تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجورب اللامع و«الجين »

في أحد الأيام، توقفت سيارة »فولجا»‬ سوداء أمام منزل »‬زارا». كانت »‬زارا» تقف علي السلالم، حين حدث ذلك. فُتِح باب ال»‬فولجا»، وظهرت منه قدمٌ مغطاة بجوربٍ لامع، ثم لامست الأرض. في البدء، خافت »‬زارا».. ما الذي يجعل »‬فولجا» سوداء تتوقف أمام بيتهم؟ لكنها سرعان ما تجاوزت خوفها حين ضربت أشعة الشمس الجزء السفلي من ساق »‬أوكسانكا». الجدّات العجائز اللواتي كن يجلسن علي المقعد الخشبي العريض بجوار البيت، صمتن فجأة، ورحن يحدّقن في المعدن البرّاق للسيارة، والساق اللامعة. لم ترَ »‬زارا» شيئًا مماثلًا من قبل. الجورب بلون البشرة بالضبط. لا يبدو كجورب حقيقي، في الواقع. لعله ليس جوربًا، بالفعل. لكن الضوء المتلأليء علي الساق، يؤكد أنها مغطاة بشيء، وأنها ليست عارية. كأنما هناك هالة تحيط بالساق. هالةٌ تشبه تلك التي تمتلكها »‬مريم العذراء»، »‬أم الرب». نورٌ يشع في كل اتجاه. تنتهي الساق بكاحلٍ دقيق، وحذاءٍ ذي كعبٍ مرتفع.. ويا له من حذاء! الكعب يضيق في المنتصف، ثم يعاود الاتساع. أشبه ما يكون بساعةٍ رملية. لقد رأت »‬مدام دي بومبادور» تنتعل حذاءً مشابهًا، في كتب تاريخ الفن؛ إلا أن الحذاء الممتد من باب السيارة أكثر رقةً وأناقة، وله طرف مدبب، كما أن كعبه أطول. هبط الحذاء واستقر علي الأرض المتربة، واصطدم طرف كعبه بحجرٍ في الطريق، مصدرًا صريرًا مرتفعًا، سمعته بوضوح من مكانها في مدخل البيت. ثم نزلت المرأة بأكملها من السيارة. »‬أوكسانكا».
نزل وراءها رجلان، من المقعدين الأماميين. يرتدي كل واحد منهما معطفًا جلديًا أسود اللون، ويحيط رقبته بسلاسل ذهبية غليظة. لم يقولا شيئًا. وقفا بجوار السيارة، ينظران إلي »‬أوكسانكا». كان هناك الكثير الذي يستحق الرؤية. إنها جميلة. لم تقابل »‬زارا» صديقتها القديمة منذ فترةٍ طويلة. منذ انتقالها إلي »‬موسكو» للالتحاق بالجامعة. تلقت منها بضع بطاقات بريدية، ثم خطابًا تقول فيه بأنها ستسافر إلي ألمانيا للعمل هناك. بعدها، انقطعت أخبارها تمامًا، حتي هذه اللحظة. التغير مدهش. لمعت شفتا »‬أوكسانكا» ببريقٍ أخاذ، كالفتيات اللواتي تزين صورهن أغلفة المجلات الغربية. كانت تضع فراء ثعلب حول كتفيها. لونه بني فاتح. ليس لون الثعالب المعتاد، وإنما لونٌ يقترب من مزيج القهوة بالحليب.. هل هناك ثعالب بهذا اللون؟
اتجهت »‬أوكسانكا» إلي المدخل الأمامي للبيت، وحين لمحت »‬زارا»، توقفت ولوحت لها بيدها. ولأنها ثنت أصابعها قليلًا، فقد بدا أنها تخدش الهواء بأظافرها المصبوغة بالأحمر. التفتت الجدّات العجائز نحو »‬زارا». أحكمت إحداهن عقدة ال»‬إيشارب» تحت ذقنها. سحبت أخري عصاها، ووضعتها بين ساقيها. أمسكت الثالثة عصاها بيديها الإثنتين.
انطلق نفيرٌ مرتفع من السيارة ال»‬فولجا»
اقتربت »‬أوكسانكا» من »‬زارا». صعدت الدَرَج مبتسمة. انعكست الشمس علي أسنانها البيضاء النظيفة. مدت يديها الشبيهتين بالمخالب تجاهها، وعانقتها. لامس فراء الثعلب خدّي »‬زارا». رمقها بعينيه الزجاجيتين. بادلته النظر. فكرت للحظة بأن نظراته مألوفة، ثم تذكرت بأن لعينيّ جدّتها الشكل ذاته، في بعض الأحيان.
همست »‬أوكسانكا»:
اشتقتُ إليكِ كثيرًا.
فتحت شفتيها ببعض الصعوبة عند حديثها، بفعل البريق اللزج الذي يغطيهما كالصمغ.
طيّر الهواء خصلة ملتوية من شعر »‬أوكسانكا»، فالتصقت بشفتيها المصبوغتين. أزاحتها بيدها. تركت الخصلة أثرًا أحمر اللون علي خدها. رقبتها تمتليء بخطوط حمراء مماثلة. كانت كمن تعرض لصعق كهربائي. ضغطت »‬أوكسانكا» علي يديّ »‬زارا»، التي شعرت بأن أطراف تلك الأظافر الحادة تنغرز في جلدها.
قالت »‬أوكسانكا» ضاحكة، وهي تعبث بشعر صديقتها:
عليكِ أن تذهبي للكوافير يا حبيبتي. لونٌ جديد، وتسريحة عصرية!
لم تقل »‬زارا» شيئًا.
حسنًا.. تذكرتُ حال صالونات التجميل هنا! ربما كان من الأفضل فعلًا ألا تسمحي لهم بلمس شعركِ.
أطلقت ضحكة جديدة، وقالت:
هيا بنا لنشرب الشاي.
اصطحبتها »‬زارا» إلي الداخل. حين عبرتا المطبخ المشترك للبناية، عمّ الصمت المكان. أنّت الأرضية تحت وقع خطواتهما. تجمعت النساء لدي الباب، لمراقبتهما. أصدر شبشب »‬زارا» المهتريء صوتًا حادًا عند احتكاكه بذرات الرمل، وقشور بذور عبّاد الشمس التي تغطي الأرض. أحست بعيون النساء وهي تخترق ظهرها في فضول.
أدخلت »‬أوكسانكا» إلي الشقة، وأغلقت الباب. توهجت »‬أوكسانكا»، كنجمٍ لامع، داخل الحجرة المعتمة. برق قرطها، كعيني قطة. سحبت »‬زارا» طرف كُمي ثوبها المنزلي، تغطي بهما يديها المحمرتين.
لم تتحرك عينا الجدّة. كانت تجلس في مكانها المعتاد، وتنظر خارج النافذة. بفعل الضوء القادم من الخارج، بدا رأسها أسود اللون. الجدة لا تغادر مقعدها أبدًا. تواصل النظر من النافذة، ليل نهار، في صمتٍ تام. الجميع يخشي الجدة، علي نحوٍ ما، بمن في ذلك والد »‬زارا»، رغم أنه كان سكرانًا طوال الوقت. ثم تلاشي شيئًا فشيئًا، ومات. بعد ذلك، انتقلت والدة »‬زارا» إلي بيت الجدة، لتعيش مع ابنتها. لم تكن الجدة تحبّه، ولم تكن تشير إليه إلا بكلمة »‬تيبلا»، والتي تعني »‬الحثالة الروسية». لكن »‬أوكسانكا» كانت معتادة علي الجدة. اقتربت منها في صخب، لتحيتها. أمسكت بيدها، وراحت تثرثر معها بمرح. ربما ضحكت الجدة قليلًا. بدأت »‬زارا» في إزالة الأشياء الموجودة علي الطاولة. فتشت »‬أوكسانكا» في شنطة يدها، إلي أن عثرت علي لوح شوكولاتة، بغلاف براق، لا يقل لمعانًا عن صاحبته. ناولته للجدة. أوصلت »‬زارا» أنبوب تسخين الماء المعدني،بالكهرباء، ووضعته داخل برّاد الشاي. ناولتها »‬أوكسانكا» كيسًا بلاستيكيًا.
ستجدين فيه أشياء متعددة.
ترددت »‬زارا» في قبوله. بدا ثقيلًا.
خذيه. كلا! انتظري!
مدت »‬أوكسانكا» يدها بداخله، وأخرجت زجاجة.
هذا مشروب الجين. هل تناولت جدتك الجين من قبل؟ لعلها تجربةٌ جديدةٌ بالنسبة لها.
جلبت كئوسًا صغيرة من علي الرف، وملأتها بالشراب. قدمت كأسًا منها للجدة. تشممته الجدة أولًا، ثم ابتسمت ابتسامةً عريضة، وضحكت، وصبت الكأس في فمها. فعلت »‬زارا» مثلها. اشتعل حريقٌ لاذعٌ في حلقها.
الجين هو المكون الأساسي في مشروب جين وتونيك. إننا نصنع الكثير منه لزبائننا.
بحركاتٍ مسرحية، حملت صينية وهمية، وقالت بإنجليزية ذات لكنةٍ ثقيلة:
هل ترغب في شيءٍ آخر يا سيدي؟ المزيد من الجين والتونيك، ربما؟
أضافت بالألمانية:
المزيد؟
كان صخبها ومرحها مُعديين. مدّت »‬زارا» يدها وكأنها تمنحها بقشيشًا، وأومأت برأسها تشكرها علي الكأس الجيد. تعالت ضحكاتهما، كالسابق.
جلست »‬أوكسانكا» وهي تلهث، عقب مسرحيتها الصغيرة، وقالت:
لقد جعلتكِ تضحكين.
أضافت:
كنا نضحك كثيرًا. هل تذكرين؟
أومأت »‬زارا». بدأ الماء يغلي. انتظرت »‬زارا» قليلًا، ثم أزالت منه الأنبوب المعدني. وضعت بعض أوراق الشاي في إبريق، وسكبت عليها الماء الساخن. حملت الفناجين إلي الطاولة. كان بإمكان »‬أوكسانكا» أن تبلغهم بموعد زيارتها، مسبقًا. أن ترسل لهم بطاقة مثلًا. عندها، كان سيتسني ل »‬زارا» أن تقدّم لها شيئًا تتناوله مع الشاي، وأن ترتدي ثيابًا لائقة تقابلها بها بدلًا من هذا الثوب المنزلي، والشبشب القديم.
جلست »‬أوكسانكا» إلي الطاولة. أعادت ترتيب فراء الثعلب. استند برأسه علي كتفها، فيما التفّ جسده علي ظهر المقعد.
هذان حقيقيان.
لمست قرطيها بأطراف أصابعها.
ماسٌ أصلي. هل ترين كم أحوالي جيدة في الغرب، يا »‬زارا»؟ هل لاحظتِ أسناني؟
ابتسمت ابتسامةً عريضة.
عندها فقط لاحظت »‬زارا» بأن عيوب أسنان »‬أوكسانكا» الأمامية لم تعد ظاهرة.
تذكرت »‬زارا» سيارات ال »‬فولجا». كانت تندفع بسرعةٍ فائقة، وتظهر أمامك فجأة، دون ضوء. والآن، ها هي »‬أوكسانكا» تمتلك واحدةً منها. ولديها سائق. وحارس شخصي. وزوجٌ من الأقراط الذهبية بفصوص ماسية كبيرة. وأسنان بيضاء.
في طفولتهما، كادت الفتاتان أن تتعرضا للدهس من قِبَل سيارة »‬فولجا». كانتا في طريقهما إلي البيت، عقب الذهاب إلي السينما. الشارع هاديء جدًا. ظلت »‬زارا» تعبث بممحاةٍ قديمةٍ وضعتها داخل جيبها. صلبة، يميل لونها إلي الرمادي، اختفي اسم الماركة من علي سطحها منذ فترة. ثم ظهرت. سمعتا صوتها المرتفع، لكنهما لم تلاحظا قدومها إلا حين اقتربت منهما بسرعةٍ فائقة، واختفت في لمح البصر. لم يفصلهما عنها إلا مسافة ضئيلة جدًا. حين وصلت »‬زارا» البيت، قامت ببَرد إظفرها السبّابة، الذي انكسر عند اصطدام السيارة بالممحاة في جيبها، أثناء لهوها بها داخل جيبها. انكسر ظفرٌ آخر وانفصل في جانبٍ منه من اللحم، جارحًا إصبعها. تساقط منه الدم.
في نفس المبني السكني، تعرضت ابنة إحدي الأُسَر للدهس بسيارة »‬فولجا» سوداء. أعلنت الميليشيا بصرامة بأن الأمر خارج سيطرتها. هكذا تسير الأمور. السيارة حكومية. ما الذي يمكنك فعله؟ أعيدت الأسرة إلي البيت، بعد أن تلقت بعض التوبيخ.
لم يكن في نية »‬زارا» إخبار أمها بما حدث. لكن الأخيرة لاحظت الأظافر المتكسرة، والإصبع الذي يغطيه الدم. لم تقنعها تبريرات »‬زارا»، وأدركت علي الفور بأن ابنتها تكذب. حين صارحتها »‬زارا»، في نهاية الأمر، بشأن ال»‬فولجا» السوداء، صفعتها بقوة. أرادت بعد ذلك معرفة ما إن كان ركّاب السيارة قد رأوهما جيدًا أم لا.
لا أظن ذلك. كانت السيارة مسرعة جدًا.
ألم يتوقفوا؟
كلا، بالطبع.
إيّاكِ أبدًا أن تقتربي من تلك السيارات. أبدًا. أبدًا. إن رأيتِ إحداها، اهربي. أينما كنتِ. اهربي وعودي إلي المنزل.
أحست »‬زارا» بالذهول. سيلٌ من الكلمات المتدافعة، انطلق من فم أمها. هذا لا يحدث كثيرًا. لم يضايقها ضرب أمها لها، لكن نظراتها الهلعة أخافتها. التعبيرات التي ارتسمت علي وجهها غريبة. وجه أمها يخلو من أي تعبير، عادةً.
جلست أمها إلي طاولة المطبخ، طوال الليل، شاردة الذهن. ومنذ تلك الليلة، صارت تطل من وراء الستائر خلسةً، وكأنها تتوقع ظهور »‬فولجا» سوداء أمام البيت، في أي لحظة، وهي تراقب مسكنهم أو تمر في شارعهم بهدوء. خلال ساعات الليل، تغادر فراشها لتطمئن علي »‬زارا»، التي تدعي الاستغراق في النوم. تنظر من النافذة، ثم تعود إلي فراشها، لتستلقي فيه بجسدٍ متخشب، إلي أن يغلبها الإرهاق فتغفو. يجافيها النوم في بعض الأحيان، فتقف وراء الستارة، لتراقب الشارع إلي الصباح.
في إحدي الليالي، تركت »‬زارا» سريرها، ووقفت وراء أمها. جذبت طرف قميص نومها القطني، وقالت لها:
لن يأتي أحد.
لم ترد أمها عليها. أزاحت أصابع »‬زارا» من علي ثيابها.
سوف يقوم »‬لينين» بحمايتنا يا ماما. لا شيء يدعو للقلق.
لم تقل أمها شيئًا. التفتت تجاه ابنتها، ونظرت نحوها مطولًا، كأنما تتابع شخصًا يقف خلف »‬زارا». »‬زارا» أخري. اشتد الظلام، وتعالت دقات الساعة. غاصت كعوب أقدامهما في الخشب العتيق للأرضية، كأنها لُصِقَت به بغراء. حملتها أمها، أخيرًا، وأعادتها إلي فراشها. غطتها بالبطانية بإحكام. لم تتبادلا كلمة واحدة، خلال ذلك كله.
كانت »‬زارا» بدورها قد سمعت حكايات عن النائب »‬بيريا»، وعن البوليس السرّي، وعن السيارات السوداء التي تجوب الشوارع ليلًا بحثًا عن الفتيات الصغيرات. تتابعهن، ثم تتوقف بجوارهن. لا أحد يسمع عنهن شيئًا، بعدها. ال »‬فولجا» السوداء هي دائمًا ال »‬فولجا» السوداء.
والآن، ها هي »‬أوكسانكا» التي صارت تشبه نجمات السينما تنزل من »‬فولجا» سوداء، وتلوح بيدٍ جميلة، وتخدش الهواء بأظافر طويلة، أنيقة، حمراء؛ تسبقها ابتسامتها المرحة. تتصرف كأرستقراطية، تجري في عروقها الدماء الزرقاء.
سألتها »‬زارا»:
هل ال »‬فولجا» ملكك؟
أجابت »‬أوكسانكا» ضاحكة:
سيارتي في ألمانيا.
لديكِ سيارة إذن؟
طبعًا! كل شخص في الغرب يمتلك سيارة.
شبكت »‬أوكسانكا» ساقًا فوق الأخري، بأناقة. ضمّت »‬زارا» ساقيها، ووضعتهما تحت مقعدها. القماش الذي يبطن شبشبها، رطب. تمامًا كما كان شبشب »‬أوكسانكا» قديمًا، ببطانته الوردية الباهتة، حين كانت تلبس النوع ذاته، وتزورها لتنهيا واجباتهما المدرسية معًا علي هذه الطاولة، بأصابع يبقعها الحبر الأسود.
قالت »‬زارا»:
السيارات لا تثير اهتمامي.
ولكن حين تمتلكين سيارة، يصبح بإمكانكِ الذهاب أينما شئتِ، بسهولة. فكري في المسألة علي هذا النحو!
فكرت »‬زارا» في أمرٍ واحدٍ فقط.. سوف تعود أمها في أي دقيقة الآن، وتري »‬فولجا» سوداء أمام البيت.
لم ترَ الجدّة السيارة، لأن النافذة التي تجلس أمامها لا تطل علي ذلك الجانب من الطريق. إنها لا تهتم بالأحداث التي تدور في الشارع، كبقية الجدّات اللواتي يجلسن بمحاذاة جدار البيت. السماء تكفيها جدًا.
عندما سارت معها »‬زارا» إلي ال »‬فولجا» السوداء، أخبرتها »‬أوكسانكا» بأن السقف في منزل أبويها لم يعد يعاني من مشكلة التسريب. لقد تولت عملية إصلاحه.
أنتِ مَن دفع التكاليف؟
بالدولار.
قبل أن تركب السيارة، احتضنت »‬أوكسانكا» صديقتها بحرارة، ثم أعطتها كراسًا طويلًا بعض الشيء.
إنه عن الفندق الذي أعمل فيه.
قلّبته »‬زارا» بين يديها. أوراقه القليلة سميكة ولامعة، وتعلوه صورة امرأة باسمة، بأسنان ناصعة البياض.
هذا يُسمّي »‬بروشور».. إنه كُتيّب أو نشرة.
»‬بروشور»؟
هناك الكثير من الفنادق. عليهم أن يصدروا مثل هذه الكتيبات، ليميز الناس بينها. هاكِ المزيد. لم أزر هذه من قبل، لكنهم يقبلون الروسيات أيضًا. يمكنني ترتيب مسألة استخراج جواز سفر لك، إن أحببتِ.
ما إن ركبت في المقعد الخلفي، حتي أدار السائق محرك السيارة، علي الفور.
صاحت »‬أوكسانكا»:
هناك جوارب مثل هذه بالضبط، في الكيس البلاستيكي.
فتحت باب السيارة، وأخرجت ساقها:
تحسسي الجورب.
مدّت »‬زارا» يدها، وتلمست ساق صديقتها.
ضحكت »‬أوكسانكا»، وقالت:
غير معقول! أليس كذلك؟
أضافت:
. سوف أعود ثانيةً في الغد. يمكننا أن نتكلم باستفاضة عندها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.