بعد قليل يصل أخي الكبير من البلد. يتلو علي مواعظه ووصاياه، كمن يقرأ من كتاب مقدس. لا يوقفه شئ. يفرغها أمامي دفعة واحدة، كعادته في إفراغ أكياس القطن في المحلج الواقع علي حدود القرية. ما قيمة ما سيقول إن كان لا يدري شيئاً عن أسباب ما أنا فيه. يحسدني لأنني أقيم في العاصمة وهو في القرية الواقعة في تلافيف ريف النسيان. آخر مرة التقينا كانت منذ عام تقريباً، وآخر مكالمة باردة بيننا كانت منذ أسبوعين. لا تخرج مكالماتنا عن نطاق السلامات الروتينية. نتبادلها من باب الواجب أكثر منها شغفاً للاطمئنان. عادة، أنتظره أمام موقف السيارات، في سيارتي القديمة، وبدلتي القديمة، وأفكاري القديمة أيضاً. سوف يحتل المقعد المجاور لي، يفرك يديه، ثم تبدأ مسبحة أسئلته المهترئة ووصاياه البالية التي فقدت صلاحيتها قبل النطق بها. سوف ألاحظ امتداد خيط الشيب في رأسه، والخطوط تحت عينيه، وفي جبهته العريضة. لم تفلح عمامته الناصعة البياض في إخفاء أثر الزمن. للزمن بصمة يأبي ألا يتركها في زوايا النفوس وعلي قارعة الوجوه. تعمدت اليوم الوصول متأخراً. أنفث من حين لآخر، زفير الملل والكدر والانتظار. أنظر في ساعتي، تجاوزت الثانية ظهراً بكثير. مضي علي موعد وصوله حوالي ساعة كاملة. تلذذت بخيال يراه منتظراً حائراً تحت وهج الشمس. أخرجت هاتفي. قلبت مواقع (التشتت) الاجتماعي. مسحت قائمة مواعظ وتعاليم دينية لا يكف المعارف عن إرسالها. أقسم أن غالبيتهم يرسلها دون ما علم بما فيها. أنظر تجاه محطة الأتوبيس، أمد بصري إلي موقف السيارات القريب منه. أَكُتِبَ علي هم الانتظار، إلي جانب هم دروسه ونصائحه لي. فكرت أن أطلبه، ثم تراجعت. ربما راودني أمل ألا يأتي، وخشيت أن يرجع اتصالي بنتيجة عكسية. ما إن وضعت الهاتف في جيب سترتي حتي علا رنينه. مددت يدي بقلب وجل. بالتأكيد هو. يتصل ليوبخني علي تأخري في الوصول، وطول انتظاره لي. تومض الشاشة برقم غريب. ترددت في الرد، وفي النهاية ضغطت الزر الأخضر. (حضرتك الأستاذ صلاح)، صوت مجهول علي الجانب المقابل يسألني. (نعم أنا هو) أجبته في اقتضاب. جاءني صوته محملاً بنذر كارثة، (اتكلم من مستشفي القصاصين. البقاء والدوام لله. توفي أخوك في حادث. اعتذر. وجدت رقمك علي تليفون الفقيد تحت اسم ( صلاح.. أخي الحبيب).