ولم يكن غريبا أن يفرض الحي كله مقاطعة شاملة علي سماح وأمها والست بدور حتي وصلت المقاطعة إلي حد تحريم الطعمية التي تبيعها أم سماح!..))) كانت سماح أول من لبست الميني چيب في الحي فأصبحت خلال ساعات حديث الصباح والمساء!.. كانت ظاهرة الميني چيب والسيقان العارية قد بدأت في مصر داخل الاحياء الراقية.. وكانت نساء الطبقات المخملية في سن الشباب لايلبسنه إلا في الأندية والسهرات والحفلات دون أن يشعرن بحرج أو خجل أو خوف من المعاكسات الثقيلة،خاصة أنهن في حماية سياراتهن الفارهة ولايمشين في الطريق العام إلا مسافات قليلة.. وفي شوارعهن التي اعتادت جنون الموضة سواء في ملابس السيدات أو تسريحات الشعر المستوردة! سماح كانت تمشي بالميني جيب طوال الطريق من بيتها في شارع الحكيم،وحتي مكتب المحامي الذي تعمل فيه سكرتيرة علي حدود الحي.. وبالتحديد في المنطقة الواقعة بين حي الشرابية حيث تسكن.. وحي الظاهر الذي كان في ذيل قائمة الاحياء الراقية.. ولم يكن هذا الترتيب يضايق سكان الظاهر إذا ما كانوا داخل تصنيف الاحياء الراقية حتي وإن احتلوا المركز الأخير! أول يوم ظهرت فيه سماح بالميني چيب خطفت العيون،ولحست العقول وأثارت جدلا كبيرا بين عقلاء الحي وعواجيزه من ناحية.. والشباب الذي اعتصم في الشوارع في مواعيد خروج وعودة سماح.. حوار العقلاء والعواجيز كان يحكمه العقل وينتهي إلي ضرورة لفت نظر الست بدور أم سماح.. وحوار الشباب كانت تحكمه الغريزة ومناقشة مواطن الفتنة الصاعقة التي كانت تشع من سيقان سماح النارية وخصرها البديع وتلك الجيبة القصيرة للغاية ولايزيد طولها عن بضعة سنتيمترات والتي رأي الشباب أن سماح لم تكن بحاجة إليها لتكتمل متعة المشاهد المثيرة!.. خاف الكبار علي ابنائهم.. وتفنن الصغار في الهروب من مراقبة أبائهم.. نساء الحي وصفن سلوك سماح بقلة الأدب.. وبعضهن عاب علي سوء التربية.. ذهب وفد منهن لمقابلة أم سماح ومعاتبتها.. وتوجيه النصح لها.. ودافعت أم سماح عن ابنتها الوحيدة باستماتة: ياناس حرام.. هو أنا عاش لي عيل غير سماح.. البنت وحدانية ويتيمة.. سيبوها في حالها وبلاش افترا! انصرفت النساء واحدة تلو الأخري.. كن يعرفن أن أم سماح اذا فقدت أعصابها تطيش منها الشتائم وتطير من فوق لسانها البذاءات،فهي أولا واخيرا بائعة الطعمية الشهيرة علي احدي نواصي شارع الحكيم!،وتجاربها في الغضب مريرة وضحاياها كثيرون! فشل الجميع في إثناء سماح عن مهزلة الميني چيب.. وكأنها هي التي اخترعته!.. وكنت أنا واحدا ممن يمشون خلف سماح عن بعد يسمح بالرؤية المطلوبة.. وبخطوات بطيئة.. ولم تكن سماح تعيرنا اهتماما تقديرا منها لأننا تلاميذ الثانوي المراهقين.. لكنها لقنت الجيل الاكبر منا سنا درسا بعد درس حينما كانت تلتفت فجأة ثم تسب البصاصين بعبارات جارحة!.. إلا أن نجمة الميني چيب، كما كنا نطلق عليها بعد أن تخلصت من متاعب الطريق،لم تكن تعرف ما يحدث داخل صالون الثورة؟.. لم تكن تعرف - ايضا - أن لها اسماء كودية في أكثر من مكان بالحي حتي يتجنب من يتحدث عنها غضبة الست بدور أو رد فعلها.. الشباب اطلقوا عليها.. »مارلين» نسبة إلي نجمة الاغراء الامريكية مارلين مونرو.. وامام المسجد كان يلمح إليها ببنت ابليس في خطب الجمعة.. وستات البيوت اذا قالت احداهن »اللي ما تسماش!» فهي تقصد سماح.. وسماح فقط!.. أما صاحب صالون الثورة عم فاروق الحلاق فكان يلوك سيرتها باسم »هند».. ربما للشبه الكبير في ملامح الوجه وتضاريس الجسد بين سماح وهند رستم! كان عم فاروق يدعي حبه لثوار يوليو ويعمل مرشدا للمباحث ومن يختلف معه يكتب ضده تقريرا يصفه فيه بأنه من الثورة المضادة وكانت وقتها تهمة من أبشع التهم ! حرص معظم سكان الحي علي صداقة الرجل وتجنب الخلاف معه والتردد علي صالونه،إلا ان السبب الأهم كان »لسان» عم فاروق الذي لايرحم.. تنطلق من عنده الشائعات وتتطلخ في صالونه سمعة النساء.. يبوح بالأسرار ويفبرك الحكايات ويخترع الأكاذيب!.. ورغم عشقه للسياسة ودفاعه عن الثوار إلا انه وبذكائه المعجون بالخبث لاحظ أن حواراته الممتدة مع زبائن المحل لم تعد لها جاذبية الماضي بعد أن شعر الناس بالملل من حكاوي السياسة وتشويه العهد الملكي.. وحينما تأكد الرجل ان زبائنه ينامون مع حكايات السياسة وجد ضالته في نجمة الميني چيب التي عرفها كل بيوت الحي ورسم لها الرجال والشباب صورا خاصة في خيال كل منهم! لم تكن هناك واقعة واحدة تشين أخلاقيات سماح ولم تكن فتاة سيئة السمعة من قبل لكن الميني جيب نقلها من حال إلي حال.. ولم يكن غريبا أن يفرض الحي كله مقاطعة شاملة علي سماح والست بدور التي أوشكت علي الافلاس وبارت تجارتها ووصلت المقاطعة إلي حد تحريم الطعمية التي تبيعها أم سماح!.. إلا أن المقاطعة نفسها لم تفلح مما أثار عم فاروق الذي لاحظ أن الاحوال المادية لسماح وأمها لم تتأثر حتي بعد أن سحبت بدور العربة والطاسة وكل أدوات المهنة التي صارت من الذكريات لينصرف عنها زبائنها!.. ظلت سماح علي عنادها فلم تقاطع الميني جيب كيلا تعترف بالخطأ وظل عم فاروق يشعل ضدها الشائعات! نار وفراق..! صباح يوم الاثنين ذهب فاروق إلي قسم الشرطة في موعده المعتاد.. وخرجت زوجته إلي السوق تاركة ابنها جمال نائما في سريره.. لكن أهل الحي ينتبهون علي حريق ضخم يندلع من شقة عم فاروق.. ألسنة اللهب تتصاعد بسرعة البرق.. وصراخ نساء الحي يرتفع.. ويصل الخبر إلي عم فاروق فينتفض مهرولا إلي بيته يسابق الريح.. وقف أمام بيته يلطم كالنساء.. عجز أن يقتحم النيران.. وعجزت مثله الست بدور التي مزق صياحها القلوب وهي تخبر الجيران بأن سماح انطلقت كالسهم إلي بيت عم فاروق ونسيت أنها بقميص نومها.. وانقسم الجيران إلي فريقين أحدهما يبعد عم فاروق عن النيران ويمنعه من أن يلقي بنفسه داخل البيت لإنقاذ ابنه.. وفريق آخر يقوم بنفس الشيء مع الست بدور التي ظن الجميع أن سماح احترقت هي الأخري داخل المنزل المنكوب.. لكن سماح تظهر فجأة وهي تحمل جمال وتجري به إلي خارج المنزل.. كان يبدو عليها الإعياء البالغ وهي تقاوم الاختناق.. أجلسوها علي مقعد قريب وانطلقت زغاريد النساء فرحة بنجاة جمال،بينما كان بعض الرجال يهنئون عم فاروق،وبعضهم الآخر يتصل بالاسعاف لإنقاذ سماح التي غابت عن الوعي! وصلت المطافيء.. وانشغل الناس بمساعدة رجال الاطفاء.. وفجأة يشق عم فاروق الزحام يسأل عن سماح ليشكرها.. قالوا له أنها تجلس علي المقعد في انتظار الاسعاف،لكنه وجد المقعد من غير سماح!!.. سأل عنها أمها فأجابته وهي تبكي أن سماح لابد أن تكون وسط الزحام فهي لم ترها منذ أطمأنت عليها وهي جالسة علي المقعد يداويها الجيران.. ينفض الزحام وتصل سيارة الاسعاف.. لكن سماح لاحس ولا خبر!!.. كأن الأرض انشقت وابتلعتها.. لا هي في بيتها.. ولا في الشارع.. ولابين النيران التي خمدت.. ولا في الحي كله!!.. تحولت سماح إلي لغز كبير.. اختفت إلي الأبد.. الجميع يبحث عنها بالدموع حتي عم فاروق لكن بلا جدوي!.. بعد سنوات دخلت أم سماح في غيبوبة طالت حتي فارقت الحياة وظلت في حجرتها صورة كبيرة مهشمة البرواز لسماح قبل أن تلبس الميني جيب.. تركوا حجرتها مغلقة ربما تعود سماح يوما.. لكن سماح لم تعد.. الاسبوع الماضي زرت الشرابية مسقط رأسي وذهبت لبيت الست بدور لإلقاء نظرة علي الذكريات فوجدتهم هدموا البيت وأقاموا برجا سكنيا مخالفا للقانون بينما تحول صالون الثورة إلي سوبر ماركت..! رسائل كوثر..! عشت زمن » التوك شو» قبل ظهور الفضائيات بسنوات طويلة!.. كانت الست كوثر تسكن في البيت المواجه لمنزلنا في نفس الشارع وكانت تفتح نافذتها في الثامنة صباحا لتبدأ وصلة الحوار مع باقي السيدات اللاتي يفتحن نوافذهن في نفس التوقيت وجميعهن بين الطابقين الثاني والثالث وأحاول ان استكمل نومي - في اجازات الصيف- بلا فائدة فالاصوات تحمل اخبارا وأسرار البيوت وبشكل مثير يطير معه النوم من العيون.. لا أحد يجرؤ علي منع »كوثر» من هذا الازعاج فهي شخصية تستمد قوتها من شقيقها » صالح » الذي يزورها بين حين وآخر ويترك علي ناصية الشارع » موتوسيكل » رئاسة الجمهورية فهو أحد المشاركين في موكب الرئيس عبد الناصر بل كان يتقدم الموكب مع صفوف الموتوسيكلات !.. الحي كله كان يخرج لمشاهدة الموكب في منطقة »غمرة » وعبد الناصر في سيارته المكشوفه يلوح لنا بينما كثيرون منا أعينهم علي عم »صالح»وهو يمضي بالموتسيكل كالأسد !.. كثيرون - ايضا - من أهل الحي كانوا يكتبون رسائل تحمل شكاوي او طلبات موجهة للرئيس عبد الناصر ويسلمونها للست كوثر لتسلمها لأخيها صالح اعتقادا منهم أن »صالح» سوف يسلمها لعبد الناصر ثم يعيشون علي أمل ان تصل الردود من الرئاسة ذات يوم!.. بعد خمسة عشر عاما ماتت كوثر ووجدوا في حجرتها جوالا مليئا بالخطابات الموجهة إلي الرئيس عبد الناصر !.. أسعدني في زيارتي الاخيرة للشرابية أن بيت كوثر ما زال باقيا !.. لكن ما أحزنني ان »جوال الرسائل » ذهب مع الريح..ربما إلي صندوق القمامة بعد رحيل الست كوثر! من بنك الحسنات..! هل تريد إيداع ألف حسنة ومحو ألف سيئة.. قل بقلب سليم ومطمئن : لا اله الا الله وحده لا شريك له ؛ له الملك وله الحمد ؛ يحيي ويميت وهو حي لا يموت ؛ بيده الخير وهو علي كل شيء قدير.