المتدربون في مجموعات عمل كثيرا ما نتباهي بأننا أصل الحضارات، وأن التقدم الغربي بكل ما وصل إليه مدين للثقافة العربية وعلمائِها، عندما نقل مندوبوها العلوم المختلفة من المشرق، وفي خضم زهونا أخذنا ننحسر ونتراجع، وتمر السنوات دون أن نتمكن من اللحاق بركب التقدم، لأننا أهملنا أحد أهم روافد المواكبة المعتمد علي النقل والإطلاع، وهو الترجمة. منذ ثلاث سنوات؛ أطلقنا في »أخبار الأدب» حملة بعنوان »قضايا الترجمة» تناولنا من خلالها المشكلات المختلفة التي تقابل المترجمين وكيف يمكن حلّها، وأصدرنا في ختامها وثيقة تتضمن توصيات أفرزتها مائدة مستديرة بين المترجمين ووزير الثقافة آنذاك؛ الكاتب الصحفي حلمي النمنم. أثناء اللقاء انتقد أحد المترجمين أداء المركز القومي للترجمة وأنه مقصِّر تجاه حركة الترجمة ودعم العاملين فيها، وبناء عليه نصّت إحدي التوصيات علي عقد مجموعة من الدورات التخصصية، بالإضافة إلي تخصيص جزء من ميزانية المركز القومي للترجمة لتوفير عدد من المنح التي تتوجه لشباب المترجمين. سار المركز علي ضوء تلك التوصية، فبدأ بطلبة اللغات المنتشرين في ثماني كليات ألسن،وعشرات الأقسام التي تدرِّس اللغات بالكليات المختلفة علي مستوي الجمهورية، حيث ينظِّم المركز عددًا من دورات التدريب الميداني لطلاب كلية الألسن بجامعتي عين شمس وقناة السويس ضمن بروتوكول التعاون الموقَّع بينه وبين الجامعتين. لا يشمل التدريب الترجمة؛ وإنما التدريب في النواحي الإدارية، من خلال عدد من المحاضرات يقدّمها مجموعة من المتخصصين في المركز،تهدف إلي تنمية مهارات المتدربين المشاركين وتعزيز قدراتهم في بعض المجالات المتعلقة بالعمل الإداري مثل مهارات استخدام الحاسب الآلي، اللغة العربية وضوابطها، مهارات الاتصال والتسويق، مقدمة في علم الإدارة، إعداد الفرق وإدارة الصراع،إدارة الوقت وتحليل النظم الإدارية. انتهت مؤخرًا الدورة الرابعة، التي اشترك فيها بعض دارسي اللغة الفارسية، والتركية، والألمانية، والفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية. وكان لابد لأخبار الأدب أن تتواجد لتري الصورة عن قرب، وتتعرف علي ما يواجهونه من صعوبات تعوق كل منهم في لغته قبل أن يخرج لسوق العمل، فأتاحت لنا الأستاذة تاميران محمود، مدير التسويق بالمركز، هذه الفرصة،واستضافتني مع الأستاذ طارق طاهر في واحدة من محاضراتها. داخل قاعة التدريب بالمركز؛ جلس ما يقرب من ثلاثين طالبًا قطعوا نصف الطريق أو أكثر في مشوارهم الجامعي، بعضهم اختار اللغة التي يدرسها طواعية، مثل »بدر» طالب الألمانية بجامعة عين شمس، الذي درس اللغة في المرحلة الثانوية وحصَّل فيها درجات عالية، فأراد أن يعرف عنها أكثر مما تلقّاه. وقد تمكن من الخروج عن إطار الجامعة ونشر بعض الأعمال المترجمة. أما »سارة» فأجبرها التنسيق علي الالتحاق بقسم اللغات الشرقية ودراسة اللغة الفارسية، وكانت تظن أنها لغة مندثرة لا يتحدث بها أحد ولا يوجد فيها كتب، لكنها سرعان ما استوعبت الأمور بشكل صحيح وأحبتها جدًا. ومثلها »سوسانا» التي التحقت بنفس القسم ولكن في اللغة التركية، لم يجبرها التنسيق، فقد كانت متاحة أمامها جميع اللغات الخمس الموجودة في جامعة قناة السويس؛ الصينية التي لا تحبها، والإنجليزية التي لم تجدها مميزة، والفرنسية التي لا تصلح لها لأنها درست الألمانية في المرحلة الثانوية، ففضّلت التركية عن الفارسية لميلها إلي دراسة لغة بحروف لاتينية. ومعهما في نفس القسم طالبة ثالثة، تدرس التركية أيضًا، لكنها لا تحب الترجمة ولا اللغة التي تدرسها، تحضر التدريب في المركز فقط من أجل التخرج، تفكر في أنها - ربما - تتعلم لغة أخري فيما بعد أو تسافر للخارج، فلم تفلح الدراسة في غرس الشغف بداخلها تجاه ما تتعلمه. المحبّون وغير المحبّين للغاتهم، اجتمعوا حول عدد من المشكلات التي تقابلهم، ويأتي علي رأسها - خاصة لدارسي اللغات النادرة - عدم وجود قواميس متخصصة تساعدهم علي تحسين ترجماتهم وإتقان اللغة بشكل أكبر. تلك ليست مشكلتهم وحدهم، فالخريجون أيضًا والعاملون في المجال، سبق وأشاروا في العديد من الحوارات التي نُشرت بالجريدة إلي معاناتهم من نفس الأمر، في لغات مثل الأُردية والإيطالية والعبرية واليابانية وغيرهم. ورغم أن المركز يحاول السعي جاهدًا للتغلب علي هذه المشكلة وإعداد قواميس في لغات مختلفة، إلا أن الأساتذة لا يسعفونهم. هذا ينقلنا لأزمة أخري نطلق عليها »الأقاليم»، وكأن ندرة اللغات لا تكفي، فيعاني الدارسون - أيضا - من البُعد عن العاصمة التي تتمركز فيها روافد الاحتكاك المختلفة كالسفارات والمراكز التعليمية. وهي أزمة لطالما واجهت الأدباء، لكن - علي الأقل - هناك نوادي أدب في جميع المحافظات، فلماذا لا يتم تأسيس نوادٍ للترجمة، تكون فعّالة في تعليم وتدريب المترجمين وتحسين قدراتهم اللغوية والارتقاء بمستواهم. لا تتوقف القدرات اللغوية فقط علي اللغة الأجنبية التي يدرسونها، وإنما العربية أيضا، التي غالبًا ما يتم إهمالها باعتبارها اللغة الأم، وتكتفي الأقسام بعدد من المحاضرات لا يغني ولا يسمن، فالمترجم لابد أن يكون تكوينه متميزًا علي عدة مستويات، ليتمكن من اختزان الثقافتين اللتين يحقق الربط والتبادل بينهما، وليكون قادرًا علي الخوض في أي مجال دون رهبة. فما لاحظته أن معظم الطلبة ينوون التخصص في ترجمة الأخبار بالصحف والمواقع المختلفة، خاصة السياسية، وربما اثنان أو ثلاثة فقط من يفكِّرون في الاتجاه نحو الترجمة الأدبية، وواحد يحبذ الترجمة القانونية، في حين أنه لا أحد منهم يطرأ علي ذهنه مجرّد فكرة بأن يتخصص في الترجمة العلمية، لصعوبتها البالغة من وجهة نظرهم. إن نظرنا إلي جانب آخر؛ فقد يكون سوق العمل أحد العوامل التي تجعلهم يحدّدون هذه التخصصات، خاصة أن الكثيرين منهم وجدوا فرصة في الترجمة الصحفية، لكنهم يعانون أيضًا من افتقاد الموجِّه أو المرشد الذي يدّلهم علي المصادر المناسبة في كل لغة، سواء صحفا أو مواقع أو كتبا أو غيره، فالأساتذة يكتفي أغلبهم بإلقاء المحاضرات للانتهاء من المقرر الدراسي، لا التأسيس والاستمرار. المشكلة الأخيرة، والتي يمكن إدراجها تحت السابقة، هي افتقاد الطلبة لمن يتحدث معهم من ذوي الخبرة العملية، فرغم ممارسة بعضهم للترجمة الاحترافية، إلا أنهم لا يعرفون شيئًا عن كيفية تقدير العمل المترجَم والمقابل الذي يجب أن يتقاضونه وسعر الصفحة. تلك القضايا تتم مناقشتها كل عام - تقريبًا - في يوم المترجم، لكنه يوم لا يستوعب هؤلاء الطلبة، فلماذا لا يقام في كل كلية أو قسم فعالية موازية؟ أو علي الأقل يتم نقلها في بث مباشر عبر شاشة للطلبة في جامعاتهم.