لقد توقف حياتي بيك فجأة وهو متوجه مباشرة إلي منطقة بيازيد ضاربا صدغه لكمتين: ايواه، ايواه، محفظة الراتب: كان قد نساها في مكان ما،وكان لا يستطيع التذكر أين نساها.. ايواه هل تركها في أحد الدكاكين وهو يتسوق، ماذا لو سرقها أحد وذهب؟ ايواه ماذا لو بحث عنها ولم يستطع أن يجدها،ماذا لو حاول لعدة شهور من أجل استخراج واحدة جديدة؟ نعم، أولاً عليه أن يعلن في الجرائد، ثم عليه استخراج أوراق إثبات الحال والمكان إلخ من الحي؛ اوو... هناك أكثر من ذلك كان في المحفظة شهادة العمل والبطاقة الشخصية، يا الله أعطهم ما يستحقوه، هل سأخرج كل هذا من جديد ها... لكم رأسه التي لا تحتوي علي عقل مرة أخري، لم يستطع التخلص من شروده منذ عرف نفسه. دائماً ما كان ينسي شيئا كلما ذهب إلي أي مكان : إمّا شمسيته أو عكازه أو علبة نظارته، وعندما يدخل المنزل في المساء كان يسمع توبيخاً من زوجته هداية، يا لزوجته المسكينة ألم تصرخ عليه ولو قليلا حتي الآن ألم توبخ زوجها الشارد؟ أووه إذا سمعت هذا، ستضع هداية هانم يداها علي خصرها، وستنتفخ عيناها المدورتين مثل البيض، ربما ستنزل بالمروحة اليدوية التي في يدها علي رأسه... فكر: أين نسيت شنطة المحفظة في أي زاوية في جهنم نسيتها يا صاحب الرأس الدائخ يا معتوه يا ذا عقل هاو يا متقاعد؟ في أي زاوية في جهنم؟ هل في قهوة الحي؟ هل في الجمعية التعاونية؟ هل في مقهي مصطفي أفندي الجافة ؟ أم ... أم عند بائع العقاقير الحج حسن في السوق المصري؟ أين ؟ أين؟ الآن يجب الذهاب إلي السوق المصري أولاً. لقد هرول حياتي بيك ومشي بصعوبة ولهث حتي وصل إلي هناك ، وتوقف أمام دكان بائع العقاقير الحاج حسن: مرحباً حسن أفندي... هل نسيت هنا صباحاً شنطة وأنا آخذ دواء الأنف؟ أجاب حسن أفندي بابتسامة كشفت عن أسنانه البيضاء وبلهجة عربية مجودة: - أنت نسيت ... هنا شنطة .... هههه... - لا تفعل يا حسن أفندي يقتضي عليك البحث هناك... - ابحث بنفسك حياتي بيك ... لا يوجد شنطة هنا... لقد أطلق الحاج حسن أفندي قهقهة ترددت صداها في السوق المصري بأكمله.كان حي حياتي بيك هو حي توبكابي! لقد انتظر الترام في منطقة »أمينونو» ساعة تحت المطر. ثم وصل إلي توبكابي بالترام الذي كان مزدحماً ازدحاماً رهيباً حيث كانت أكتاف الناس متلاصقة وبمجرد قفزة من الترام ذهب إلي البقال. مرحباً يوان... لقد فقدت بطاقتي مع محفظة الراتب، لذا قد أتيت أبحث عنها هنا ألا يمكن أن أكون تركتها هنا في الصباح؟ - ماذا تقول يا حياتي بيك؟ إذا فقدت محفظة الراتب كيف ستدفع هذا الشهر؟ يا ويلي!... لقد دخل حياتي بيك وعلي وجهه الغضب إلي القهوة التي في الزاوية؟ ومسك عباس الايراني: - ياهوو ... عباس أفندي ... هل نسيت شنطة المحفظة هنا صباحاً؟ - حياتي بيك لقد دخل إلي هنا من الصباح ألف شخص وخرجوا! من أين لي أن أعلم؟ كان هناك اثنان من طلمبجي (صناع الداليات) مستندين علي مسند الكرسي ينظرون إلي حياتي بيك ويضحكون: - ليتحمل حياتي بيك غضب هداية هانم هذا المساء! ستحدث مشاجرة سيئة ! لقد غضب حياتي بيك كثيراً. لم يستطع تحمل سخرية السادة كولهان، لف رأسه غاضبا وصرخ: - لا تثيروا غضبي حتي لا نتشاجر يا سمراء الطلمبجية، وأطلق ضحكة كاشرة عن أسنانه: - أمان لا تنفعل... ليس لديك شعرة واحدة في رأسك في الأساس، يحمر لونك مثل حلو اليقطين! - لا تقلل أدبك يا حيوان. لكن لم يستطع حياتي بيك الاستمرار أكثر. وسحب صانع الداليات حذاءه من قدمه وألصقها في فم المعارض بأسرع طريقة كما سحبها. لقد سقط اثنان من أسنان حياتي بيك وسال الدم من فمه. كان الرجل المسكين يفكر في المشاجرة التي ستحدث مع زوجته هداية هانم وهو عائد إلي البيت من أجل ربط فكه، وكان يرتجف خوفاً، وكان يمسك فكه بيدٍ و يطرق باب البيت باليد الأخري. صرخت المرأة التي فتحت الباب بمجرد رؤية وجه حياتي بيك غارقاً في دمه: - ما هذه الحال يا صاحب الرأس الدائخ؟ - ما هذا الشكل يا معتوه؟ هل بقيت تحت عربة الثيران؟ أم أكلت علقة من أطفال الحي؟ هل كسر فكك أم خرجت عينك؟ أدخل لنري؟ لقد سحب حياتي بيك رأسه بين كتفيه من الخوف وهو داخل وكانت هداية هانم ماسكة زوجها من ياقته وتهزه مثل شجرة التوت: - يا أحمق! تنسي شنطة المحفظة في يوم قبض الراتب و تسرع إلي الشارع... ياأعمي...أين عقلك في أيام الله؟. بيامي صفا روائي وقاص تركي، ولد في إسطنبول عام 1899، بدأ حياته الوظيفية بالعمل صحفيا في جريدة مسائية باسم »القرن العشرين»، وفيها نشر قصصه القصيرة تحت عنوان »الحكايات العصرية» دون توقيع، ومنها انتقل للعمل في أكثر من جريدة، وظل يكتب المقالات والروايات. حمل بيامي صفا في أعماله الروائية الأولي آراء تميل إلي اليسارية، من خلال روايته »المضجع الخارجي التاسع»، ومن أعماله الأخري »بابنا»، »برق»، »سوزده قيز»، »المحشر»، »كان مساء»، »ظلال الحربة»، »قلب فتاة شابة»، »جانان»، »آتيلا»، »رواية تردد»، »الآنسة نورالية»، »نحن فرادي»، »نحن بشر»، و»فاتح حربية» التي تم تحويلها مؤخرا لمسلسل تليفزيوني. ومن أعمال صفا النقدية: »نظرات علي الانقلاب التركي»، »الاستفتاء الأوروبي الكبير»، »الدليل الفلسفي»، »الأمة والإنسان»، »بين الشرق والغرب» وغيرهم. وقد توفي في 15 يونيو 1961.