أعتز كثيرا بتجربة العمل في مجلة » سطور» مع الراحلة الدكتورة فاطمة نصر، فقد كانت طاقة عمل هائلة وملهمة، ونموذجا فريدا للدأب والإصرار وإرادة الاستمرار، إلي جانب شغف نادر بالإخلاص في العمل والإنجاز في كل الظروف، فقد وهبت حياتها بحق لخدمة الثقافة الرفيعة، سواء في » سطور» أو في ترجماتها المتعددة لكتب تأسيسية، تشكل ثروة معرفية في مجال الفكر الديني والسياسي والنقد الثقافي. استجبت فورا للدعوة الكريمة التي وجهتها لي دكتورة فاطمة نصر لأكون رئيسا لتحرير » سطور» مع أستاذي الدكتور محمد عناني، وذلك في عام 1998 حتي سافرت خارج الوطن عام 2001. وكانت المجلة قد أثبتت وجودها علي ساحة الصحافة الثقافية الجادة بتنوع موضوعاتها، وجرأتها في اقتحام المسكوت عنه في كثير من أوجه حياتنا الفكرية والأدبية، والعمل علي توسيع هامش حرية التعبير المتاح في واقعنا العربي المحاط آنذاك - ولا يزال - بكل أنواع المحاذير. بدت لي دار »سطور» - بمجلتها وإصداراتها المترجمة - مشروعا أهليا طموحا، ترأسه دكتورة فاطمة نصر، وتديره بعزم وإيمان بقيمة الثقافة الحقيقية الجادة، وتضطلع بكفاءة بالمهمة التي يمكن أن تقوم بها الصحافة الثقافية الخاصة - غير الحكومية - في إنتاج المعرفة، وتسليط الضوء من منظور نقدي وطني علي أسباب التدهور الذي نعيشه، ومحاولة البحث أيضا عن حلول لمأزقنا الحضاري الراهن. بدا لي الإسهام في مشروع »سطور» فرصة تصل ما انقطع من عملي في مجلة »فصول»، وما تعثر في مشروع مجلة » النداء» الذي أطلقه الراحل الكبير، الناقد والمفكر الجليل الدكتور شكري عياد، وشاركت في أعداده التجريبية الأولي التي توقفت لرفض الرقابة إصدار تصريح النشر للمجلة. وجدت في » سطور»، ومشروعها الطموح، أفقا جديدا ملتزما بالضوابط التي أضعها لنفسي لممارسة العمل الثقافي، ويتوافق مع تصوري لدور المثقف الذي يحترم العقل، ويحترم القراء، ويحفزهم علي التفكير في أزمات الواقع دون مساومة أو مزايدة علي قضايانا الأساسية. وعندما زرت المجلة للمرة الأولي وقعت في غرام المكان الذي يطل من أوسع بقعة نهرية علي نيل المعادي، ويكشف من الطابق السادس مشهدا لا أنساه لقاهرة مصر التي في خاطري، مستدعيا عبقرية المكان. أسرتني حفاوة دكتورة فاطمة نصر، وحيوية شخصيتها، وعفويتها الصادقة، فهي مثقفة كبيرة، واسعة الخبرة بالحياة، وبنت بلد عريقة أصيلة. أصرت دكتورة فاطمة علي وضع مكتبي في واجهة صالة التحرير، بجوار النافذة العريضة المطلة علي المشهد المبهر. وقد شهد هذا المكتب ساعات العمل الطوال بعد انصراف الزملاء للتدقيق في البروفات الأخيرة، قبل إعطاء أمر الطبع لمادة العدد الشهري، وكذلك كتابة افتتاحية ملف العدد. وما زلت أحن إلي المكان، وصحبة الزملاء، وفرحة صدور العدد الجديد، ونحن نتبادل النسخ الأولي الساخنة بحبر المطبعة، الداعية لالتهام ثمرة جهد شهر كامل. كنا فريق عمل صغير يضم الشاعر كريم عبد السلام، والكاتب الروائي سعد القرش، والمصحح الأستاذ عمر، لكن كان طموحنا الثقافي غير المحدود بقيادة فاطمة نصر يدفعنا للتمسك بالكلمة المضيئة للعقل، الساكنة في الضمير، الكلمة التي تحمل في الوقت نفسه جسارة المعالجة الموضوعية للقضايا الشائكة. كانت سياسة التحرير تعمل علي استكتاب شريحة واسعة من كبار الكتاب علي اختلاف توجهاتهم، إلي جانب كتاب آخرين مغمورين وموهوبين ومؤمنين بشرف الكلمة والإبداع الحقيقي الذي كان يفرض نفسه للنشر، بصرف النظر عن الشهرة. أما الإخراج الفني، فكان يتميز بحرفيته العالية، وجمالياته البصرية الفائقة من إبداع الفنان حسين جبيل ( جوبي). أستعيد الآن لمحة من افتتاحية كتبتها لملف تحت عنوان » الجسد» صدر في عدد سبتمبر1999، جاء فيها: »لقد احتل الجسد في العقود الأخيرة بؤرة صراع ثقافي يتجلي في ظواهر متعددة، خصوصا ما يتصل منها بأشكال الضبط والمراقبة، المنصبة علي الحضور الخارجي للجسد، فالسجال لا يكف عن الأدوار الاجتماعية للنساء والرجال، وأنماط الثياب، وذلك بالإضافة إلي التباين بين أساليب حياة الشرائح الاجتماعية المتأثرة بقشرة الثقافة العصرية، ومزاعم التحرر الزائف، مقابل القطاع الأعرض من المتدينين، المتشددين منهم والمعتدلين. أما الخطاب المعرفي الذي يتناول موضوع »الجسد»، فيعكس بدوره جانبا من ذلك الصراع نفسه، وإن كان يتجلي في توجهات فكرية مختلفة، بينما يحاول أصحاب كل توجه منها تأكيد إرادته ( أو سلطته المعنوية) باستخدام صياغات لغوية محملة بدلالات ثقافية ( نهائية ومطلقة).. لقد أردنا بطرح موضوع هذا العدد الإلمام بتصورات فلسفية واعتقادية وفنية في ثقافاتنا وفي الثقافات الأخري، وذلك لتلافي مخاطر النظرة التجزيئية المفتتة لتكامل الكيان الإنساني، بنفي الجسد أو استخدامه، بما يجعله غريبا عنا، وسببا من أسباب تلف العقل وشقوة الروح، فالإنسان في حاجة إلي السعي بكامل قدراته، الظاهرة والخفية، إلي استخلاص معني وغاية من فوضي الحياة المعاصرة». لا أستطيع أن أغادر هذه الشهادة الشخصية دون أن أذكر جهود الدكتورة فاطمة نصر في الترجمة، وهي أستاذة الأدب الإنجليزي المتمكنة باقتدار من اللغة المترجم منها، إلي جانب سلاسة التعبير ودقته وإحكام العبارة العربية المترجمة، بحيث لا يبدو الجهد المبذول علي السطح. أما اختياراتها للكتب التي كانت تعكف علي ترجمتها بنظام صارم، يبدأ من الصباح المبكر، قبل وصول فريق العمل، ويتخلل المهام الإدارية اليومية دون كلل، هذه الاختيارات تدل علي سعة أفقها المعرفي، ورغبتها في أن تحمل الترجمة جانبا رئيسيا من رسالتها الثقافية، وتكون جسرا بين ما يحفل به العالم من تيارات فكرية صاخبة، وما يمكن أن يكون إضافة إلي العقل العربي والواقع الأدبي والثقافي في مختلف المجالات التي تتراوح بين الفكر الديني والسياسي والتعليمي وأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا المتقدمة. سأذكر فقط بعض العناوين مثل » معارك في سبيل الإله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام» ، تأليف الكاتبة البريطانية كارين أرمسترونج، ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني ( صدر عن دار سطور 2000)، وترجمت بالاشتراك مع دكتورة هبة محمود عارف كتاب » مسعي البشرية الأزلي .. الله لماذا؟ » تأليف كارين أرمسترونج ( الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001)، وترجمت كتاب » خدمة التكنولوجيا» تأليف جاك إيلوك ( دار سطور 2002) ، وكتاب » تعليم بلا دموع، السعادة والتربية» تأليف نل نودنجز ( دار سطور 2007) و» اختراع الشرق الأوسط الحديث» تأليف كارل إي ماير وشارين بلير ( دار »سطور» 2010) وكتاب » دليل الاستبداد والمستبدين» (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014) وما بين هذه التواريخ صدرت لها ترجمات متعددة تزيد عن مئة كتاب ودراسة. أختم هذه الكلمة بدعوة المركز القومي للترجمة، ورئيسه الدكتور أنور مغيث، لتنظيم احتفالية باسم الراحلة الدكتورة فاطمة نصر لعطائها الوافر، ودورها الرائد في حمل الثقافة الرفيعة عبر الكلمة المترجمة إلي الأجيال.