بسبب استمرار تجدد النيران في سنترال رمسيس.. شعبة المخابز: احتمالية تعطل الشبكة وإجراءات بديلة لصرف الخبز    اتحاد بنوك مصر: البنوك ستعمل بشكل طبيعي اليوم الثلاثاء رغم التأثر بحريق سنترال رمسيس    وزير العمل: صرف نحو 23 مليون جنيه كتعويضات للعمالة غير المنتظمة في 2024    على خلفية حريق سنترال رمسيس.. غرفة عمليات ب «صحة قنا» لمتابعة تداعيات انقطاع شبكات الاتصالات    حذر وتأثير نفسي، توقعات محتملة لأداء السوق اليوم في ظل أزمة حريق سنترال رمسيس    سعر الفراخ البيضاء والساسو وكرتونة البيض الأبيض والأحمر بالأسواق اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    انخفض 20 جنيهًا.. سعر عيار 21 الآن بعد آخر تراجع في سعر الذهب اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025؟    سعر الدولار الآن امام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 8 يوليو 2025    ترامب: سنفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات من كوريا الجنوبية واليابان    إعلام عبري: مقتل 5 جنود إسرائيليين وإصابة 20 آخرين بهجوم في بيت حانون    استشهاد 16 فلسطينيا في غارات الاحتلال على النصيرات وغزة    أهم الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. الكرملين ردا على ترامب: التعاون داخل البريكس ليس موجها ضد أطراف ثالثة.. إيران: طهران قادرة على إطلاق الصواريخ لعامين بلا توقف.. إسرائيل تجري مناورات بالجولان    معادلات أمريكية جديدة في البحر الأحمر.. بين الأخطار والتداعيات    سنرددها ألف مرة.. المفتي: «المسجد الأقصى حقٌّ إسلاميٌّ خالص لا يقبل القسمة ولا المساومة»    قوات الاحتلال تضرم النيران في منزل داخل مخيم نور شمس شرق طولكرم    المجلس الوطني الفلسطيني: هدم الاحتلال للمنازل في طولكرم جريمة تطهير عرقي    أرقام لويس دياز مع ليفربول بعد صراع برشلونة وبايرن ميونخ لضمه    صفقة تبادلية تدور في الأفق بين الزمالك وسموحة    الجهاز الفني لمنتخب مصر تحت 16 سنة يُقيم أداء 36 محترفًا    موعد مباراة تشيلسي اليوم أمام فلومينينسي في نصف نهائي كأس العالم للأندية والقنوات الناقلة    «درجة تانية».. سيف زاهر يكشف رحيل نجم الزمالك للدوري السعودي    وليد صلاح: بقاء عبد الله السعيد في الزمالك ضروري.. ولا أؤيد اعتزال شيكابالا    محترف الزمالك يرغب في الرحيل عن النادي.. الغندور يكشف التفاصيل    في حريق سنترال رمسيس.. وجميع الحالات مستقرة    لقطات جديدة ترصد آخر تطورات محاولات إطفاء حريق سنترال رمسيس (صور)    احذروا الشبورة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    إجراءات استباقية من البورصة بعد حريق سنترال رمسيس وخبير يكشف التأثير    «إسعاف البحر الأحمر» يخصص أرقامًا بديلة لتلقي البلاغات بعد حريق سنترال رمسيس    الأقصر تعلن عن خطوط بديلة لتعطل الخط الساخن 123    مصدر حكومي: إنستا باي يعمل بكفاءة.. وتأثر بعض خدمات البنوك بسبب حريق سنترال رمسيس    إصابة شقيقين فى حادث تصادم جرار زراعى وسيارة ملاكى بالغربية    انطلاق فعاليات معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب في دورته ال 20.. المعرض بمشاركة 79 دار نشر مصرية وعربية.. 215 فعالية ثقافية على هامش المهرجان ل 800 محضر.. خصومات تصل إلى 30%.. فيديو وصور    محمد على رزق: «اكتسبت وزنًا من أجل منعم في فات الميعاد»    تساؤلات داخلية وخوف من الوحدة.. توقعات برج الحمل اليوم 8 يوليو    بعض التحديات في الأمور المادية والمهنية.. حظ برج الجدي اليوم 8 يوليو    جمال عبد الحميد: دخلت السينما وسط تهافت المنتجين.. واعتزلت فجأة بعد خطبة جمعة    عماد الدين حسين: العلاقات المصرية الصومالية تاريخية وجرى ترفيعها لآفاق الشراكة الاستراتيجية    عمرو أديب عن أزمة مها الصغير: سرقة غبية.. ومش عاوز حد يبررلها اللي حصل    أهم طرق علاج دوالي الساقين في المنزل    الدكتورة لمياء عبد القادر مديرًا لمستشفى 6 أكتوبر المركزي (تفاصيل)    لعلاج الألم وتخفيف الالتهاب.. أهم الأطعمة المفيدة لمرضى التهاب المفاصل    عاجل- المصرية للاتصالات تخرج عن صمتها: حريق سنترال رمسيس فصل الخدمة عن الملايين.. وقطع الكهرباء كان ضروريًا    السعيد غنيم : مشاركتنا في القائمة الوطنية تأكيد على دعم الدولة ومؤسساتها الدستورية    رتوش أخيرة تفصل الزمالك عن ضم مهاجم فاركو وحارس الاتحاد    أطعمة قدميها لأسرتك لحمايتهم من الجفاف في الصيف    مدارس البترول 2025.. الشروط والأوراق المطلوبة للتقديم    انطلاق مهرجان جرش 23 يوليو بمشاركة كبيرة لنجوم الغناء    مسؤول ب«الأمومة والطفولة»: نزع الطفل من أسرته لحمايته والردع مستمر فى مواجهة العنف الأسر    أول سيدة تتقدم للترشح على مقعد الشيوخ بالفيوم في ثالث أيام فتح باب التقديم    رئيس جامعة كفر الشيخ يشهد حفل تخريج الدفعة 55 بكلية الزراعة    تعليم الوادي الجديد تعتمد جدول امتحانات الدور الثاني للصف السادس الابتدائي    "جبالي": الحكومة تسحب مشروع قانون تنظيم المراكز الطبية المتخصصة    وفقا للحسابات الفلكية.. تعرف على موعد المولد النبوي الشريف    نجاح إجراء جراحة معقدة لإصلاح تشوه نادر بالعمود الفقري لطفلة 12عاما بزايد التخصصي    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الفساد صناعة ?!    (( أصل السياسة))… بقلم : د / عمر عبد الجواد عبد العزيز    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حالة شكر.""؟!    نشرة التوك شو| الحكومة تعلق على نظام البكالوريا وخبير يكشف أسباب الأمطار المفاجئة صيفًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا شيء يحدث في براغ
نشر في أخبار السيارات يوم 10 - 08 - 2018

الثالث من يوليو عام 1883 هو يوم صيفي لطيف وصاف، تمر نسمة هواء خفيفة عبر الأزقة الضيقة للمنطقة القديمة لمدينة براغ، وصلت درجة الحرارة فيها وقت الظهر إلي ثلاثين درجة مئوية، ليست حرارة قائظة لحسن الحظ، ولا تدعو السُحب القليلة التي تظهر مع الظهيرة للقلق، لذا يترقب آلاف البراغيين حلول المساء الدافئ ليقضوه في إحدي حدائق المطاعم العديدة مع الجعة والنبيذ وموسيقي آلات النفخ. إنه يوم الثلاثاء الذي تقام فيه الكثير من »الحفلات الموسيقية العسكرية»‬، ويبدأ الزحام في الساعة الرابعة مساءً في حدائق شرب الجعة المترامية الأطراف فوق جزيرة(صوفيا(‬. إنها فترة قدوم السائحين والطلاب وأصحاب الأعمال الصغيرة، لأن ساعات العمل تمتد إلي ما بعد ذلك بالطبع. أما من يكسب قوت يومه في مكاتب أحد التجار فلن يستمتع للأسف بالموسيقي قبل غروب الشمس. حتي زيارة العرض المسرحي تتوقف علي الحالة المزاجية لرؤسائهم في العمل. يشاهد التشيكيون اليوم )‬فيدورا(‬ وهي أحدث ميلودراما للكاتب الفرنسي الناجح )‬فيكتوريان ساردو(‬، أما الألمان فيستمتعون في المسرح الشعبي بعمل الكاتب )‬نيستروي) :‬ يريد لنفسه المرح. يبقي لمن يعتبر ذلك معقدًا الذهاب إلي »‬قاعة فاندا الغنائية»، حيث تقدم الآنسة )‬ميرسل لينر(‬ –التي يُطلق عليها ‮»‬‬السيدة الجميلة من فيينا» ‬–‬ مع ‮»‬‬مجموعة من الطاقات الفنية الجديدة برنامجهم الممتع والمحترم. إنه عرض محدود يُقدم إلي مائة وستين ألف نسمة من سكان المدينة.
براغ في الصيف، براغ في حقبة سلام، تمر الساعات وأسعار الأسهم تتحرك ببطء )‬ولكن هذا هو الوضع منذ عشر سنوات مضت(‬، تبدو الحياة في حالة خمول، حتي الأخبار المعتادة عن المحتالين والمنتحرات وموظفي الخزينة الهاربين –والتي يتلقاها قراء الجرائد مثل جريدة براغ اليومية أو بوهيميا بشغف– قد اختفت. يسقط في »‬مدرسة السباحة المدنية»، والتي تعتبر مسبحًا نهريًا عامًا، طفل في نهر )‬المولداو(‬ وينقذه صبي في الثالثة عشرة من عمره. إنها الكارثة الوحيدة في يوم الثالث من يوليو التي تستحق التغطية الصحفية، بصرف النظر عن حالات الوفاة الطبيعية التي تُكتب بخط متناهي الصغر. يفارق في شارع )‬هيبرنر جاسة(‬ رضيع ضعيف اسمه )‬أوجوستين(‬ عمره ثمانية عشر يومًا الحياة، وتموت الطفلة )‬آماليا(‬ ذات العامين من مرض السل. ولكن من يهتم بمعرفة أخبار كهذه.
ومع ذلك سيُدوَّن هذا اليوم في السجلات السنوية لمدينة براغ، لسببين:‬ سبب رسمي ظاهر وآخر مخفي مبدئيًا. ستضرب اليوم المدينة صدمة سياسية ونفسية، لم تعرف سوي قلةٍ الخبرَ، ولكن سريعًا ينتشر ما يصعب تصديقه في المقاهي، قبل أن يتسني للصحافة تناول الخبر. تُجري في هذا الوقت انتخابات مجلس ولاية بوهيميا، أمر بذلك القيصر شخصيًا ولكن بشروط جديدة لها عواقب وخيمة. لم يحق الانتخاب سابقًا ومنذ نشأة البرلمان إلا لرجال يدفعون حدًا أدني من الضرائب السنوية، خفضت الحكومة النمساوية هذا الحد الأدني للنصف علي نحو مفاجئ، وذلك بمباركة القيصر وتأثير صادم علي قطاع من السكان قد يكون صغيرًا ولكن له وزن، لأن عواقب هذا القرار واضحة حتي لمن يجهل أمور السياسة:‬ عدد أكبر من الناخبين يعني عددًا أكبر من التشيكيين. هذا ما حدث اليوم سريعًا، انتصر التشيكيون علي الألمان في مجلس الولاية، يمتلكون أغلبية ساحقة، لأول مرة وفي الأغلب إلي الأبد. من يجرؤ علي التشكيك في قانون الانتخاب الجديد؟ حتي أصحاب الأملاك الكبار ينتخبون غالبًا التشيك، ومعهم الغرف التجارية والعديد من اليهود الأغنياء. تصيب الألمان في الحي التجاري والطريق المحيط بمدينة براغ القديمة الحيرة مما يحدث:‬ حتي جيرانهم الأقرب –سكان منطقة (‬يوزيف شتاد)‬، الغيتو القديم لبراغ– قد انتخبوا التشيك بأغلبية، وتنتشر المزحة الساخرة أن الجزارين اليهود هم من حسموا المسألة، ناس لم يُسمح لها من قبل بالانتخاب.
صحيح أن قلة من سكان براغ تهتم بشؤون مجلس ولاية بوهيميا، وأن قراء الجرائد الأوفياء في أوساط البرجوازية المثقفة للغتين هم فقط علي دراية محدودة بقدرات هذا المجلس، ومدي تأثيره علي الحياة اليومية للتشيك والألمان، ولكنه انتصار رمزي للتشيك، هو الأهم علي الإطلاق حتي هذا الحين، ولذلك يعد »‬تاريخيًّا». للمنهزمين الرؤية نفسها، الصحافة الناطقة بالألمانية تتوخي الحذر، إذ لا تريد إثارة التشيكيين الذين يشاركونهم الحياة في جميع الأحياء، كما لا تريد تحريض المشتركين السنويين في جرائدها. إن جريدة )‬نوية فراية بريسة(‬ من فيينا دون سواها تتحدث صراحة، وهي الوحيدة القادرة علي ذلك، لأنها المنشور المفضل لليبراليين ومنتشرة في أنحاء براغ. هنا يسمع المواطنون في بوهيميا أنهم يخاطرون بتصرفهم الغبي في الانتخابات بسقوط الغرب:‬ ‮»‬‬هل سيصل الأمر حقًا إلي سقوط براغ في النهر السلافي دون أمل في النجاة؟‮« لا وألف لا‮«. قد يختفي النواب الألمان في العاصمة من قاعات المجلس، ولكن الشعب الذي يملأ الشوارع والمنازل سيبقي، إلي أن يأتي اليوم الذي ستنتهي فيه حركة الإصلاح المناهض من قبل السلافيين، وسترجع براغ إلي سابق عهدها كمحور للثقافة الإنسانية الألمانية.
يعد هذا رد فعل قويًّا، حتي بالنسبة للرقابة الحكومية في فيينا التي تقوم بعدها بأيام قليلة بمصادرة الصحيفة. ولكن توضِّح هذه النبرة الحادة وهذا التمرد الشوفيني أن الأهمية التاريخية لهذا اليوم جلية للجميع. كانت دومًا نخبة تمسك بزمام السلطة، ولكن من الآن فصاعدًا ستحكم الأغلبية التي تؤكد النسب علي شرعيتها، وهي تبلغ في براغ 4:1 لصالح التشيكيين، إنه أمر غير قابل للتغيير. ماذا لو طُبِّقَ مبدأ الأغلبية في سائر المملكة؟ سيُلقي باللوم علي أهل ولاية بوهيميا، بأنهم كانوا الحلقة الأضعف في السلسلة التي انقطعت في عاصمتهم في يوم الثالث من يوليو لعام 1883.
لا يلحظ كل البراغيين التحول الذي وقع في مجلس ولاية بوهيميا. تجري أحداث الحياة الحقيقية في مكان آخر، فمن يمت له طفل صغير اسمه )‬أوجوستين(‬ أو )‬آماليا(‬ فستُمحي السياسة لوقت طويل من حياته. ينطبق ذلك علي من يُرزق بمولود جديد أيضًا، فهم أيضًا علي مشارف مرحلة جديدة لا عودة منها إلي الوراء، لا يساوي باقي العالم شيئًا أمام قدوم الدفء الجسدي.
هذا ما يحدث تحديدًا في منزل يقع بجانب كنيسة سانت نيكلاس -‬تقاطع زقاق )‬مايزل جاسة(‬ مع زقاق )‬كاربفن جاسة(‬ – حيث يقطن الزوجان اليهوديان كافكا اللذان مر علي زواجهما عشرة أشهر. إنه ليس عنوانًا مميزًا، مرت أيام أفضل حالاً علي هذا المنزل، حينما كان مقرًا لأسقف دير )‬شتراخوف(‬ الشهير، ولكن لم يبقَ من هذه الفخامة سوي الواجهة الباروكية. صار المبني منذ فترة طويلة مخصصًا للسكن، وأهل الجيرة ليسوا مدعاة فخر علي الإطلاق ولا مؤهلين للتواصل:‬ من ناحية الكنيسة حيث يقيم المتشددون الروس منذ فترة قداسهم الكئيب، ومن ناحية أخري أكثر من حانة مشبوهة وبيوت دعارة تكاد تكون جزءًا من حي )‬يوزيف شتاد(‬، إنه حي مهمل وتدور أقاويل حول قرار هدمه الذي اتُّخذ بالفعل.
من البديهي أن أسرة كافكا لن تبقي هنا طويلاً، لأنه يجب عليهم توفير مصروفاتهم، ذلك لأنهم قد وضعوا كل ما يملكون –والمتمثل بالدرجة الأولي في مهر السيدة جولي– في تجارة جديدة، إنها تجارة خيط وقطن في انتظار الزبائن، مقرها علي بعد خطوات علي الجانب الشمالي من الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة. المالك الحصري لهذه التجارة هو السيد هيرمان ذو الثلاثين عامًا، ولكن علي زوجته الأصغر منه بثلاث سنوات أن تساعده طوال اليوم، وإلا فلن يكتب لهذه التجارة النجاح. لا يبقي للاثنين وقت كبير، حتي شهر العسل كان محرمًا عليهما، ليبقيا في براغ ولا يفوتا فرصة. ولذلك فإن الحمل أيضًا ليس مناسبًا للتجارة الجديدة، ناهيك بالمرضعة وجليسة الأطفال اللتين أصبحتا مطلوبتين من الآن.
ولكنه صبي، في عالم بنظام أبوي -‬ولا يعرف هيرمان وجولي سواه-‬ يمثل الطفل الذكر ضمانًا للمستقبل. إنه الحلقة القادمة في سلسلة الأجيال التي تدعم الفرد، وتمنح أعماله معني يتخطي الزمن. كانت رغبة آل كافكا حتي هذه اللحظة تنحصر في الصعود الاجتماعي، أما الآن فيشعرون بأن هذا الهدف قد تخطي حدود وجودهم الدنيوي، وصار غير قابل للطعن. قبل أن يخطو أولي خطواته يمثل المولود »‬إرثًا»، ليس فقط في عيون والديه. تغير الوضع الاجتماعي لآل كافكا وسط الأقارب والموظفين والزبائن بين ليلة وضحاها، إنها أشبة بترقية وأكثر من ذلك، لأن الوضع الجديد غير قابل للتغيير –باستثناء الموت. ولكن لا يرغب أحد في التفكير في ذلك الآن، الصغير ‮»‬‬طفل رقيق ولكنه بصحة جيدة‮« وفقًا لما ستدونه أمه لاحقًا، سينجو وسيكون الإرث الذي نُضحي من أجله والذي ندين له بانتمائنا بوصفه جزءًا من الكل الكبير. ولذلك فإن تسميته علي اسم قيصرنا أمر مناسب تمامًا. نعم سيحمل اسم فرانز.
لن تتطور الأمور كما حلم آل كافكا، سيعرف العالم ذلك بعد مائة عام ستمضي. ستُعلق علي سكنهما الأول لوحة تذكارية لا تشير إلي تاجر ناجح، بل إلي أديب. تعاقب الأجيال الذي يضفي علي الأسرة الشباب من جديد، ومُرسخ في هذه الدنيا ترسيخًا حيويًا، هذا التعاقب سيظهر مدي ضعفه وفنائه بالقدر نفسه لضعف وفناء الوجود الفردي المنعزل. ستنقطع مئات الآلاف من هذه الخطوط وسيجري إبادتها بعنف في حياة والدي فرانز كافكا. ولكن هذا التاريخ تحديدًا –الثالث من يوليو عام 1883- الذي صار للكثير من البراغيين يومًا لخيبة الآمال إلي الأبد، وصار لآل كافكا يوم الفخر والسعادة – هذا التاريخ تحديدًا سيكتسب بعدًا جديدًا ومختلفًا تمامًا.
يقضي القيصر (‬فرانز يوزيف الأول)‬ –البالغ من العمر اثنين وخمسين عامًا وصاحب اسم كافكا– هذا اليوم في حالة مزاجية هادئة. يبقي في جراتس، ثم يقيم برنامج الزيارة المعهود:‬ القداس في الكاتدرائية، افتتاح معرض عن الثقافة المحلية، زيارة لمقر المطافئ وللمستشفي العسكري، استقبال لوفود ونبلاء ومآدب عشاء طويلة. يتخلل ذلك قراءة البرقيات الواردة، بعضها من براغ، حيث يحقق التشيكيون أخيرًا –وكما كان متوقعًا-‬ رغبتهم. ولكن سريعًا ما تغلب علي هذا الخبر المزعج صيحات التبجيل الصادرة من شعب جراتس الذي جاء في كامل عدده، وكذلك المهام المفرحة التي تبهج القيصر. منها علي سبيل المثال زيارة القناصة في مدينة (‬شتايرمارك)‬ النمساوية. إنهم أوفي الأوفياء وليست المرة الأولي التي يزورهم فيها القيصر في مقر القناصة المحلي الذي زُيِنَ بالزهور والأعلام. يأخذ الحماس هؤلاء القناصة فيطلقون العديد من طلقات التحية التي تخيف فرس الحنطور الملكي، فيضطر (‬فرانز يوزيف)‬ إلي ممارسة سلطاته في نهيهم عن ذلك. ولكنه استقبال حافل أمام منصة التنشين، حضرت السيدات بالزي الرسمي وفتيات جميلات يقدمن الورود. لا يكتفي القناصة بسماع كلمات الإطراء من سيدهم، لا، يجب علي القيصر المحاولة بنفسه وافتتاح الحفل العام للقناصة. يُقاد في شكل رسمي إلي العلب التي جري تحضيرها سابقًا ويترقب المتفرجون الأحداث في شغف. ينشن القيصر مرتين علي القرص الدائر وينجح مرة في قذف الحلقات، إنه »‬البريمو». دويٌ قويٌ للطلقات لتعرف المدينة بأكملها، ثم هتاف لجموع تخطت الأشخاص الألف، هتاف بلا نهاية.
بداية العرض
إن المركز القديم لمدينة براغ يشبه المسرح:‬ ساحة شاسعة تكاد تغطي هكتارًا، يمكن الدخول إليها من عدة جوانب، ولكنها منظمة بعناية لتمنح شعورًا بمكان له حدود، كذلك له معني رمزي علي مستوي أعلي. يطلق علي هذه المنطقة اسم الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة، إنها نقطة التقاء تتكثف فيها طاقات اجتماعية لإقليم كامل.
مع بدايات العصر الحديث كان السكن في الصف الأول علي »‬الطريق الدائري» أشبه بامتياز برجوازي. بينما فقدت براغ دورها في أحداث العالم وصارت بوهيميا لعبة في أيدي أسر حاكمة غريبة، ظل الطريق الدائري ساحة كبيرة للاستعراض الاجتماعي. كانت السوق تعقد هناك، وكذلك تبرم الصفقات وتعقد المفاوضات السياسية، إنه مكان للظهور ورؤية الآخرين، وبما أن اللغات واللهجات الأجنبية تملأ المكان فإن هذه فرصة لإثبات العالمية التي ستعوض فقدان المدينة لمكانتها. كان البراغيون يعرفون السمعة الطيبة التي يتمتع بها الطريق الدائري بمبانيه الفاخرة في أوروبا، وتعودوا علي رؤية القادمين من بعيد لتأمل المعجزة الخلابة للساعة الفلكية الضخمة في مبني البلدية القديم. طُبِعَ وسط أحداث حرب الثلاثين عامًا دليل للسفر يلفت انتباه القارئ في عبارته الأولي إلي النقطة الحاسمة:‬ ‮»‬‬يقع الجزء القديم من مدينة براغ علي الجانب الأيمن من نهر (‬المولداو)‬، علي مستوي الوادي، ويمكن رؤية العديد من المباني الرائعة، منها مبني البلدية بشكل خاص الذي له برج عالٍ، وبه ساعة مصنوعة بفن لا نجد مثيلاً لها في العالم بأكمله.. »‬لحظة نشر هذه السطور كان عمر الساعة قد تخطي مائتي عام، وفي هذا الزمن العتيق حينما تحركت عقاربها الطويلة كانت براغ مقرًا للقيصر».
بالرجوع إلي تاريخ براغ يتضح أن الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة كثيرًا ما كان يشبه مسرحًا اجتماعيًا بالمعني الحرفي. عبرت المواكب الساحة، كما ألقيت خطب سياسية، كان بعضها مديحًا وبعضها هجاءً. أقيمت النصب التذكارية والمظاهرات، إعلانات وتصفيق. من تولي الحكم في براغ كان يستعرض نفسه في هذا المكان، ظل هذا الوضع حتي في القرن العشرين، علي الرغم من أن ساحة التجول الحيوية الواقعة عند (‬فينسلس بلاتس)‬ قد سرقت الأضواء من المركز القديم وجعلته مجرد معلم أثري. جري في فبراير عام 1948 في كواليس منطقة البلدة القديمة الاحتفال ببداية الحكم الأوحد للشيوعية – واتضح لاحقًا أنها لم تكن فكرة موفقة علي الإطلاق. إذ ضرب الانقلابيون بألمٍ الوترَ الحساسَ للذاكرة الجمعية التي انطبع فيها مشهد أكثر عنفًا، مشهد مر عليه أكثر من ثلاثة قرون ويعرفه أي طالب ثانوي تشيكي معرفة دقيقة. طُبق نظام حكم جديد، نُفِّذَ في مركز المدينة القديمة بمشاهد عامة للتعذيب والشنق والقتل بسيف الجلاد.
سادت ليلة الحادي والعشرين من يونيو لعام 1621 في منطقة البلدة القديمة لبراغ أجواء الاضطراب الذي يشوبه الرعب. عجز الجميع عن الاستسلام للنوم، همسات وصلوات جماعية، مراجعة لمغاليق الأبواب وإنصات لأصوات جبارة في الخارج تعلن عن ويلات اليوم التالي. لقد فرض الأسياد الجدد الذين يعملون في خدمة الأسرة الحاكمة الهابسبورجية حظرًا للتجوال. يمشط المئات من المسلحين بالشعلات والأسلحة الشوارع للقضاء علي أي مواطن يقع تحت أيديهم. أضاءت شعلات عديدة مركز المدينة القديم أيضًا، وارتعش سكانها لساعات من ضرب مطارق النجارين الذين أقاموا أمام مبني البلدية خشبة مسرح ارتفاعها متران ونصف، وتبلغ مساحتها ثلاثمائة متر مربع. يطلق علي هذا النوع من البناء »‬هيكل الدم»، لقد أُعلن بوضوح لسكان براغ المفزوعين عن طبيعة العرض الذي سيقام هنا بعد ساعات قليلة.
لقد غامروا بانتفاضة وخسروا، كانت وقفة سياسية ودينية في آن واحد، حاولوا من خلالها الهروب من قبضة السيادة المتزايدة للهابسبورج الكاثوليك، إنها وقفة للطبقات البوهيمية ضد الحكم الاستبدادي المتشكل. لم يتفق كل من النبلاء ورجال الدين البروتستانت والمواطنين علي حدود هذه المقاومة، ولكن قرر الزعماء البراغيون في مايو 1618 هدم جميع الجسور من خلفهم واستفزاز حرب مفتوحة:‬ لقد ألقوا من قلعة في براغ باثنين من الولاة الكاثوليكيين والموظفين التابعين لهما من النافذة، وأطلقوا خلفهم الرصاص. هذه الفعلة -‬التي كانت مخططًا لها ولم تكن عفوية علي الإطلاق-‬ أثارت كمسرحية هزلية سخرية أوروبا بأكملها، خاصة وأن الضحايا الثلاث نجوا بجراح، ولكن اتضح في العام التالي أن طبقات البوهيمية وحلفاءهم في مورافيا وسيليزيا كانوا جادين فيما يفعلون، وأنهم أرادوا زعزعة أصول التراكيب السلطوية في أوروبا:‬ أطاحوا بالملك الهابسبورجي (‬فرديناند الثاني)‬ من علي عرش ملك بوهيميا، وذلك قبل أيام من تنصيبه قيصرَ، وعينوا بدلاً منه أميرًا ناخبًا من مقاطعة بالاتينات علي عرش براغ، إنه منتمٍ للكالفينية ويطلق علي نفسه لقب ‮»‬‬الفارس الصليبي للبروتستانتية‮«.
إن الإجراءات الدبلوماسية والعسكرية المعقدة التي تلت هذه الأحداث صارت مرارًا مادة للعلوم المبسطة، وتعد جزءًا حيويًّا من المعرفة التاريخية المتخصصة. ولكن ظلت في الذاكرة العامة حادثة السقوط من النافذة في براغ شرارة الانطلاق لحريق شاسع دمر أجزاءً كبيرة من وسط أوروبا وأباد شعوبها. انحفر الحدث المثير في الذاكرة الجمعية، وعاني منه المتمردون في سياق النهاية الحاسمة في نوفمبر لعام 1620. لم تدم ‮»‬‬مذبحة الجبل الأبيض‮« أكثر من ساعتين، في مشهد علي بُعد كيلومترات قليلة من مركز براغ، انتهت بهزيمة مدمرة لمجموعات المتمردين البوهيميين، التي لم تكن في وضع مؤهل للحرب، وكذلك بالهروب المفاجئ للملك )‬فريدريش فون دير بفالس(‬، الذي تولي العرش كبديل كالفيني ودخل تاريخ براغ باللقب الساخر )‬ملك الشتاء(‬، وانتهت أيضًا بالانتصار الشامل للتحالف الكاثوليكي. كانت ‮»‬‬مذبحة الجبل الأبيض‮« وفقًا للتأريخ التشيكي بمنزلة البداية لعصر من الظلام )‬يطلق عليه تيمنو باللغة التشيكية(‬ دام لثلاثة عقود، إنه العهد الكاثوليكي لأسرة الهابسبورج، التي لم تضمن لنفسها السيادة المطلقة في بوهيميا فحسب، بل ضربت في الوقت نفسه مثالاً دمويًا.
لم تكن حقًا الهزيمة العسكرية التي تم تفسيرها لاحقًا علي أنها جرح قومي وجعلت أجيالاً عديدة قادمة تكبر بقناعة أن هناك ثأرًا قديمًا من »‬أهل فيينا»، بل كانت الاستراتيجية القاتلة للمنتصرين، ألا وهي وأد أي تفكير في تمرد جديد من خلال أكبر إذلال ممكن. لم يكتفِ )‬فرديناند الثاني(‬ بحرمان العديد من النبلاء البروتستانتيين -‬من اشتبه في مشاركتهم في الأحداث-‬ من أملاكهم وطردهم من البلاد، بل أجبرهم أيضًا علي تسليم أنفسهم حتي يفلتوا من أيدي الجلاد. تأثر أيضًا رجال الدين غير الكاثوليكيين بشدة، إذ لم يهتم النظام الجديد كثيرًا بالتفرقة بين مؤيدي لوثر المعتدلين والمتشددين الكالفينيين أو الهوسيين أو المنتمين إلي حركة الأنابابتيست. لم يكتفِ )‬فرديناند(‬ بتجاهل »‬الخطاب الملكي» الذي أصدره القيصر )‬رودولف الثاني(‬ قبلها بعقد، والذي كان البروتستانتيون يشيرون إليه في غضب، لأنه كان يضمن لهم الممارسة الحرة لدينهم، بل قام أيضًا بتقطيعه بختمه القيصري. لم تنتهِ المسألة عند المعاقبة القانونية للمتمردين الذين أمسك بهم، بل نصب في براغ محكمة خاصة دهست القانون البوهيمي وأخضعت نفسها للتعليمات السياسية الصادرة من فيينا. ثم دبر لموت مفجع للغاية للمتهمين الذين سُلبوا جميع حقوقهم، وزرع من خلال ذلك كرهًا ضد الهابسبورج دام لأجيال لاحقة، حتي في نفوس هؤلاء المواطنين غير المسيسين الذين لا يؤمنون بالتمرد ويفضلون ترتيب أمورهم مع طبقة الأسياد الجديدة.
سبعة وعشرون متهمًا محكومًا عليهم بالإعدام، شاب شعرهم وسجن معظمهم في قلعة براغ، نقلوا إلي ساحة مبني البلدية في الحي القديم ليكونوا جاهزين مع بداية العرض:‬ ثلاثة منهم ينتمون إلي طبقة الأسياد، سبعة من الفرسان وسبعة عشر مواطنًا، من بينهم الشخص الأشهر، ألا وهو رئيس جامعة براغ الدكتور )‬يان يسانيوس، ياسانسكي باللغة التشيكية(‬. حينما أشرق النهار كان مسرح الدم هذا منصوبًا ومزينًا بالقماش الأسود في مشهد كئيب، كما اقترب أول المشاهدين من مكان الحدث. انطلق دوي ضرب المدفع من القلعة كإشارة لبداية المشهد الأول. اتخذ القضاة المفوضون من فيينا لهذه القضية العامة أماكنهم، وإلي جانبهم قائدو الجيوش الكاثوليكية، من بينهم )‬ألبرشت فون فالدشتاين، أو فالنشتاين(‬. منفذ الإعدام المؤهل طبيب له اسم ظل في الذاكرة أيضًا، صعد )‬يان ميدلر(‬ إلي خشبة المسرح وتبعه بعض المساعدين الملثمين الذين حملوا السيوف الحادة. ثم جري اقتياد المتهم الأول وصاحب المستوي الاجتماعي الأعلي –مرفوع القامة ودون قيود– إنه )‬يواخيم أندرياس جراف فون شليك(‬، أحد المسؤولين عن حادثة السقوط من النافذة في براغ. اشتكي )‬شليك(‬ في الليلة السابقة من إلحاح رجل دين جيزويتي، يحاول في هذه اللحظة للمرة الأخيرة إقناعه بالتراجع، ولكن دون جدوي. قام منفذ الإعدام بباقي المهمة، حَوَّلَ بضربتين للسيف جسد الكونت المنحني إلي قطع لحم مهتكة وميتة، الرأس أولاً ثم اليد اليمني. يحمل المساعدون جثة القتيل في ملاءات إلي مكان آخر.
واحدٌ تلو الآخر، طيلة أربع ساعات، برتابة مفزعة. نتعجب اليوم بأنه لا يوجد تقرير وحيد من شهود العيان يشير إلي التناقض الجلي بين هذه المذبحة البدائية التي جرت أحداثها علي الجانب الشرقي من ساحة مبني البلدية في الحي القديم من ناحية، ومن ناحية أخري هذه التحفة الفنية والهندسية الدقيقة –الساعة الفلكية– التي وقعت علي الجانب الجنوبي علي بعد خطوات من هذا الحدث. كما يصعب اليوم تقدير أعداد المشاهدين لهذا الحدث الدموي، ومن بينهم ذوو الضحايا العديدون. كما لا نعرف شيئًا عن طبيعة رد فعل الجموع، إن كانت حزنًا أم سخطًا. ولكن اتخذت الإجراءات الضرورية حتي لا يجرؤ شخص علي التفكير في تخريب طقس العقاب. ذلك لأن الهدف لم يكن مجرد ضرب المدينة في مقتل، بل أيضًا ضرب الأعداء المتبقين في جميع أنحاء أوروبا، الذين كان يجب أن تصيبهم الصدمة من هذا المشهد. تم تأمين خشبة المسرح بمساحتها الشاسعة بواسطة كوردون من الفرسان المسلحين وجنود المشاه الذين وقفوا بأسلوب مثير للذعر في مربعات. لم يكن هناك فرصة لسماع الصيحات الهجائية أو الكلمات الأخيرة للمحكوم عليهم من قوة صوت المطبلين العديدين، الذين تم وضعهم علي الطريق الدائري وظلوا لساعات دون انقطاع يحدثون ضجيجًا رهيبًا. كان الوضع كأن الأسياد الجدد قد سدوا أفواه البراغيين-‬ وحتي صوت النحيب لم يعد مسموعًا.
لم تتوقف الإهانات عند هذا الحد، تمادي التفكير في تصعيد للرعب الذي لا يجب أن يُنسي سريعًا. كان الحال سيئًا للغاية بالنسبة للمتهم الأكثر تأثيرًا:‬ الطبيب )‬يسانيوس(‬، صاحب الثقافة الإنسانية والنشاط السياسي، قُطع لسانه قبل رأسه وقُطعت جثته إلي أربع أمام الجميع. وقع ثلاثة من المتهمين تحت وطأة عذاب أطول وقتًا، إذ لم ينتهِ بهم الأمر علي مسرح الدم، بل ظلوا معلقين في حالة خنق بطيئة بحبل المشنقة. وأخيرًا وُضعت اثنا عشر من الرؤوس المقطوعة علي ثلمات برج الجسر الملكي القديم )‬وهو تقليد لما يتبعه الإنجليز(‬. ظلوا علي هذا الحال طوال عشر سنوات علي مرأي البراغيين الذين اضطروا إلي شرح الأحداث لأولادهم. وانتهي الدرس عند هذا الحد.
ليس أمرًا جديدًا تاريخيًا أن الهزائم المدمرة تشكل الوعي الجمعي لفترة طويلة، ولعب ذلك مؤخرًا دورًا حيويًا في تاريخ اليهودية والصهيونية الحديثة. نجد مثالاً مؤثرًا في الأساطير التي دارت حول اليهودي )‬شمعون بار كوخبا)، »‬ابن الكوكب»‬، الذي أطلق في عام 132 انتفاضة في فلسطين ضد قوي الاحتلال الروماني. علي الرغم من أن هذه العملية قد انتهت بكارثة وأودت بحياة نصف مليون يهودي وهو منهم، إلا أن بار كوخبا صار بعد أكثر من مرور 1800 عام رمزًا للمقاومة اليهودية وضامنًا للهوية القومية اليهودية. يبدو أن السؤال حول المنطق التاريخي يُغفل في هذا السياق بشكل كبير:‬ ما يهم هو الملمح البطولي الذي يبدو من بعيد كأنه لم يتغير، وكذلك ينشأ من وحي هذه القصص شعور بالانتماء إلي الجماعة غير مرتبط بالزمن، كيان علي الجانب الآخر من التاريخ. لهذا السبب فإن طرح السؤال حول علاقة هؤلاء الشخصيات البطولية بنا »‬نحن» تحديدًا تأخذنا بعيدًا عما هو جوهري:‬ الشعب له صفة الأبدية.
للأسئلة التي تدور حول الحقيقة التاريخية لما هو منقول التأثير المحدود نفسه. شبه مستحيل أن تسير الخطوط الفاصلة للتاريخ باستقامة ووضوح مثلما تريدها الأساطير اللاحقة، أو التي تأتي بعدها بزمن طويل. إن دوافع وأهداف )‬بار كوخبا(‬ كشخصية تاريخية ليست معروفة علي الإطلاق، ولا تسمح الأدلة الضئيلة إلا بمجرد توقع أن إيحاءً دينيًا )‬ذاتيًا(‬ تحول إلي عملية انتحارية بلا معني سياسي. ولكن تريد الأسطورة أن هؤلاء البشر قد حاربوا »‬من أجلنا»، وأن ما يترتب علي ذلك مكانة لأعمالهم عبر كل الأزمنة:‬ كمعيار أخلاقي، بل أيضًا كإلزام لنا في كل تصرفاتنا. يستغل محترفو سياسة تشكيل الهوية هذا الضغط الأخلاقي منذ مطلع القرن التاسع عشر، يحول كل من تأنيب الضمير والخوف من الإقصاء دون الوصول إلي الحقيقة عبر كل هذه التبسيطات والتصنيفات التاريخية، بل والزيف التاريخي.
إن مذبحة الجبل الأبيض في براغ والانتقام المعلن للمنتصرين يقدم في سياق جميع الهزائم مثالاً كاشفًا ومركبًا، نشأت علي أساسه أساطير شكلت الهوية –إنه حادث تاريخي بالغ التعقيد ويبدو أنه غير قابل للنقل دون تبسيطات عنيفة. مما هو غير قابل للخلاف أن مصير كل من بوهيميا ومورافيا قد تقرر عند الجبل الأبيض، وأن الفترة المقبلة ستثبت أنه كان قرارًا دام مفعوله لقرون قادمة. ولكن ما الخلاف الذي أشعل الصراع، وما الأهداف والمبادئ التي كانت محل هذا الصراع؟ يزعم الهابسبورجيون أنها كانت الشرعية، بينما يتحدث المتمردون عن حرية العقيدة الدينية. اقتنع القوميون التشيكيون في زمن لاحق أن الأمر كان متعلقًا بالتحرر من السطوة الألمانية.
إنه صراع للتفسيرات، كان منذ البداية مرتبطًا بالمصالح بالطبع، إذ وجب علي القيصر )‬فرديناند الثاني(‬ السماح بوجود بعض الأمراء البروتستانتيين وسعي لذلك دومًا إلي مواجهة الرأي العام، الذي كان يري أنه يقود حربًا دينية ضد براغ، لدرجة أنه أمر -‬لمواجهة هذا الانطباع– بإعدام كاثوليكي علي الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة، فضلاً عن أن انتماء الجلاد إلي البروتستانتية لم يكن أمرًا مزعجًا أيضًا. أما المتمردون فقد فضلوا الحديث عن الدين والإصرار علي أن عقيدتهم البروتستانتية لا يجب أن تعود عليهم بالضرر الاجتماعي أو المادي. رفضوا بشدة الشبهة التي دارت حولهم وحول حلفائهم الأقوياء بأنهم ضد أي قيصر قوي وأنهم لا يهتمون إلا بتعزيز سلطتهم. وظفت عملية كتابة التاريخ التشيكية في القرن التاسع عشر هذه الأحداث لصالح أيديولوجيتها القومية الخاصة بها. كان كل ما يهم الهابسبورجيين بموجبها في بوهيميا هو هيمنة ‮»‬‬الطابع الألماني‮«، ألم يقوموا بعد سنوات من انتصارهم -‬علي الرغم من الأغلبية التشيكية-‬ بتعيين »‬الألمان» في كل الوظائف الحيوية إداريًا؟ ألم يقرروا في الدستور الجديد أن اللغة الألمانية تتساوي مع اللغة التشيكية؟
إنها من المنعطفات الساخرة الكثيرة في تاريخ بوهيميا أن هذا التفسير الثالث تحديدًا –الذي يعد الأضعف والأقل اتساقًا مع الحقائق التاريخية– هو الذي فرض نفسه، وأن المعدمين عند الطريق الدائري المطوق بالبلدة القديمة )‬والذي كان ثلثهم علي الأقل من المتحدثين باللغة الألمانية(‬ لم يظلوا في الذاكرة الجمعية كأول المناضلين من أجل حريات المواطن أو كضحايا للاضطهاد الديني، بل كشهداء قوميين. صار الجبل الأبيض، الذي كان نقطة البداية لانتشار »‬الظلام» في البلاد، مزارًا للقوميين التشيك، كما أقيم هناك نصبٌ تذكاريٌ بعد سقوط الحكم الهابسبورجي الذي جلب للتشيكيين التحرر القومي. احتفل الهابسبورجيون من خلال عمود ماريا الضخم عند الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة بإعادة البلاد –بعنف ونجاح-‬ إلي قبضة الكاثوليكية. دُمِرَ العمود بعد الحرب العالمية الأولي علي أيدي متظاهرين تشيك كانوا قد تحمسوا للفكرة في أثناء وجودهم عند الجبل الأبيض. تشير حتي اليوم علامات في الرصيف عند الطريق الدائري إلي موقع حدث إراقة دماء الضحايا عام 1621.
تتميز براغ بهذا العدد الكبير من العلامات التاريخية التي تغطي المدينة مثل شبكة. في القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين -‬حينما كانت براغ لا تساوي إلا مركزها القديم-‬ كان هذا الملمح التاريخي الحاضر والبارز، بل أيضًا هذا الهوس التاريخي يشكل إحساس الطبقة البرجوازية المثقفة بالحياة. هذه ذكريات )‬يوهانس أورزيديل):‬ ‬نادي كل منزل وكل زقاق وكل ميدان في براغ علي التاريخ بأكمله:‬ »‬لا تنسَ هذا، ولا تنسَ ذاك!‬»، فنسينا من كثرة التذكرة والرغبة في الانتقام حياتنا في الحاضر. ‮»‬كان شعورًا ضاغطًا بالسجن داخل شبكة عنكبوت من الصراعات التاريخية والمسؤوليات، والاضطرار مع البقاء في هذا المكان إلي عزل الحياة الخاصة بعيدًا عن تأثيرات الماضي التي لا تتوقف. عزز من هذا الشعور مظهر مدينة براغ القديمة، حيث بدت الطرازات الأساسية لعصور مختلفة علي مساحة ضئيلة، بل تداخلت ولم يكن نادرًا أن يجري هذا التداخل في شكل وواجهة البناية نفسها. كان الوضع يشبه الحياة فوق طبقات متراكمة لعشرات من الأجيال الراحلة، التي تسيطر أقدارها وآلامها وإنجازاتها علي التفكير. ليست فقط مناهج التعليم في المدرسة والجامعة، بل كان الخطاب الرسمي بكامله يتناول باستمرار ما حدث، ولكن ليس من منطلق مشاركة متفهمة ومستمتعة عن بعد، بل كإنذار أن القصة لم تنتهِ بعد وأن المحاسبة لم يأتِ دورها بعد. من كانت نشأته في منطقة البلدة القديمة لبراغ –لم يكن الأمر مختلفًا كثيرًا في منطقة »‬البلدة الحديثة» المجاورة والأكثر ثراءً لكون عمرها يتعدي نصف ألفية أيضًا-‬ من كانت إذن نشأته هنا تعود علي التعايش مع الماضي مثلما يحدث في شقة شخص عجوز:‬ هنا مسموح فقط بمسح الغبار ولكن لا يمكن تحريك شيء من مكانه، ناهيك بالتخلص منه. وصلت المسألة للاستسلام لفكرة أن تماثيل القديسين الشهيرة علي جسر )‬كارلس بروكة(‬ هم السكان الأصليون لبراغ، بينما البشر الأحياء مجرد ضيوف عابرين.
انطبق ذلك علي الألمان أكثر من التشيك بالطبع، وعلي الطبقة البرجوازية أكثر من طبقة العمال. تحولت سريعًا كل من البلدة القديمة والجديدة إلي متاحف مفتوحة، وكان للألمان دور فعال في تحديد معالمها، إذ صار هذا المكان هو مكان الذكري والحاضر والمستقبل بالنسبة لهم. اختلف حال التشيك الذين وجدوا من خلال الضواحي النامية سريعًا والأحياء الصناعية فرصًا للتصحيح حَفَظَتهم من التشبث بالماضي. قبل بداية القرن العشرين كان هناك الآلاف من التشيكيين في براغ الذين يشعرون بأنهم زوار أكثر منهم سكانًا في مركز المدينة، زوار لمتحف مقتنياته من تاريخ يخصهم، ولكن علاقته ضعيفة بالحياة الحديثة ذات النمط السريع والصناعي. لم تغير المقاهي التشيكية ودور العرض السينمائية ولافتات الشوارع شيئًا من هذا الواقع. لم يكن لدي أي مواطن براغي شك في أن مستقبل هذه المدينة سيكون مستقبلاً تشيكيًا. صحيح أن هذا المستقبل التشيكي سيحتفظ بجذوره التاريخية في البلدة القديمة، ولكن ساحة عرضه ستكون في مكان مختلف.
سكنت براغ إذًا مجموعتان لا تتحدثان لغتين مختلفتين فحسب، بل تعيشان في نظم برموز مختلفة:‬ إنها نظم تجلت في الصورة المعمارية للمدينة ويمكن الشعور بها بحسية أعلي إن وضعنا الدليل السياحي جانبًا ومررنا من حي )‬كلاين زايتة(‬ البراغي بقصره الباروكي -‬الذي التزم بالأسلوب المعماري لمنتصري عام 1620- ووصلنا إلي المنطقة الصناعية )‬سميخوف(‬، أو من الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة إلي ثكنات الشقق المؤجرة في )‬شيشكوف(‬، التي يسكنها التشيكيون ولا تستحق الزيارة حقًا. يسود المنطقة هناك حاضر بلا تاريخ، يصيبها التوتر من أجواء انتفاضية تشتعل باستمرار وكذلك خيالات مكثفة حول المستقبل. ربما تكون براغ قد انحدر بها الحال فعلاً من مدينة ملكية في الماضي إلي مركز محلي. ولكن لا يشعر أحد بهذه السمة المحلية غير الألمان، إذ يتذكرون دومًا أمجاد الماضي والاعتماد علي فيينا، هذا هو حالهم بينما يواصل البراغيون التشيك حياتهم في مركز الاستيطان التشيكي ومركز الثقافة التشيكية. كان حالهم معًا كأن أحدهما يحتل المنابع، بينما يتبقي للآخر المياه التي قد تلفت الأنظار ولكنها في حالة ركود وتعفن.
‮»‬‬هذا المنزل يكره ويحب ويعاقب ويحمي ويمجد... النذالة والسلام والإجرام والحق والبلاغة‮«.
إنه شعار غريب زَيَّن مدخل مبني البلدية في الحي القديم حتي بداية القرن الثامن عشر، عبارة تشاكسك نحويًا عند قراءتها، ولكن تصير مفهومة بعد القراءة الثانية. ولكنه شعار مناسب تمامًا، لأن التقاء السلام بالجريمة والحق هو واقع براغ منذ زمن بعيد. وقعت المدينة تحت وطأة جروحها التي لم تلتئم علي نحو صحيح، بعكس فيينا بدا أن المسافرين لم يجدوا هنا سعادة »‬الراحة» الصافية، وذلك علي الرغم من الأزقة الضيقة والحانات العديدة ومرتاديها المثيرين للدهشة. تنتشر بدلاً من ذلك في القرن التاسع عشر صورة عن براغ كئيبة وساحرة. إنها في الأصل صورة من اختراع القطاع السياحي ولكنها في جوهرها تجربة حقيقية ظلت حتي يومنا هذا، ذلك لأن حضور التاريخ في بعض أركان هذه المدينة يصل إلي حد الغموض، لهذه الدرجة تجاور الماضي والحاضر، الموت والحياة.
صحيح أن هذا الفولكلور عن المدينة الذي شارك في صناعته كتب الإرشاد السياحي والأدباء والمخرجون السينمائيون لم يقدم سوي صورة مشوهة، بالفعل لم تكن براغ القديمة قبل الحروب العالمية متحفًا ولا مزارًا تاريخيًا. ما يراه السياح كباقة غامضة من الرموز والشعارات المنقوشة علي الأبنية والأساليب المعمارية، لا يعتبره سكان المدينة سحرًا، بل خطوطًا لصراعات مستمرة، حتي مع ظروف عاصمة تتطور سريعًا. كان كل ذلك بالنسبة للمواطن البراغي أشبه بندبات تذكره بأنه يعيش داخل منطقة صراع عمرانية، ما يطل برأسه من ماضي هذه المدينة ليس أشباحًا ولا عبارات سحر، بل صراعات اجتماعية وأخلاقية وقومية ودينية، يصاحبها خطاب تحريضي مضمونه أن تصفية الحسابات لم يجرِ بعد.
إنها الأقلية اليهودية علي وجه الخصوص التي كانت تعي الفارق الدقيق بين التجربة التاريخية والأساطير المنسوجة حول المدينة. لعب اليهود علي مدار الزمان دورًا حيويًا في التنمية الاقتصادية لمدينة براغ، كانت لهم لعقود سيادة في المنطقة المخصصة لهم في غيتو إلي جانب منطقة البلدة القديمة المسيحية، وكانت لهذه السيادة أبعاد تفوق الشؤون الدينية والثقافية. حتي القضاء البراغي لم يكن له أي سلطة في هذا المكان. قابلت هذه الامتيازات مجموعة من الإجراءات الجبرية الجماعية التي كان من شأنها إرهاب اليهود علي مدار ألفية كاملة بسبب عدم ممارستها بانتظام:‬ ضرائب استثنائية، المنع من الزواج أو ممارسة وظائف محددة، تحديد للإقامة وإجبار علي »‬تغيير الدين»، ترحيل وأعمال نهب منظمة. بدا الغيتو لشخص غريب كأنه منظومة كبيرة تعاني، ولكنها تملك قوي خفية يتعذر معها استئصالها، وتتعافي سريعًا من جروح عميقة. تعرض اليهود للاحتقار وكانوا مصدرًا للخوف، ولكنهم كانوا مطلوبين، ولذلك بات من الصعب الهجوم حسب الأهواء علي مجتمعهم المغلق داخل المدينة، دون الإضرار الاقتصادي ببراغ، بل وأيضًا بالمنطقة بأكملها. الإمبراطورة )‬ماريا تيريزا(‬ التي كانت تحلم ببوهيميا خالية من اليهود اضطرت في نهاية الأمر إلي قبول هذا الوضع، وسحب أمر الترحيل الصارم الذي أصدرته في عام 1744 بعد سنوات قليلة، فضلاً عن اضطرارها إلي منح اليهود حريات اقتصادية أكبر.
حتي إن حاولت الدعاية المسيحية المناهضة للسامية إخفاء ذلك:‬ توجيه اللوم إلي اليهود لم يكن سببه »‬عدم إيمانهم» أو براعتهم في التجارة أو تبنيهم أي ممارسات سحرية، بل يرجع الأمر إلي حقيقة أنهم لم يسمحوا قط بدمجهم في الهرم الاجتماعي بسلاسة، وأنهم كانوا أصحاب قرارات مستقلة في الساحة السياسية. سعوا دومًا إلي الاقتراب من أصحاب السلطان الذين وعدوهم بأكبر قدر من الضمانات القانونية – هل كان أمامهم خيار آخر؟ ولكنهم ظلوا لهذا السبب تحديدًا محل اتهام عام بالخيانة لا ينتهي أبدًا. كلما اقترب الأعداء من بوابات المدينة كانت تصرفات اليهود تخضع للمراقبة الدقيقة، وأي إشارة للتفاهم مع العدو كانت سببًا لأعمال قمع شاملة، مثال ما حدث في عام 1744. كانت )‬ماريا تيريزا(‬ علي قناعة بأن حالة من التفاهم الجيد نشأت بين يهود براغ والمحتلين الفرنسيين والبروسيين:‬ هم إذًا انتهازيون وخونة لا يفكرون إلا في مصلحتهم الخاصة.
في واقع الأمر ما حدث أن اليهود وجدوا أنفسهم بين شقي الرحي لصراع دائر حول الخلافة، كان صراعًا لا يخصهم مطلقًا وطُلِبَ منهم إبداء ولائهم لنظام سلبهم قبلها بوقت بسيط العديد من الحقوق الأساسية. كانت سياسة التدخل البيولوجي التي انتهجها الهابسبورج أكثر سوءًا، إذ تدخلوا بشكل صارخ في تنظيم الأسرة اليهودي. لم يسمح »‬قانون الأسرة» الذي أصدره )‬شارل السادس(‬، والد )‬ماريا تيريزا(‬، في عام 1727 إلا للابن الأكبر بتكوين أسرة، كما أنه جري تجميد أعداد الأسر اليهودية المسموح لها بالبقاء في بوهيميا. وضع هذا القرار الآلاف من الشباب أمام الخيار بين مغادرة البلد وهجرة أسرهم إلي الأبد وبين القبول بالحياة كباعة جائلين بلا أي حقوق. ما كان لقانون بهذه الوحشية أن يستمر لفترة طويلة في ظل أي تأثير بروسي علي بوهيميا، ولكن تحقُق هذا الوضع السياسي كان أشبه بحلم يقظة.
نسي الهابسبورج -‬فيما يبدو– أن اليهود كان لهم قبل قرن مضي دور ليس باليسير في انتصار القيصر النمساوي، ذلك حينما حلت ساعة الصفر البوهيمية وتأججت الأحداث في مذبحة الجبل الأبيض. صَوَّتَ اليهود وقتها –في العام الحاسم 1620- بمنتهي العملية ووفقًا لمعايير الرخاء والأمن القانوني، كان الخيار واضحًا:‬ لصالح الكاثوليك، السبب يرجع إلي العلاقات التجارية المنسقة بأفضل شكل، وأن البلاط الملكي في فيينا كانت أبوابه مفتوحة كجهة للمخاطبة. ماذا كان يمكن للمتمردين البروتستانت أن يقدموه، وماذا كانت نواياهم تجاه اليهود في حالة الانتصار؟ ظلت كل هذه الأمور مبهمة، وإن تذكرنا خطب القيادات الروحية -‬التي كان بعضها يتسم بالعداء الشديد للسامية المتأثر بالطابع اللوثري-‬ فلا مجال لانتظار الخير.
لا مجال للشك إذًا أن )‬ياكوب باسيفي)‬ أغني يهود براغ كان يضمن من خلال سياسة الصفقات -‬المحافظة والمؤثرة عبر الحدود في الوقت نفسه-‬ دعم الغالبية العظمي لسكان الغيتو له، وبمنفيهم الحاخامات. مثل )‬باسيفي)‬ نمط »‬اليهودي التابع للبلاط الملكي»، وكان علي وفاق تام مع حكام هابسبورج مثل )‬رودولف الثاني)‬ و)‬ماتياس)‬ و)‬فرديناند الثاني)‬، وحينما اقترب موعد المواجهة العسكرية الحاسمة بين القيصر والطبقات البوهيمية، كانت قروض )‬باسيفي)‬ الضخمة لا تذهب بالطبع إلي جيرانه علي الطريق المحيط بالبلدة القديمة، بل إلي خصومهم في فيينا، الذين كانوا يحفزون جنودهم بهذه الأموال. صحيح أن تأثير )‬باسيفي)‬ علي نتيجة مذبحة الجبل الأبيض تأثير غير مباشر ولكنه كان ملحوظًا، كما عرف )‬فرديناند الثاني)‬ كيفية رد هذا الجميل:‬ أمر بأن تبتعد الجيوش الكاثوليكية في أثناء عمليات نهبها لبراغ –التي دامت لأسابيع– عن منطقة الغيتو. كان ذلك يعتبر »‬معجزة» سياسية، ظل يهود براغ يحتفلون بهذه المناسبة كل عام. أُعفِيَ )‬باسيفي)‬ من دفع كل الضرائب ويعد أول يهودي شمال جبال الألب يحصل علي لقب النبلاء:‬ تحول اسمه منذ هذا الحين إلي (‬ياكوب باسيفي فون تروينبرج)‬، استغل صلاحياته الجديدة في الحال وشارك من خلال عضويته في »‬اتحاد العملات البوهيمي» في أكبر عملية نصب عملة شهدها العصر الحديث. لم يشوه كل هذا سمعته وسط اليهود علي الإطلاق، لأن (‬باسيفي)‬ كان يغدق الأموال علي الغيتو. فضلاً عن أنه صار بالنسبة للبروتستانت –الفئة الأضعف– شخصية مكروهة، وبشكل خاص بعد عملية الإعدام الجماعي المعلنة التي أذلتهم ذلاً كبيرًا.
بالنظر إلي الخطوط المتشعبة لجبهات الحرب الدينية التي ألمت بمعظم دول أوروبا كان دور يهود براغ مسألة هامشية. كما لم يُنظر إليهم علي أنهم أطراف سياسية، بل الأرجح علي أنهم عامل اضطراب فهم لا يدخلون في حروب ولا يملكون أرضًا ولا يصلحون لأن يكونوا حلفاء أو خصومًا بالمعني السياسي والقانوني. ولكن حتي مع أخذ كل هذا في الاعتبار:‬ أسلوبهم في لعب دور »‬المراقب المشارك» في الصراع الدائر بين الفئات المسيحية، الوقاحة التي حولوا بها يومًا كارثيًا إلي يوم احتفال، وأخيرًا المكاسب التي كانت من نصيبهم علي طاولة المنتصرين – كان كل هذا علي النقيض التام من كل العقوبات المدمرة التي لحقت بالطبقات البروتستانتية. كانت هذه نقطة لا يستهان بها مطلقًا علي قائمة الحسابات المفتوحة، قدمت بذلك الأحداث التي جرت علي أبواب براغ عند الجبل الأبيض في عام 1620 أهم تفسير لهذه الظاهرة العجيبة بعد قرون لاحقة حينما انصهرت الاتجاهات المعادية للألمان واليهود والكاثوليك في بوتقة من الكراهية الدفينة.
تخطت المسألة حجم الهزيمة العسكرية أو السياسية، بل كانت فترة تحول بوهيمية تبدلت فيها الأحوال جذريًا، لأنه بمجرد القضاء علي آخر حركات المقاومة البروتستانتية واستقرار الأوضاع نسبيًا، قرر المنتصرون إعادة تشكيل عنيفة للنظام الاقتصادي لبوهيميا، وتبديل المناصب في قطاع القيادات بالكامل، كانت هذه إجراءات لم تشهدها أوروبا علي مدار نصف ألفية مضت: جري تأميمما يبلغ ثلثي أملاك النبلاء علي الأقل، وكذلك الكثير من الأبنية في مدن بوهيميا ومورافيا، كما أجبر الملاك علي البيع بتعويض بسيط، وفي حال تمسكهم بالبروتستانتية طُردت عائلات الملاك الأصليين بخدمهم ورجال دينهم من البلاد:‬ كانت إجماليًا 35000 أسرة وتخطت الأعداد 15000 شخص. المستفيدون من هذا الإجراء العقابي هم من النبلاء الكاثوليكيين الذين أتاحوا الانتصار بوصفهم ممولين أو قوادًا للجيوش، وصاروا في هذه اللحظة أصحاب أملاك شاسعة، دون مقابل مادي أو مقابل أسعار زهيدة لا تعكس القيمة الفعلية لما حصلوا عليه: (‬فالنشتاين)‬، و(‬ليشتنشتاين)‬ و(‬إجنبرج)‬، و(‬تراوتمانزدورف)‬، و(‬ميترنيش)‬، كانت هذه أسماء الأسياد الجدد. صار لعقارات في المدن بالغة القيمة ملاك جدد، وبعض المنازل الخاوية التي تركها البروتستانت في عجالة ذهبت بموجب قرارات استثنائية إلي أصحاب مصالح من اليهود.
لم يُعوض هذا الفصد بالتأكيد بمجرد منح شهادات ملكية جديدة، تعرضت بوهيميا بأكملها لحالة وهن اجتماعية، فقدت مناطق واسعة سكانها، وكان هناك عجز شديد في الحرفيين والتجار، تعرضت حقول وغابات للإهمال. أما الحرب المستمرة علي الصعيد الأوروبي -‬والتي كانت تؤثر علي بوهيميا بالهجوم المتكرر علي براغ – فنتج عنها دمار وأوبئة وعمليات نزوح جماعية تابعة. صار عدد سكان بوهيميا مع نهاية حرب الثلاثين عامًا مليون نسمة، أي انخفض عدد السكان بمقدار الثلث منذ بداية الحرب، كما أن نصف شقق براغ صارت خاوية.
ولكن لا يوجد رأس مال من دون البشر:‬ فإن وجب علي »‬الأملاك» التي جاءت بالرخص أن تعود بالنفع علي أصحابها، فلا بد من العمل. جري مجددًا تسكين عائلات، وبذلت الكثير من المجهودات لجذب قوي عاملة من أماكن بعيدة إلي الفراغ البوهيمي. كانت هذه فترة جيدة بالنسبة لمجموعة من البشر لم يكن لديهم ما يخسرونه، إنها إذًا فترة جيدة لليهود الذين كانوا في حالة ارتحال مستمرة وبأعداد كبيرة، كانوا قد تعرضوا للطرد والنهب في مكان ما ويبحثون عن الأمان. في هذا التوقيت تحديدًا –أي السنوات الأولي بعد الحرب– مارس القوزاق المتمردون بالاشتراك المتحمس من جانب الروس الأورثوذكس، سكان الأرياف، مذابح فاحشة. لقيوقتها أكثر من ربع مليون يهودي حتفهم بشكل عنيف. كان الناجون ممنونين لكل عرض يسمح لهم بالاستقرار، وكانوا علي أتم استعداد للقبول بشروط صعبة. أما بالنسبة أصحاب الأراضي الكاثوليكيين في بوهيميا فكان تشغيل اليهود في القري التابعة لهم يمثل فرصة جيدة لدفع الاقتصاد. لهؤلاء الأفراد منفعة متعددة الجوانب:‬ الإخلاص في العمل والانضباطفي دفع التزاماتهم، كما أُجبروا علي شراء جميع منتجات هذه المزارع، إذ كان من بينهم بعض التجار الصغار الذين سيهتمون من أجل مصلحتهم الخاصة ببيع هذه المنتجات.
العزبة الصغيرة (‬فوزيك) التي تقع في جنوب بوهيميا علي بعد سبعة كيلومترات من (‬ستراكونيتسا)‬ كانت قبل كارثة الجبل الأبيض في ملكية أحد النبلاء التشيكيين. وقعت اشتباكات عنيفة في المنطقة المجاورة، حيث احتل الهابسبورج في فترة 1619/1620 المدينة المركزية (‬بيزيك)‬ ثلاث مرات متتالية ثم دمروها تمامًا. اضطر علي أثر ذلك البروتستانتي (‬زدانكو تسايكا(‬ إلي مغادرة البلاد. تمت مصادرة قصره ومقر إقامته الرئيسي، وبذلك دخلت القرية الصغيرة التي فقدت أهلها -‬بما في ذلك في عزبة(‬فوزيك)‬ -‬ في ملكية المنتصر في الحرب، الذي كان ينظم شخصيًا إجراءات نزع الملكية في البلد بأكملها:‬ إنه الجبار (‬كارل فون ليشتنشتاين)‬، منظم إعدامات براغ المثير للرعب الذي حصل مكافأة علي ولائه الكاثوليكي علي لقب محافظ ونائب ملك بوهيميا. لم تمثل (‬فوزيك)‬ بلا شك بالنسبة له -‬وهو يملك آلاف الكيلومترات من الأراضي-‬ إلا مجرد نقطة في فاتورة حساب، وواحدة من العديد من الخيارات لإثبات الملكية الجديدة بشكل موثق. أما تاريخ عائلة (‬ليشتنشتاين)‬ الذي ملأ ثلاثة أجزاء فلم يذكر (‬فوزيك)‬، ولو حتي في أحد الهوامش. من المستبعد أيضًا أن تكون العزبة قد حققت أي مكاسب تذكر في أثناء عقود الحرب الطويلة، لأنه تكرر عبور الجيوش الأجنبية عبر أرضها، أو بقائها لعدة أشهر. لم تتعاف المنطقة إلا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، كانت القوي العاملة ورؤوس الأموال تلقي ترحابًا، وتوفرت الكثير من المنازل الخاوية، ولذلك استوطن في (‬ستراكونيتسا)‬ و(‬بيزيك)‬ والقري المحيطة ممثلون لطبقة اجتماعية جديدة:‬ يهود الريف الذين حضروا مهاجرين من بولندا وأوكرانيا البولندية.
ظل هؤلاء اليهود في جيرة قريبة، بسبب الطقوس الدينية علي وجه الخصوص. تجمعوا في أماكن مناسبة وشكلوا غيتوات صغيرة، ما يطلق عليه أزقة اليهود، حيث انغلقوا داخلها علي أنفسهم، بمعبد صغير وأحيانًا طبيب يهودي، فلا غناء أو صلوات أو روائح طعام ستزعج الجانب المسيحي من الشعب. نشأ زقاق يهودي كهذا في (‬فوزيك)‬. عدد السكان الأصليين هناك ليس معروفًا، بعد مرور مائة عام علي الهجرة الكبيرة كانوا ست عشرة عائلة تقريبًا وزادت عليهم بعض العائلات في القرن التاسع عشر.
كان اسم إحدي هذه العائلات كافكا، لم يكن اسمًا نادرًا في بوهيميا، يبدو أن الاسم –المشتق من اسم طائر كان منتشرًا منذ فترة طويلة في براغ. نجد هذا الاسم بمعني غراب الزرع متكررًا في محيط (‬فوزيك)‬، كما ورد ذكر اسم (‬لوبل كافكا)‬ في السجل التاريخي لمدينة )‬بيزيك)‬ وكان ذلك في القرن السابع عشر. يبدو أن عشيرة آل كافكا البولندية وصلت إلي هناك أولاً، ثم تفرعت لاحقًا واستوطنت في عزبة (‬فوزيك)‬ – لا نعرف لذلك توقيتًا محددًا.
تتضح الصورة مع بداية القرن التاسع عشر في وقت توفرت فيه في )‬فوزيك)‬ فرصة تسمح لشخص يهودي »‬بتكوين أسرة». ما زال المصطلح يمثل إهانة اجتماعية مقصودة، السلطة المطلقة للدولة المسيحية التي تنظم رعيتها اليهودية من خلال سياسة بيولوجية، وكأنهم قطيع من الماشية. لم تهتم هذه الدولة بشيء سوي الأعداد، »‬بالرصيد» الذي لا يجب أن يرتفع:‬ 8541 أسرة في بوهيميا، و5106 أسرة في مورافيا، ولا أكثر من ذلك. أي رجل يهودي لم يكن له الوضع الخاص والنادر كيهودي في مجال الحماية أو كيهودي يعمل في البلاط الملكي، أي رجل يهودي أراد الزواج والإنجاب وتوريث الأبناء، كان يجب عليه أولاً انتظار وفاة رب أسرة، أي رب أسرة. كان هذا عادة الأب نفسه هو هذا الشخص، ولكن من الممكن أن يكون يهوديًا غريبًا ليس لديه أبناء. في الحالتين يجري تخفيض أعداد الأسر اليهودية والسؤال المطروح عن تحقق خط الإرث المباشر من عدمه لم يكن له أية أهمية في سياق السياسة البيولوجية. عدم وجود ابن كان يعني أن فرصة »‬تكوين أسرة» كانت شاغرة، نقطة ومن أول السطر!‬ من كانت له الرغبة في الحصول عليها وكان علي استعداد للدفع أتيح له ذلك.
هذا تحديدًا ما حدث في )‬فوزيك)‬ عام 1802، حينما توفي يهودي اسمه (‬فيشل)‬، وبعده أيضًا طفله الوحيد الذي كان رضيعًا. وبما أن الزوجات والأرامل لم يحق لهن الحصول علي فرصة ‮»‬‬تكوين أسرة‮«، أتيحت هذه الفرصة للغير. وعلي هذا النحو اشتري شخص يدعي يوزيف كافكا هذا الحق المكفول رسميًا للتناسل، يوزيف كافكا هو الجد الأكبر للكاتب فرانز كافكا.
لا يمكن فهم السيرة الحياتية لأي مثقف عاش في العاصمة البوهيمية دون وضع تاريخ المدينة والمنطقة بأكملها في الاعتبار. ينطبق ذلك علي الألمان والتشيك، وكذلك علي اليهود والمسيحيين بالقدر نفسه. ينطبق ذلك أيضًا علي سياسيين مثل (‬توماس مازاريك)‬، الذي طرد في البداية من مدينته ثم عادت لتمجده، أو علي الصحفي (‬إيجون إرفين كيش)‬ الذي عكف طيلة حياته علي استيعاب التاريخ الاجتماعي لبراغ، ينطبق ذلك أيضًا علي جيل الصهاينة الشبان الذين نشؤوا في بداية القرن العشرين وسط الصراعات القومية في براغ، وواجهوا مشكلات مصطلح »‬الأمة اليهودية»، الحال نفسه بالنسبة لكتاب مثل (‬ريلكة)‬ و)‬فيرفل)‬ بالطبع، إذ ألهبت المدينة خيالهما، إنها صورة لمدينة انطبعت بصراعات اجتماعية دامت لأكثر من ألف عام، وظنا أنهما مع كل هذه الصراعات وتصفية الحسابات قد فقدا قدرتهما علي التنفس والحياة.
كتب كافكا وهو في التاسعة عشرة إلي أقرب صديق له:‬ ‮»‬‬براغ لن تتركنا لحالنا، لا أنا ولا أنت. لهذه الأم مخالب، إما أن تستسلم وإما أن تقبل بالبديل. – ربما يجب علينا حرقها من الناحيتين، ناحية )‬فيشاهراد) وناحية (‬هرادشين)‬، حينها سننجح في الهروب‮«. إنه تصرف فكر فيه كافكا وله طابع وجودي، ولكنه لم يتخذ قط قرارًا بتنفيذه. لم يشعل النار في شيء ولم يفلت إلا قبل النهاية بوقت بسيط، خفت حدة المخالب بعد فوات الأوان.
صارت حقيقة بديهية أن عملاً مثل عمل كافكا لا ينشأ إلا في براغ، وأن كل صفحة تتنفس أجواء براغ التاريخية والاجتماعية، ولكن لا تعيننا هذه الحقيقة بالفعل علي الفهم، لأن الحال مشابه بالنسبة للعديد من الكتابات السطحية التي تأتي من أقلام مبتدئين في الأدب من الدرجة الثالثة أو الرابعة، ازدحمت بهم مقاهي براغ، وكذلك صفحات الأدب والفن وسط الضجر المتزايد للجمهور.
ولكن اختلف كافكا عن كل هؤلاء بشدة. كيف جاء هذا الاختلاف؟ من خلال قدراته اللغوية أولاً، ثم إحساسه بالأشكال الأدبية وإحجامه عن تناول أي صور نمطية للمدينة ثانيًا. ما يكتبه له سحر بمذاق خاص، ويختلف عن السحر المزعوم لمدينة براغ. كل سطر تسطره يده يأتي نتاج يقظة مثقفة وصارمة لدرجة مرعبة، وفكر عميق لا يلين ومتشبع بصور لغوية. لم يقع كافكا مجرد »‬أسير» للمدينه الأم –مثل آلاف الآخرين– بل دفعه ذلك وألزمه بالبحث في لغز هذا الارتباط. ولذلك صارت موضوعات حياته تدور حول سلطة الماضي علي الحاضر، أشباح »‬الماضي» التي كانت حاضرة بشكل خاص عام 1914، وعودة ما كان يبدو أنه انتهي تاريخيًا إلي الحياة مرة أخري:‬ يأتي كل ذلك تعبيرًا عن وعيه بالزمن والتاريخ، ولكنه وعي راسخ في عالم براغ الخاص به.
يبدو أن كافكا كان يحمل هذا الوعي داخله منذ ريعان شبابه. لأنه حينما فكر في إضرام النيران في براغ لم يكتفِ بأحلام التلامذة. لا يخطر علي باله الأقرب مثل المدارس والجامعات والمعابد ومحال الخردوات-‬ لا، يجب أن تشتعل النيران في المركز القديم للمنطقة السكنية في براغ. إنهما البرجان (‬فيشاهراد) و(‬هرادشين)‬، حيث نشأت في ظلهما قبل ألف عام أول الأزقة في براغ. إنها جرعة خيال زائدة، ما زالت لهوًا بريئًا، ولكن حتي مع اللهو يلمس كافكا أصل الأشياء.
من أين له بهذه القدرات؟ كتب رسالة في نهاية حياته:‬ ‮»‬‬فكري يا ميلينا في أنني آتي إليكِ بعد رحلة دامت لثمانية وثلاثين عامًا (‬وبما أنني يهودي فهي رحلة أطول بكثير)».يبدو أنه شعر بهذا التضافر بين قدره الشخصي وقدره التاريخي مبكرًا وكانت حياته كفيلة بتأكيد هذه الفكرة. ولد علي حافة الغيتو اليهودي قبل فنائه إلي الأبد، كان مُعرضًا للتفكير والحديث المعادي للسامية، تفكير يُظهر أن العصور الوسطي مستمرة دون توقف. تعرف علي بشر يؤمنون بأن اليهود يقتلون علي سبيل ممارسة طقس مقدس، هؤلاء الذين يقولون ذلك يحلمون في اللحظة نفسها بمستقبل الأمة التشيكية. لقد التقي بجيل أكبر عاصر آخر الإعدامات العلنية، وينبهر الآن بالسيارات الأولي ودور العرض السينمائية، كما عاش لسنوات عديدة علي الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة، هذا المسرح الاجتماعي الذي استحضر أبطاله أحداث عامي 1620 و1621 مرارًا ومرارًا، الجبل الأبيض وتنفيذ أحكام الإعدام والطرد، وكأنها ذكريات حيوية لكل من تجمع في هذا المكان. كان كافكا يدرك حجم ما كان عرضًا تمثيليًا من كل هذا، ولكن ما شعر به وعايشه أن مواصلة عنف الماضي في أشكال جديدة لم تتطلب الكثير من العروض التمثيلية.
إن تداخل وخلط الحقبات الزمنية المختلفة تحت ظروف ضغط خارجية كان أمرًا مألوفًا بالنسبة لكافكا في سياق التصورات اليهودية، حتي إن لم يعرف عنها بشكل كاف. إنه هذا اللوم الذي يوجه إلي اليهود -‬بصفتهم مجموعة غير مرتبطة بالزمن-‬ بأنهم ارتكبوا جريمة منذ أكثر من ألفيتين ماضيتين (‬‮»‬‬لقد قمتم بصلب سيدنا»)‬، بالقطع شعروا بالظلم حيال هذا الاتهام. ولكن يرجع السبب في ذلك إلي مضمون التهمة، بينما الشكل الذي يتمثل في جمع أزمنة تاريخية يبدو مألوفًا ومفهومًا تمامًا. ليست الهوية اليهودية ك »‬شعب» فحسب، بل كل عيد يهودي، كل طقس في الحياة اليومية كان يستنبط معناه بوضوح -‬ولا يزال-‬ من أحداث ترجع إلي زمن العهد القديم. كانت لهذه العلاقات البعيدة معني أسمي، اتفق اليهود وخصومهم علي هذه الفكرة، ولم يهم بعد ذلك أن تقدم الحقائق التاريخية إثباتًا لذلك – كان مجرد استمرارها دليلاً كافيًا. إن هذا الإحساس الخاص بالزمن -‬والذي يبدو أن عصر التنوير مر عليه دون أي تأثير– كان جزءًا مهمًا من التربة التي نمت فيها قدرة كافكا علي التأمل الفكري.
لا يمكن التخلص من براغ ولا من اليهودية، لأسباب متشابهة للغاية. ‮»‬‬لم يمت الماضي، بل إنه يأبي أن يمضي». ‬ – هذه العبارة الشهيرة والمتناقضة قالها (‬وليام فولكنر)‬، ولكن إن اكتشفناها في أحد دفاتر كافكا التي ملأها بخطه لاحقًا، فلن نتعجب. بالتأكيد كان سيوافق علي هذه العبارة. ومن كان له الحق في ذلك أكثر من يهودي قادم من براغ؟
بشر عمالقة:‬ آل كافكا من (‬فوزيك)‬
لا يعيش في هذا العالم كل من ولد فيه
ديجيو سوموري، المعلم حوريب
‮»‬‬حالكم أفضل مما هو مطلوب!‬‮«، كانت هذه الفقرة المتكررة والرنانة مألوفة في حجرة معيشة آل كافكا لدرجة الملل. لأن تاجر الأقمشة والخيوط هيرمان كافكا كان يلقيها علي أسماع كل من يأتي إليه بهمومه –خاصة الهموم »‬الشخصية»– ليتخلص من هذه الشكاوي باعتبارها مصدر إزعاج. ‮»‬‬حالكم أفضل مما هو مطلوب!‬‮«، صحيح أن هذه العبارة قد فقدت من كثرة استخدامها بعضًا من تأثيرها، ولكنها كانت سلاحًا مفيدًا لإنهاء أية مناقشة، ولوأد أي مقاومة في مهدها. كيف لأي شخص منهم جالس علي مائدة الطعام وأمامه يوميًا صحن اللحم الدافئ، أن ينكر يُسر حاله؟ هل عاني هذا المنزل أي نوع من الحرمان؟ لأن كل شيء متاح أصبحت الأمور التافهة تثير قلقًا، لا يتسم في ظاهره بأي جدية. كان رب الأسرة يعرف جيدًا معني الحرمان الحقيقي، بل كان يظن حتي هذه الحظات أنه الوحيد الذي يملك هذه المعرفة. وبما أنه قد حفظ الآخرين من خوض هذه التجربة، رأي أنه ليس فقط مطلبًا مشروعًا –بل أيضًا مطلبًا تربويًّا– أن يذكرهم كلما أمكن بالكفاح الماضي والحاضر في سبيل هذا الوضع المرفه.
بالقطع كان يجلس أمامه علي المائدة مراقبٌ لا يكتفي بسد آذانه أو ابنٌ تبلد من تكرار سماع لوم الأب، بل كان يدرك عمق الدوافع التي كانت تحرك هذا الحديث الانفرادي.
‮»‬‬كان الاستماع إلي الأب وهو لا يتوقف عن الإشارة إلي حظ هذا الجيل وخاصة أبناءه مقارنة بمعاناته هو في شبابه، أمرًا مؤلمًا. لا ينكر أحد أنه أصيب بجروح مفتوحة في ساقيه نتيجة للحرمان من ملابس الشتاء، وأنه عاني من الجوع واضطر إلي جر عربة لمدة عشر سنوات من الصباح الباكر عبر العديد من القري. ولكنه كان يرفض فهم ما يلي:‬ لا يحق له من خلال هذه الوقائع التي حدثت بالفعل –فضلاً عن حقيقة أنني لم أعان كل هذا– أن يستنتج أنني أكثر حظًا منه، وأن من حقه التعالي بسبب جروح قدمه، وأنه ظن، بل ادعي منذ البداية أنني لا أقدر معاناته القديمة لأنني لم أمر بها، وبالتالي يجب أن أشعر بامتنان لا حدود له. كم كنت أتمني الاستماع إلي حديثه عن شبابه ووالديه، ولكن لغة التعالي والشجار كانت مؤلمة».
كان كافكا يستمع إلي هذه الخطب علي مضض، ومع ذلك سجلها بدقة، كما جعلته يقتنع مبكرًا بأن العلاقات بين الآباء والأبناء في السياق البرجوازي ليست إلا علاقة سلطوية:‬ فحتي الخير الذي يفعله الآباء يسعي إلي تحقيق هدف ثانوي، ألا وهو ضمان السلطة المطلقة علي أبنائهم والحفاظ علي استمرارها. ما عايشه كافكا يوميًّا أن هذه السلطة كانت أكثر تأثيرًا في أخلاقيات الأطفال، بعيدًا عن حالات الحب المتقلبة، فكان الآباء يستغلون عن عمد هذا الموقف بالتطرق باستمرار إلي التناقض القائم بين معركتهم في الحياة المكبلة بالمسؤولية والهناء المزعوم للأبناء. قلما أدت هذه الحسبة الاستراتيجية والنفسية إلي شعور حقيقي بالعرفان – بل في الأغلب كان شعورًا بالذنب، وكان هذا الشعور أكثر عمقًا وتأثيرًا مع صعوبة طريق حياة الآباء في الحاضر (‬والماضي)‬. يأتي من هنا الاستمتاع الواضح وحالة التباهي و»‬الاختيال» الغريب التي كانت تصاحب حديث والد كافكا عن الماضي الأليم – وكأنه يتحدث عن إنجازاته. كان يقول مرارًا:‬ ‮»‬‬ومن يعرف هذا اليوم!‬ ماذا يعرف أبناء اليوم!‬ لم يعان شخص هذه المعاناة!‬ هل من ابن اليوم يفهم هذه المعاناة!» ابن واحد علي الأقل من أبنائه كان يفهم.
ولد هيرمان كافكا في الرابع عشر من سبتمبر عام 1852 في حارة اليهود في (‬فوزيك)‬، إنه جزء صغير من القرية كان يطلق عليه ‮»‬‬(‬فوزيك)‬ الصغيرة‮». ولادته كابن شرعي تمثل امتيازًا يرجع فضله إلي حركة النضال اليهودية من أجل الاستقلال البرجوازي التي دامت لثلاث سنوات قبلها، وأدت إلي سقوط »‬قانون الأسرة». كان هذا القانون قد فرض علي والده تاجر اللحوم ياكوب كافكا قيودًا صارمة، ذلك لأن ياكوب لم يكن الابن الأكبر وسط إخوته ولا أمل -‬في (‬فوزيك)‬ الصغيرة، المنطقة الصغيرة صاحبة المائة والخمسين نسمة- في الحصول علي فرصة (‬كالتي أتيحت لوالده)‬ بالحصول علي مكان شاغر يسمح ب »‬تكوين أسرة». اضطر بسبب ذلك إلي »‬الزواج في حجرة سطوح» -‬كما كان يقال وقتها-‬ بحبيبته فرانزيسكا (‬فاني)‬ بلاتوفسكي، التي كانت تقطن في المنزل المقابل، عاش معها في حالة زواج مقبولة من المجتمع اليهودي، ولكنها علاقة ليست لها أي ضمانة قانونية. الطفلان اللذان نتجا عن هذه الزيجة كانا غير شرعيين ولذلك حملا مبدئيًا اسم الأم.
غمرت سكان الريف اليهود سعادة طاغية حينما انتشر خبر تفعيل قانون المساواة في بداية عام 1849. أُطلقت صلوات وأناشيد الشكر إلي السماء في العديد من المعابد في غاليسيا ومورافيا وبوهيميا، وبالتأكيد في المعبد الصغير في (‬فوزيك)‬، تعاقبت حفلات الزفاف، حتي من شاب شعره وله أحفاد حرص علي توثيق العلاقة الزوجية في شكل قانوني، ولم يكن هذا الاحتفال في هذا اليوم في سياق خاص فحسب، بل كيوم تاريخي فاصل لليهودية بأكملها. لم يتردد كل من ياكوب (‬خمسة وثلاثون عامًا)‬ وفاني (‬ثلاثة وثلاثون عامًا)‬ طويلاً، تزوجا رسميًا في يوليو وحصل الابنان علي اسم العائلة كافكا، وكذلك الأبناء الأربعة القادمون، من بينهم هيرمان. لم يدرك أحد تقريبًا في حارة اليهود الصغيرة في (‬فوزيك)‬ أن حقوق المواطن الجديدة لم تطلق العنان لحريات واسعة المجال فحسب، بل أيضًا لطاقات فردية تسعي إلي الاستقلال. لا مفر من أن الحقوق الممنوحة مؤخرًا في الزواج والاختيار الحر لمقر السكن والمهنة قد أيقظت أحلامًا ليس تحقيقها متاحًا في السياق المحدود للقرية. ستقوم هذه الأحلام قريبًا بهز كيان الجماعة اليهودية، إنها صدمة الحداثة التي كان لها تأثير وصل إلي أفقر كوخ. كأن البشر قد وقعوا بين لحظة وأخري داخل مجال طاقة لمغناطيسين كبيرين وعلي مسافة بعيدة منهم، كان اسمهما فيينا وبراغ.
مستبعد أن يكون ياكوب كافكا قد استشعر هذه الإغراءات الجديدة، كان سيعتبر نبوءة أنه آخر يهودي سيدفن يومًا ما في مدافن (‬فوزيك)‬ وبألًا صعب استيعابه. نشأ في عالم اليهودية الريفية، لم يملك أي تصور عن أي قيمٍ أخري، ولذلك فإن السؤال عن حياة أفضل في مكان آخر وما يصحبه من خيالات ملحة لم يشغله كما شغل أجيالاً لاحقة. كل ما كان يهم أنه قد وصل إلي وضع مقبول اجتماعيًا -‬تاجر ومورد لحوم-‬ قَبِلَ بالثمن المطلوب لهذا الوضع والتأقلم الاجتماعي. تمثل هذا الثمن في مجهود جسدي شاق لا يسمح بأي راحة، ناهيك بأي عطلة – بدا أن ياكوب الضخم والقوي قد خلق لهذه الحياة التي اعتمدت علي الاستنزاف الجسدي. لم يشحذ قواه إلا يوم السبت، الذي فرض الراحة لأسباب دينية، كما أنه كان يلتزم وفقًا للعادات والتقاليد العتيقة بالأعياد اليهودية.
عاش آل كافكا في ظروف متواضعة، ولكنها لم تكن فقيرة علي الإطلاق. كان مُعتادًا في الأوساط الريفية أن تعيش أسرة من ثمانية أفراد في بيت صغير بحجرتين وأن يتقاسم الأبناء جميعًا حجرة واحدة، أو أن ينام اثنان أو ثلاثة في فراش واحد. بالكاد عرف هذا المنزل ‮»‬‬جوعًا متكررًا‮«، حتي إن ادعي هيرمان سعادته بمجرد صحن البطاطس – هذا مستبعد في منزل صاحبه تاجر لحوم. ولكن يجب الاعتراف بأنها لم تكن طفولة بسيطة فحسب، بل أيضًا قصيرة المدي. يسمع الأبناء مرارًا وتكرارًا ذمًّا في أحلام اليقظة والتكاسل، وأن مرحلة »‬البلوغ» تعني النهاية القاطعة لأي حالة خمول. أعرض هيرمان كافكا بحزم عن بيئة مرحلة الطفولة، ولكنه استوعب هذا الدرس بعمق وإلي الأبد، ولذلك صاحب كرهه مدي العمر لأي عمل شاق ودنيء عدم استيعاب لأي نشاط لا يبدو في ظاهره عملاً، مما كان له عواقب فيما بعد.
لا نعرف شيئًا عن فترة زيارة هيرمان للمدرسة الابتدائية اليهودية في القرية، ولكن ما نعرفه بالتأكيد أنه اضطر لمصاحبة أبيه إلي العمل سنوات قبل طقس بار متسفا، المقابل اليهودي لطقس التعميد، وأنه شارك في عمليات الذبح المرهقة التي كانت تقام في مبني صغير لأغراض تجارية يقع خلف المنزل. كان يهود (‬فوزيك)‬ وبعض القري المجاورة يقومون بطلب اللحوم ليوم السبت مع بداية الأسبوع، ليتم توصيل البضاعة يوم الخميس والجمعة، سيرًا علي الأقدام أو بعربة يجرها بيده. أما باقي أيام الأسبوع فكان يوصل اللحوم إلي الزبائن المسيحيين. شكا هيرمان كافكا لاحقًا أنه كان يُكلف بمهمة التوصيل وهو في السابعة من عمره، في البرد القارص وقبل بداية حصص الصباح المدرسية. حتي إن اعتبرناه يبالغ بعض الشيء وأنه يعمم هذه التجارب الأليمة، من المؤكد أن كفاف الأسرة كان أكثر أهمية من تعليمه ونموه وأن مرحلة طفولته انتهت قبل بداية مراهقته بفترة طويلة. ربما لم يحالفه حظ سعيد، ولكنه لم يكن بالغ السوء أيضًا، لأن حال إخوته وسائر الأبناء في حارة اليهود لم يكن أفضل. شكت إحدي الأختين من أنها صارت طباخة العائلة وهي في العاشرة من عمرها، ولم يكن ذلك غريبًا في زمن كان يقبل بعمالة الأطفال قانونيًا وأخلاقيًا. يزيد علي ذلك أن الأبناء قد ورثوا عن أبيهم قدرته الجسدية، إذ اعتبرتهم زوجة هيرمان الثانية قبيلة من ‮»‬‬البشر العمالقة‮«.
لم يتعلم هيرمان في سنوات الدراسة القليلة إلا ما هو ضروري:‬ الكتابة والقراءة والحساب وبعض الكلمات باللغة العبرية المستخدمة في إنجيل العهد القديم، التي كانت مطلوبة للمشاركة في الحياة الدينية. ولكن التعليم الأكثر قيمة في (‬فوزيك)‬ كان يتمثل في تمكنه من لغتين عاميتين – إنها مهارة أتاحت التأقلم في بيئات مختلفة، وكانت غاية في الأهمية لأي نشاط تجاري في منطقة بوهيميا للتعامل مع الباعة الجائلين وتاجر الجملة علي حد سواء. كانت لغة الحياة اليومية في (‬فوزيك)‬ ولغة الأغلبية هي اللغة التشيكية بالطبع، ولكن كان اليهود يجيدون اللغة الألمانية باعتبارها لغة التعليم، ولغة الدولة والنخبة أيضًا، ولذلك تمكنوا -‬مقارنة باليهود التشيكيين-‬ من التفاهم بشكل أفضل مع صاحب العزبة الجديد في قصر (‬فوزيك)‬، صاحب الأملاك من البراغي وعضو المجلس المحلي (‬إدوارد ريتر فون دوبك)‬. ظل تعليمهم المدرسي باللغة الألمانية، وتمسك اليهود بذلك، حتي بعد عام 1849، حينما صار التعليم الألماني غير ملزم. كان من حظ مَن نشأ في (‬فوزيك)‬ أن يجد مدرسة ألمانية يهودية بالقرب من منزله، بينما كانت تقع أي مدرسة أخري علي مسافة خمسين كيلومترًا. اللغة السائدة في المعبد هي الألمانية، وفي الأغلب أيضًا يوم السبت في المنازل، مع أن بعض الكلمات اليديشية ظلت حية منذ فترة الهجرة. الأسماء الأولي للأبناء كانت ألمانية (‬لا يوجد إلا اسم تشيكي واحد في العائلة الكبري لهيرمان كافكا)‬، كما أن الكتابات علي الأضرحة في المدفن اليهودي الصغير كانت باللغتين العبرية والألمانية.
إلي أي جماعة قومية ننسب آل كافكا؟ هل كانوا يهودًا ألمانًا؟ أم يهودًا تشيكًا؟ لم يملك أي شخص من »‬العائلات الكبري» –كما كان يقال في حارة اليهود– الإجابة عن هذا السؤال، ذلك لأن قائمة القوميات التي لعبت دورًا مهمًّا وقدريًّا في حياة الجيل التالي، لم تتواءم مع الواقع الاجتماعي للقرية. ينطلق هذا السؤال من عالم خيالي وإجبار آل كافكا من (‬فوزيك)‬ علي تجاوز عالمهم المركب للاعتراف بإحدي القوميتين ما كان ليحرجهم علي الإطلاق. كانوا يهودًا من بوهيميا ومن الرعية الوفية لمملكة الهابسبورج – بهذا الترتيب تحديدًا. ماذا كان مطلوبًا أكثر من ذلك؟
لا نعرف إلا القليل عن مرحلة شباب هيرمان كافكا. تولي أمره بعد الطقس الديني بار متسفا -‬علي أقصي تقدير-‬ شخص من العائلة كان يملك محلاً للأقمشة في المدينة المركزية (‬بيزيك (‬، التي تقع علي مسافة خمسة عشر كيلومترًا. كانت هذه هي أهم مقومات مستقبله الوظيفي، حتي إن لم يتلقَّ تدريبًا منظمًا بمفهومنا اليوم. تجول علي الأرجح ببضاعته الجديدة والمختلفة في القري المحيطة وتعرف علي الأسس المطلوبة لتجارة الأقمشة والخيط من واقع المعاملات اليومية. لم يكن تحسن الوضع الاجتماعي واردًا بالتأكيد، لأن أي أجر مالي –إن كان محل اتفاق من الأصل-‬ كان يذهب إلي الوالدين، حيث إن العائلات اليهودية كانت بطبيعة الحال تتنازل عن عقود العمل المعتادة، التي كانت تمثل حالة استثنائية في المعاملات التجارية داخل القري بكل حال من الأحوال. من المؤكد أن هيرمان كان ينظر إلي السيل المتزايد لنازحي القري في غيرة وقلق:‬ يهود شبان سعوا إلي الهروب من السخرة، ثم عائلات بأكملها حزمت حقائبها واتجهت إلي المدن لتجذب بعد فترة وجيزة باقي الأقارب إلي مغادرة القري.
لم يكن في الأغلب للحركات المعادية للسامية أي دور يُذكر في سياق عمليات النزوح هذه. صحيح أن كراهية لليهود كانت ولم تزل كامنة ومحسوسة بشكل كبير –إذ إن التحرر اليهودي المستمر من القيود القانونية فتح مجالاً أكبر للحقد والغيرة– إلا أن انعكاس ذلك علي الحياة اليومية المشتركة اختلف من مكان لآخر. في قري مثل (‬فوزيك)‬ حيث كانت الأدوار الاجتماعية موزعة بوضوح ولم يكن هناك فروق كبيرة في مستوي المعيشة، كان المجال مفتوحًا أمام اليهود، ولم تلقَ الحركات المعادية للسامية المصبوغة بفكر أيديولوجي أي صدي يذكر. كان كل فلاح تشيكي يري بعينه جاره اليهودي الكادح وكذلك العامل بالتجارة المجد، ولذلك لم يكن للتجربة الاجتماعية أي علاقة بادعاءات منشورات مجهولة المصدر تقول إن اليهود سفاكو دماء ويفضلون تكليف آخرين بالعمل لهم.
اختلف الوضع في المدن الصغيرة التي كان اليهود فيها جزءًا من أولي حركات الصناعة الكبري. بسبب ظروف العمل غير الإنسانية كان من الأسهل علي طبقة العمال صب غضبهم علي صاحب عمل يهودي، عن صاحب عمل تشيكي، تحول الاحتقار الكامن تجاه اليهود والممتزج بخوف من الغريب إلي أعمال كراهية وعنف تحدث بشكل منتظم. من المؤكد أن هيرمان كافكا سمع وهو طفل عن قصص ضرب اليهود وقذف نوافذهم بالحجارة، إذ شهدت المدينة الصغيرة (‬ستراكونيتسا)‬ –الواقعة علي بعد ساعتين سفر وسكنها بعض الأقارب– أعمالاً معاديةً لليهود استمرت لأيام عديدة. زادت المطاردات في البلاد لدرجة جعلت (‬فرانز يوزيف)‬ يفرض الأحكام العرفية. تنفس لذلك الكثير من اليهود الصعداء حينما تورطت المملكة بعد ذلك بأشهر قليلة في حرب ضد بروسيا:‬ إذ انشغل خصومهم لفترة بأمور أخري.
كان هيرمان وقتها في الرابعة عشرة من عمره، ولم تشغل هذه الأحداث في الأغلب حيزًا من أحلامه عن الهروب والصعود، ربما لعبت دورًا في سياق كرهه الزائد والمتبادل تجاه حشد المصنع الذي كان يحسد اليهود المتطلعين علي نجاحاتهم. كان يعرف أنه لن يفلت من مواجهة هذا الخصم، حتي بعد انتقاله إلي المدينة، تكرر مؤخرًا –مثلما كان معتادًا في هذه الألفية-‬ تَعَرُّض الغيتو اليهودي في براغ لعمليات نهب شاملة، ولم تتمكن سوي وحدات الجيش من إنقاذهم. لم تتوافر في مملكة هابسبورج الشاسعة منطقة حماية وحيدة لليهود، ولكن تنوعت من مكان لآخر فرص الاندماج وإخفاء عيب الأصل خلف واجهة يسر الحال والانتماء إلي الطبقة البرجوازية.
مر هيرمان كافكا في أثناء تأديته الواجب العسكري بتجربة أكدت أن الحياة في مجتمع كبير العدد ومتحرك أفضل من المحيط الضيق لمجتمع القرية الساكن. كان في التاسعة عشرة من عمره حينما »‬طُلِب» في الوحدة الهندسية واستغرقت خدمته ثلاث سنوات، كان الوقت كافيًا ليتخلص من بعض الصفات اليهودية الواضحة، وليتعلم وسط مجموعة متباينة في الوضع الاجتماعي والمنشأ كيفية الاندماج، علي الرغم من الظروف الأولية السيئة:‬ إنها توليفة ذكية من المبادرة والتأقلم. كانت فترة جميلة تخللتها الصداقات ولعب الكوتشينة وأغاني الجنود، مرحلة سيحب لاحقًا الحديث عنها بتكرار. كانت مرحلة تحرر، منحت الصبي اليهودي الفقير ولأول مرة في حياته سلطة يمارسها علي أفراد آخرين، إذ وصل هيرمان إلي درجة »‬عريف أول» ليقود عشرات من المرؤوسين وليشارك في الإشراف علي تعليمهم، زيهم وإقامتهم وذلك بوصفه ضابط صف. منحه تمكنه من لغتين ميزة، فضلاً عن قوته الجسدية ورغبته في العمل وصوته الأجش. الكثيرمن الشواهد تؤكد أن هيرمان كافكا لم يكتسب في القرية حضوره -‬الذي يجمع بين الإحسان إلي المرؤوسين والصوت العالي ذي النبرة التهديدية– بل اكتسبه في مرحلة الجيش. لقد كان حضورًا يسيطر به علي الأشخاص المحيطة، وتمرس في الأداء كأنه دور مسرحي. لقد كان سلاحًا مفيدًا في التعاملات مع الموظفين في مجاله التجاري، أما في المنزل فكان يثير التوتر، لما يختبئ خلف هذه الواجهة الغليظة من مشاعر رثاء للذات وانتهازية وتفاخر طفولي. يبدو أن العريف أول هيرمان كافكا لم يتقبل قط فقدانه لفرقته العسكرية، بُنيت حياته التالية بأكملها علي منطق المعركة والغزو والدفاع المستميت عن مواقف لها مميزات، اعتبر كل ما يخالف هذا المنطق ضربًا من ضروب الجنون.
بعد تجربة الحياة العسكرية صارت الحياة ك »‬رجل قرية» أمرًا غير وارد بالمرة، رحلت عن جميع حارات اليهود -‬بما في ذلك في (‬فوزيك)‬ الصغيرة-‬ زبائن المستقبل ولم يبقَ سوي الزبائن القدماء، كان جليًا أن إدارة محل تجاري في هذه المنطقة لن تلقَي أي نجاح. كان أشقاء هيرمان الأكبر عمرًا أقل عندًا ولكن كان لديهم الإصرار نفسه علي البحث عن الصعود الاجتماعي، فانضموا إلي حركة النزوح الكبري وتخلوا إلي الأبد عن شقاء حياة اليهود في القري:‬ ذهب فيليب إلي مدينة (‬كولين)‬ التشيكية، أما هاينريش فذهب إلي (‬لايتميريتس)‬ في المنطقة الألمانية لبوهيميا، وصار الاثنان تجارًا مستقلين. حتي في براغ نجح صعود فرد من أفراد العائلة الكبري:‬ إنه تاجر الخمور بالجملة إنجيلوس كافكا من (‬ستراكونيتسا)‬ الذي وصل في منتصف الثلاثينيات من عمره إلي حالة من يسر الحال سمحت له باحتضان أقارب آخرين ومساعدتهم في بداياتهم في مدن غريبة عليهم. كان أنجيلوس نموذجًا ناجحًا، كان أنجيلوس مثلاً أعلي، لقد مهد الطريق للعريف أول القادم من (‬فوزيك)‬ الصغيرة الذي أراد السير علي خطاه.
لا نعرف الكثير عن سنوات هيرمان كافكا الأولي في براغ، ولكن يبدو أنه ظل وفيًا لمجاله، وسافر بالأقمشة الراقية والخيوط وغيرها من الخردوات –ليس بوصفه بائعًا جائلاً– ولكن بوصفه مندوبًا لتجارة الجملة له وظيفة ثابتة، كان يتجول من الاثنين إلي الجمعة في بوهيميا ويتلقي طلبات تجار القري ويشتري المنتجات التي صُنعتفي المنازل وفي ورش صغيرة. كان مُسجلاً رسميًا لبضع سنوات في سكن ابن عمه في شارع (‬بلاتنيرسكا أوليتسا)‬ – ويعد ذلك مؤشرًا إلي أن هيرمان لم يعانِ الفقر في براغ، ولم يكن مضطرًا إلي السكن في المقار الرخيصة للغيتوهات، التي صارت من ضمن أحياء المدينة العادية ولكن كانت حالتها مزرية وصارت عنوانًا للعديد ممن يُطلق عليهم »‬اليهود المتبولين» الذين دخلوا البلاد بأعداد غفيرة. ومن المرجح أيضًا أن أنجيلوس قد مهد له -‬من خلال ضمانه له-‬ طريقه إلي الاستقلالية. كانت هذه هي عادات العائلات اليهودية، وجاء الشكر من خلال اختيار فاعل الخير كأب روحي للأبناء، ولذلك صار للكاتب فرانز كافكا لاحقًا أب روحي، وكان تاجرًا للخمور ميسور الحال.
قرر هيرمان كافكا وهو في الثلاثين من عمره صعود درجتين من السلم الاجتماعي في خطوة واحدة، ليقدم بذلك علي حيلة اجتماعية متكررة:‬ محاولة إنشاء تجارة خاصة به وربطها مباشرة بتكوين أسرة. إنها فكرة بسيطة بحسبة بسيطة:‬ يمنح كل من المال المجمع للرجل والمرأة ورغبتهما المشاركة في العمل دفعة، دفعة تكون حتمًا جلية علي المستوي النفسي والاجتماعي والاقتصادي. ليظهر تأثير هذا التآزر في حياة هيرمان كافكا، كانت هناك مواصفات خاصة مطلوبة لهذا »‬الارتباط». لم تكن الزوجة المسيحية اختيارًا متاحًا، لأن العائلة الكبري لن تقبله، ينطبق ذلك أيضًا علي التشيكية، لأن المطلوب هو أن ينشأ أبناء المستقبل مع اللغة الأرقي مجتمعيًا، ألا وهي اللغة الألمانية. قد يكون لليهودية الثرية متطلبات تتعلق بالنشأة والتعليم لن يتمكن من تحقيقها. إذًا كان المطلوب سيدة بمهر كبير يدعم التجارة المخطط لها بشكل جوهري، وتكون فضلاً عن ذلك علي استعداد للمشاركة في العمل ولا تكتفي بمسؤولية الرجل عنها. يزيد علي ذلك أن تكون علي قدر من السحر والجاذبية –ليس فقط لإرضاء هيرمان شخصيًا– ولكن لأسباب الوجاهة الاجتماعية، التي كانت لها أهمية خاصة في الحياة التجارية للناس البسطاء. »‬شخصية فائزة بالمعني الحرفي للكلمة».
هل كانت هذه السيدة موجودة في براغ؟ لم يكن التعرف إلي الجنس الآخر أمرًا هينًا، وحتي إن سكنت السيدة المناسبة في المنزل المقابل –مثلما حدث مع أبيه في حارة اليهود في (‬فوزيك)‬ – فما كان ذلك ليسهل المسألة في البيئة المجتمعية للمدن. صحيح أن التعامل من حين لآخر مع بائعات الهوي كان يمثل بالنسبة لهيرمان كافكا أمرًا طبيعيًا مثل شرب الجعة والتدخين –تعليقاته اللاحقة أمام ابنه كانت في منتهي الوضوح– إلا أن التفاصيل الاجتماعية المطلوبة لإقامة علاقة متساوية لم يكن ليتعلمها في حانات براغ.
كانت المسألة أكثر أهمية من أن تترك للقاءات العشوائية، ما كان ليفكر أبدًا في مراقبة السيدات من الطبقة البرجوازية وإرسال خطابات إليهن –أو إعلان جريدة كما كان رائجًا وقتها– ليسأل عن فرصة »‬تقارب محترمة». قد تكون هذه فكرة تخطر فقط علي بال سكان المدن الكبري من المسيحيين، ولكن ليس علي باله هو، علي الرغم من أنه يجسد جيدًا النموذج المعاصر الجذاب للرجل المقدام، الضخم والعريض المنكبين، ولكن كان ينقصه الحنكة المطلوبة لتتوج هذه المطاردات بنجاح. لا، التصرف الأكثر حكمة في هذه المواقف هو اتباع التقاليد اليهودية والاستعانة بدعم المتخصصين في هذا المجال. كان هناك من يقوم بمهمة تنسيق زيجات بكل فئات الأسعار الممكنة، يحفظون أسماء كل من في المجتمع اليهودي عن ظهر قلب، كما أن لديهم أدق التفاصيل عن الخلفيات الأسرية والمالية والأخلاقية. لم يكن دفتر منسقي الزيجات يعطي صورة معاصرة عن سوق الزواج اليهودي فحسب، بل إنه كان يُشكِّل هذه السوق أيضًا. أتاحت المعرفة الدقيقة لكل عرض وكذلك دبلوماسية التفاوض الفرصة أمام كل زبون أن يعرض المواصفات المطلوبة في الوضع المالي والشكل الخارجي لشريك الحياة صراحة، ودون تخوف من الإحراج الشخصي الناتج عن الرفض. يمكن الاعتماد علي سرية عمل منسقي الزيجات، لأن الكتمان كان يصب في مصلحة العمل نفسه.
عرف هيرمان كافكا من خلال هذه الدفاتر أن السيدة التي كان يبحث عنها كانت تقطن علي مسافة خمس دقائق من منزله. سكنت مع والدها وزوجة والدها وأخيها علي الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة في منزل علي ناصية شارع (‬شاليزنا)‬، مبني مكون من ثلاثة طوابق وواجهة باروكية ومحل تجاري في الدور الأرضي، سمي لاحقا بمنزل »‬سميتانا»، مر بالتأكيد آلاف المرات من أمامه. كان اسم العائلة (‬لوفي)‬، وابنتهم (‬جولي)‬ -‬البالغة من العمر ستة وعشرين عامًا-‬ وصلت بذلك إلي سن الزواج منذ فترة طويلة. لم تكن أسرة غنية ولكنها ميسورة الحال لدرجة تسمح لأهلها بتأجيل دفع الالتزامات المالية لسنوات، بينما تقوم هي باختيار شريك الحياة في منتهي الهدوء. أفضل ما فيها أنها كانت من مجاله نفسه، إذ قضت (‬جولي)‬ طفولتها وشبابها في كواليس محل قماش ناجح، وبذلك لم تملك فقط المعرفة الضرورية بالبضاعة التي كانت مصدر رزق الأسرة وطريقة إدارة الحسابات، بل كان لديها أيضًا تصور دقيق عن أسلوب التعامل مع الموظفين والزبائن. إنها ضربة حظ لهيرمان، فضلاً عن جمالها ولطفها وطبيعتها دون أي تكلف، سيدة محافظة ولها أسلوب هادئ وطيب يذكره بروح أمه اللطيفة.
صحيح أن الفجوة في التعليم والوضع الاجتماعي أقلقت هيرمان. كانت غالبًا المرة الأولي التي يغامر فيها بالدخول إلي المنطقة الخطيرة للإتيكيت الاجتماعي. كيف ينجح في اختيار الأسلوب المناسب؟ خاصة حينما يكتب، لأنه لا فرار من كتابة الخطابات، خاصة وأن هيرمان كان علي سفر دائم. صحيح أن اللقاءات الأولي كانت واعدة، وتولد نوع من الاستلطاف المتبادل، ولكن كان يجب عليه ألا يذكرهم في حرج بسنواته القليلة في المدرسة الابتدائية، خاصة أقارب (‬جولي) الذين كانت لهم رؤية ناقدة للارتباط المرتقب. حضر خصيصًا من باريس أخ يعمل وكيلاً مصرفيًا طاف العالم ليشاهد مندوب بيع الخيوط هذا الذي جاء من (‬فوزيك)‬. هيرمان نفسه لم يصدق أنه سيمر بكل هذا دون سقطة واحدة، ولكنه كتب بالفعل خطاباته علي أوراق فاخرة زُينت بالأحرف الأولي لاسمه واستهلها ببعض العبارات التي نقلها من دليل لكتابة الرسائل، ولم يكن لها أي صلة بوضعه الاجتماعي أو ما يعيشه من سلوكيات يومية:‬ ‮»‬‬الآنسة المبجلة«، ‮»‬‬تقديري لروحك الراقية.. ‮«، ‮»‬‬هيئتك الجميلة‮«، ‮»‬‬صوتك الملائكي‮«. اعتبر هيرمان هذا مناسبًا لمستواها الاجتماعي، ولكن يبدو أنه تنفس الصعداء حينما تجاهلت (‬جولي)‬ كل هذه المبالغات اللغوية وأجابته ببساطة ‮»‬‬عزيزي السيد كافكا‮«. صارت الأمور منذ ذلك الحين أبسط بكثير، كانت المرة الأولي -‬وتلتها العديد والعديد من المرات-‬ التي حفظته فيها بخفة من سقطاته، وفهم هيرمان في الحال حسن حظه في الأسلوب العملي لزوجة المستقبل، أسلوب لا يفرض نفسه ولكنه يعتمد عليه:‬ كانت أشبه بسند اجتماعي له وحملت عنه الكثيرمن الضغوط. لقد قام منسق الزيجات بمهمته علي أكمل وجه:‬ كانت (‬جولي لوفي)‬ مناسبة له تمامًا.
عُقِدَ القران يوم الثالث من سبتمبر عام 1882، بعد مرور بضعة أيام علي عيد ميلاد هيرمان كافكا الثلاثين، وفقًا للطقوس اليهودية تحت ظلة ومع كأس نبيذ والعديد من عبارات المباركة. انتقل الحاضرون إلي الحفلة الخاصة التي أكدت علي الرباط بين الأسرتين، والتي أقيمت في منزل رقم 12 علي الطريق الدائري المطوق للبلدة القديمة. هنا افتتح هيرمان –المتشوق لهذا الحدث– محله الأول الخاص به، أتيح للحاضرين إبداء إعجابهم ببضاعة الحياكة التي وصلت لتوها من فيينا. في المبني المجاور، فندق (‬جولدهامر)‬ كانت مائدة الطعام الطويلة جاهزة. مازال توف!‬ حظ سعيد!‬
وبعد مرور أربعة أسابيع، حملت (‬جولي كافكا)‬.
حذفت الهوامش لمقتضيات العمل الصحفي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.