شعبها وعليها الرحيل فوراً". بينما ذهب "جروج أوسبورن" وزير المالية المقال من قبل تريزا ماي، إلي كتابة مقال جاء فيه " تلك الاتفاقية الخاصة بالخروج من الاتحاد الأوروبي مازالت تنبض وفيها الروح، ولكن كطير تم ذبحه ويرقص رقصته الأخيرة". ويعمل "أوسبورن" حالياً كرئيس تحرير لصحيفة Evening Standard ونكايةً في ماي ولمزيد من تصفية الحسابات خرجت الصحيفة بعنوان علي صدر صفحتها الأولي يقول" هل لآخر شخص يغادر مجلس الوزراء أن يطفئ الأنوار لو سمحتم؟". من جانبها، لم تبد تريزا ماي أي قدر من التراجع في المؤتمر الصحفي الذي عقدته مساء الخميس الماضي، كما لو أنها لم تسمع أي نوع من الانتقاد، ورددت بعض الأكليشهات المعروفة عنها منذ ظهورها علي الساحة السياسية مثل قولها " هل سأمضي للنهاية؟ نعم سأفعل"، فاستحقت أن يلتصق بها لقب مثل Maybot وهي اختصار ل Mayrobot في إشارة إلي تكرارها بعض الجمل علي طريقة الروبوتات. كما أنها لم تستطع أن تفسر لماذا تجاوزت العديد مما كانت تعتبره خطوطا حمراء في الاتفاق الذي خلصت إليه مع ال27 دولة أوروبية. ولم تستحق ماي لقب الروبوت من فراغ، فأيا كان السؤال الموجه إليها من الصحفيين فإن إجابتها دائما تنحصر في الجمل التالية: " إن القيادة تتمثل في اتخاذ أفضل القرارات وليس أسهلها.. إنني أثق مع كل خلية بكياني أنني اخترت لبلدي الطريق الأفضل". سيناريو كارثي الأفق المسدود الذي يلوح في لندن يعزز فرضية الدخول في سيناريو كارثي ممثل في خروج بلا اتفاق، فيأتي يوم التاسع والعشرين من مارس 2019 اليوم المحدد للطلاق، ويتم فجأة إلغاء القواعد الجمركية الحالية، حيث تصر حكومة ماي علي الخروج من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي لتتمكن من التفاوض علي اتفاقات تجارية خاصة بها ووضع حد لحرية تنقل المهاجرين والمحاكمات التي تجري في المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، متمنية إبرام اتفاق يخفض قدر الإمكان الرسوم الجمركية والمعاملات الإدارية، ولكن الخروج بلا اتفاق يعرض إمدادات البلاد من الطعام والدواء للخطر، وكذلك لن تتمكن الكثير من الطائرات من الإقلاع. ومن المؤكد أن عدم الوفاق بين برلمان "ويستمنيستر" وبروكسل، سيخلق حالة ضبابية غير واضحة المعالم، يخشاها كبار رجال الصناعة، وهو ما اتضح عقب إعلان وزراء ماي الاستقالة، حيث أعلنت شركة BMW للسيارات التي تعتمد علي تدفق نقدي من عدة بلدان من القارة العجوز أنها تجهز نفسها للسيناريو الأسوأ، وهو خروج بلا اتفاق. تريزا ماي لا تتوقف عن القول إن الحل البديل لما توصلت إليه مع الأوروبيين هو اتفاق بلا خروج، أو لا خروج علي الإطلاق، وفي أفضل الأحوال ستؤدي حالة الفوضي إلي إجراء استفتاء ثان علي الخروج من عدمه، بعدما جاءت نتيجة استفتاء يونيو 2016 مؤيدة بأغلبية ليست بالكبيرة، وتعكف حكومة ماي علي النشر بشكل دوري تقارير توضح ما يمكن أن يحدث في حال عدم التوافق علي الخروج، ومن ذلك أنه سيتوجب تأجير آلاف السفن لشحن مولدات تولد الكهرباء لأيرلندا الشمالية. ولكن هل يكفي ذلك لجعل الاتفاق الذي قبلت به 27 دولة شيئاً مقبولا لدي البريطانيين؟ من أجل خفض معنويات المعارضين لاتفاق ماي مع الأوروبيين، قال وزير الصحة "مات هوك" أنه لا يضمن أن أي نقص في الدواء إثر خروج بلا اتفاق لا يتم ترجمته إلي حالات وفيات.