العمل: 157 وظيفة جديدة في مجال الطاقة والاتصالات بالجيزة    «كوب 30» ودور النفط فى الاقتصاد العالمى    وزيرة التنمية المحلية: التصدي الحازم لأية تعديات أو مخالفات بناء    الأولى منذ عقود، وزير الخارجية السوري يبدأ زيارة رسمية لبريطانيا    الجامعة العربية تختتم متابعتها للمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري    أمور فى السياسة تستعصى على الفهم    استدعاء ثنائي جديد لمعسكر منتخب مصر الثاني    برشلونة يسعى لضم هاري كين لخلافة ليفاندوفسكي مستغلا الشرط الجزائي    ضبط 2 طن دواجن ولحوم مجمدة مجهولة المصدر وغير صالحة للاستهلاك بالقليوبية    محمد رمضان يقدم واجب العزاء في وفاة إسماعيل الليثي    محمد رمضان يقدم واجب العزاء فى إسماعيل الليثى.. صور    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يمكن استخدام زيت الزيتون للقلي؟ أخصائي يجيب    محافظ شمال سيناء يتفقد قسام مستشفى العريش العام    قبل مواجهة أوكرانيا.. ماذا يحتاج منتخب فرنسا للتأهل إلى كأس العالم 2026؟    وزيرالتعليم: شراكات دولية جديدة مع إيطاليا وسنغافورة لإنشاء مدارس تكنولوجية متخصصة    طلاب كلية العلاج الطبيعي بجامعة كفر الشيخ في زيارة علمية وثقافية للمتحف المصري الكبير    كندا تفرض عقوبات إضافية على روسيا    جارديان: برشلونة يستهدف هاري كين    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    وزير العدل الأوكراني يقدم استقالته على خلفية فضيحة فساد    الداخلية تكشف تفاصيل استهداف عناصر جنائية خطرة    رسميًا.. ستاندرد بنك يفتتح مكتبًا في مصر لتعزيز الاستثمارات بين إفريقيا والشرق الأوسط    المتحف المصري الكبير ينظم الدخول ويخصص حصة للسائحين لضمان تجربة زيارة متكاملة    أسماء جلال ترد بطريقتها الخاصة على شائعات ارتباطها بعمرو دياب    كرة يد - بعثة سموحة تصل الإمارات مكتملة تحضيرا لمواجهة الأهلي في السوبر    ضبط مصنع حلويات بدون ترخيص في بني سويف    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    ما عدد التأشيرات المخصصة لحج الجمعيات الأهلية هذا العام؟.. وزارة التضامن تجيب    سعر كرتونه البيض الأحمر والأبيض للمستهلك اليوم الأربعاء 12نوفمبر2025 فى المنيا    طريقة عمل فتة الشاورما، أحلى وأوفر من الجاهزة    البابا تواضروس الثاني يستقبل سفيرة المجر    بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. آثارنا تتلألأ على الشاشة بعبق التاريخ    محمد صبحي يطمئن جمهوره ومحبيه: «أنا بخير وأجري فحوصات للاطمئنان»    جنوب سيناء.. تخصيص 186 فدانا لزيادة مساحة الغابة الشجرية في مدينة دهب    بحماية الجيش.. المستوطنون يحرقون أرزاق الفلسطينيين في نابلس    حجز محاكمة متهمة بخلية الهرم لجسة 13 يناير للحكم    أثناء عمله.. مصرع عامل نظافة أسفل عجلات مقطورة بمركز الشهداء بالمنوفية    إخلاء سيدة بكفالة 10 آلاف جنيه لاتهامها بنشر الشائعات وتضليل الرأي العام في الشرقية    نجم مانشستر يونايتد يقترب من الرحيل    الرئيس السيسي يصدق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    رئيس الوزراء يتفقد أحدث الابتكارات الصحية بمعرض التحول الرقمي    «المغرب بالإسكندرية 5:03».. جدول مواقيت الصلاة في مدن الجمهورية غدًا الخميس 13 نوفمبر 2025    عاجل- محمود عباس: زيارتي لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل    بتروجت يواجه النجوم وديا استعدادا لحرس الحدود    خالد النبوي يهنئ محمد عبدالعزيز لتكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي: أهداني أول دور    الرقابة المالية تتيح لشركات التأمين الاستثمار في الذهب لأول مرة في مصر    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    موعد مباراة مصر وأوزبكستان الودية.. والقنوات الناقلة    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    استعدادًا للموسم الشتوي.. حملات ميدانية لمتابعة صرف الأسمدة بالجمعيات الزراعية في الشرقية    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    «وزير التنعليم»: بناء نحو 150 ألف فصل خلال السنوات ال10 الماضية    رئيس هيئة الرقابة المالية يبحث مع الأكاديمية الوطنية للتدريب تطوير كفاءات القطاع غير المصرفي    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يحيى حقى
فى ذكرى صاحب القنديل
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 12 - 2017

ليست صدفة أن تتذكر «الاهرام» ذكرى رحيل يحيى حقى « 1905 - 1992» ، أو أن تحتفى به، فهل يمكن لمن هو مثل صاحب القنديل أن ينسى؟.
وهل يمكن لمصر أن تنسى مهما تقلبت الأيام وتبدلت العصور، صاحب «قنديل أم هاشم»، و«البوسطجى»، و«ناس فى الظل»، فولتير العرب وأحد أكبر الآباء الشرعيين للأدب العربى الحديث، ذلك العملاق الذى تحل ذكراه غدا السبت، بعد ربع قرن كامل من الرحيل.
لن تنسى مصر يحى حقى، وسيتذكره المصريون دوما، كلما شاهدوا الدكتور اسماعيل فى «قنديل أم هاشم»، و«عباس» فى البوسطجى، اذ لم يكن الاديب الكبير الراحل يحى حقى، روائيا واديبا بالمعنى الكلاسيكى الذى قد يتبادر الى الذهن، وانما قامة فكرية وثقافية وأدبية بارزة فى تاريخ مصر الحديث، فمن خلال مؤلفاته التى تنوعت ما بين الرواية والقصة القصيرة، تربت أجيال، وتحولت مجلة «المجلة» التى ترأس تحريرها لنحو ثمان سنوات خلال الفترة من مايو 1962 وحتى ديسمبر من العام 1970، الى مدرسة لكثير من ادباء ومثقفى فترة الستينيات فى مصر، بعدما تحولت المجلة الى منبر للمعرفة والعقل، ومركزا لاكتشاف المواهب فى شتى مجالات الفكر والابداع.
فى التاسع من ديسمبر عام 1992 غادرنا العملاق يحى حقى، عن سبع وثمانين عاما، لكنه ترك للذاكرة العربية سلسلة متكاملة من روائع الفكر والأدب، كانت وحدها هى المصوغ الرئيسى ليحظى فى حياته بالتقدير والتكريم الذى يستحقه، بدء من جائزة الدولة التقديرية فى الاداب عام 1969، وليست بوسام «فارس» من الطبقة الاولى الذى اهدته له فرنسا، عشقه الذى ظل يلازمه حتى ايامه الاخيرة.
هذه الصفحات اهداء من «الاهرام» لروح الاديب الكبير الراحل فى ذكراه الخامسة بعد العشرين.
المحرر
فلة .. مشمش .. لولو
هدية.. لقارئ الأهرام وعشاق يحيى حقى من أول ما ابدع ، وهى قصة كتبها بعيون فنان يحمل كاميرا فوتوغرافية فى التصوير الدقيق للأشياء البعيدة والجديدة والغريبة فى أعماق النفس الانسانية، نشرت عام 1926 بمجلة الفجر
وأعادت نشرها دار نهضة مصر ورسمها بريشته الفنان الكبير الراحل مصطفى حسين
(1)
المنزل نمرة (9) فى شارع.. مكون من ثلاثة أدوار تقيم فى الدور الأول (الست سرنديل هانم). وهى امرأة تركية عجوز، قصيرة القامة، قوية الصوت، تحصل على رزقها من مرتب بسيط، تستولى عليه أول كل شهر من وزارة الأوقاف.
ويوم أول الشهر هو اليوم الوحيد الذى تخرج فيه سرنديل هانم بصفة رسمية! فهى تستعد له منذ الصباح، فتجهز مظلتها ونظارتها، وتنظف حذاءها، ثم تنتظر حتى تدق التاسعة ساعتها الصغيرة الموضوعة فى غرفة الاستقبال، وعندها بالضبط تخرج من دارها وتسير على مهل حتى وزارة الأوقاف. فإذا عادت مرت على البقال وبائع اللحم والخضر، فتعطى كلا منهم استجرارها طول الشهر، ثم ترجع لمنزلها تنتظر بائع الخبز وهو لا يأتى إلا فى صباح اليوم التالى والدلالة، أما هذه فلا تتأخر عن ظهر يوم أول الشهر دقيقة، حتى تقبض دينها وتملأ بطنها من خوان الست سرنديل هانم!
فإذا سددت سرنديل هانم جميع ما عليها من الديون تنهدت تنهيدة طويلة كأنها تزيح عن صدرها حملا ثقيلا، ثم تقبل يدها ظهرا لبطن، وتقول فى لهجة تركية: (الحمدلله. الحمدلله).
وسرنديل هانم مشهورة عند معارفها من مستحقى الوقف وبين جيرانها بشغفها بالنظافة فى ملبسها ومسكنها ومأكلها شغفا زائدا. وقد بلغ تطرفها فى ذلك أنها غسلت اللحم بالصابون قبل طبخه، فانتشر هذا الخبر حتى أصبح لا يأتى ذكر سرنديل هانم فى حديث ما دون أن تردفه صاحبته برواية هذه المعجزة.
ولم لا تكون سرنديل هانم نظيفة فى كل شيء، وهى تعيش منفردة وحيدة لا أطفال لها يحتاجون للخدمة والتربية، ولا عائلة كبيرة تضايقها؟ ثم هى تحمل فوق ذلك فكرة سيئة عن الخدم!
وتعتقد أنها إذا رضيت واستأجرت خادمة (فلاحة!)، فإنها ستحمل معها من صنوف القذارة ما تضيق به سرنديل هانم ذرعا، وينقلب الحال وتصبح هى التى تسير وراء خادمتها تنظف ما تتركه وراءها، لا أن الخادمة هى التى تسعى وراءها!
ثم هى لا يزورها أحد إلا بين حين وآخر، فتنبه عليهم أن ينظفوا أحذيتهم بالباب جيدا قبل الدخول فهى كما تقول عن نفسها مقطوعة من شجرة. إذ ليس لها أقارب مطلقا، لأنها جارية بيضاء، فمن يعلم أين عائلتها؟ أين أبوها وأمها الآن؟
لذلك فهى تجد من وقتها متسعا للقيام بجميع خدمات المنزل بعناية كبيرة وتحرص على نظافته، كأنها تعتبر النظافة أمرا مقدسا، أو شرطا أساسيا للحياة.
لم تكن سرنديل هانم رغم طيبتها محبوبة من جيرانها، لأن خلقها التركى الحاد جعلها تصطدم مع جيرانها لأوهى الأسباب، فهى لا تستطيع أن تكتم تأففها إذا زارت إحدى جاراتها ورأت الأثاث مبعثرا متسخا قذرا. أو شاهدت ولدا يتناول القلة ويشرب دون أن يستعين بالكوب.
ولا تحاذر عند ذلك أن تشيح بوجهها وتتمتم بصوت مسموع: (فلاحين، بيس مونده).
وهل يقبل الأعور أن تقول له يا أعور؟ لا يقبل ذلك ولو أنه يعلم أنك وجميع الناس ترى عينه المقفلة! لذلك كره سرنديل هانم جيرانها، لأنها تعالت عليهم، وجعلت من نفسها جنسا أرقى من جنسهم، وأخذت تعتبر أنها دليل ناطق حى لعدم صلاحية المصريين للحياة! والمصريون عفا الله عنهم لا يحبون من أحد أن يذكرهم بخطئهم، لذلك انقطعت الصلة بينها وبين جيرانها، فأصبحت لا يزورها أحد ولا تزور هى بدورها أحدا. وبرهنت بذلك على أن التركية والمصرية لا تأتلفان!
إذا اتى الليل تعشت سرنديل هانم بطعام خفيف كالجبنة الرومى أو الحلاوة الطحينية، ثم تتلهى بعمل صغير حتى تأوى إلى فراشها وتبتدئ فى قراءة سور القرآن بصوت خافت غير مسموع. تنتهى من الآية بضعف وذل وانكسار لتعاود قراءة أول الآية الثانية بقوة ونشاط، ثم تنتهى بقراءة آية الكرسى وسورة الإخلاص ثلاث مرات، وهى تقرأ القرآن ليبعث لها نوما هادئا خاليا من الأحلام المزعجة، فهى امرأة عجوز، تعيش منفردة وتحس أنها انفصلت عن العالم كله، وأنه يناصبها العداء.
لا تجول فى صدرها عاطفة واحدة من العواطف التى يحس بها بقية الناس. ليس لها زوج تحبه، ولا ولد، ولا أهل. ولا تنتظر إذا مرضت أن يسأل عليها أحد، أو يعودها مشفق لا مصلحة له. فكم تمرض سرنديل هانم وتشفى دون أن يعلم بذلك أحد!
أما بقية الناس فلا يمرض حتى يجد من يخدمه، ومن يعطيه الدواء، ومن يسأل عنه، ثم إذا شفى أخذ يقص على من ينصت له قصة مرضه، فيتوجع له ويتمنى له الصحة، حتى هذا التوجع لا تعرفه سرنديل هانم. وكم كانت تشتاق لشخص تبثه شكواها لا لشىء سوى ليتوجع لها!
هذا الشعور بالوحدة والانفراد يبعث فى سرنديل هانم الخوف.. ولا تزيل هذا الخوف سور القرآن،م بل هى تستيقظ بالليل، وتبدو لها أشباح مزعجة فتعاود قراءة القرآن وتستعيذ بالله من الشيطان.
وقد رأينا أنها لا تحب الخدم ولم توفق فى العثور على فتاة صغيرة تتبناها، ولكنها أخيرا اعتزمت على حل، وهو أنها حصلت على قطة أليفة سمتها (فلة) فشاركتها فى محبسها، فلا تفارق الدار، وتنام معها فى غرفة واحدة فإذا أنصتت سرنديل هانم لموائها أو لنفسها وهو يتردد ونظرت بطنها يعلو ويهبط اطمأنت، لأن (نفسا) آخر يتردد معها فى المنزل، ولأنها أحست أنها تعيش بجانب مخلوق حى. إن معها غيرها. إنها لا تعيش منفردة وحيدة!
»وفلة» هذه بيضاء اللون من الصنف الرومى ذات ذيل قصير، وشعر طويل، ورأس مستدير، وعينين مستديرتين لونهما أزرق كلون السماء الصافية، ترى فى عينيها كل الهدوء الذى لا يعكره أى تفكير، إنما هى نظرة فاحصة غير فاهمة شيئا.
تتوسد «فلة» المقاعد وتنام معظم النهار وتسهر الليل. وأصبحت عند سرنديل هانم (كأولاد الذوات) من حيث التنعم والنظافة وظهور نتائج التربية الصحيحة، فهى لا تعرف باب البيت ولا تتخطاه مطلقا، لأنها ليست كقطط الحوارى التى لا مأوى لها ولا مسكن وقلما تدخل فى عراك مع قطة أخرى.
لذلك فهى قطة هادئة أليفة لا تعرف من العالم سوى سيدتها. فنراها إذا جلست سرنديل هانم تأتى إليها وتضع رجليها الأماميتين على ركبتها وتمد بفمها إلى فم سرنديل هانم ثم تمسح رأسها على ذقنها مرة وأخرى هل تبحث عن قبلة؟ وهل تعرف القطط القبل أيضا؟ فتمر سرنديل هانم بيدها على ظهرها مرة أخرى، وتكلمها برفق، فتموء القطة، وتعتمد على ركبتها، وتظل تلعب بذيلها جذلة فرحة.
فهمتها وفهمتها، فلا تسكن إحداهما إلا إلى الأخرى، ولا تطيق سرنديل هانم رؤية قطة أخرى، ولا يفلح زائر من زائرى سرنديل هانم أن يجعل «فلة» تجلس على ركبتيه، إذ تفر منه هاربة فى حياء واضطراب، وهكذا تنتج التربية التركية مظهرا واحدا سواء فى الإنسان أو فى القطط.
لم أر فى حياتى منظر حياة الانفراد والوحدة والانقطاع تتمثل فى أتم مظاهرها إلا عندما زرت سرنديل هانم فى ليلة من ليالى الشتاء، حيث ضمنى جو هادئ تشعر فيه بالركود والانحباس، إذ وجدتها تتلهى بحياكة ثوب لها وقد وضعت نظارتها على طرف أنفها، وبجانبها مصباح ضئيل، وعلى قرب منها استقرت فلة، وهى مغمضة العينين وتهز ذيلها، فتلعب اولادها حواليها وتموء فى هدوء هذا المواء الذى لا نفهم معناه، وإن أدركنا أنه مظهر للطمأنينة، ولو أن سرنديل هانم تعتقد أنها تقرأ القرآن وتسبح الله.
تستيقظ سرنديل هانم مبكرة فى الصباح فتملأ للقطط الجرة بالماء، وتدخل مطبخها فترمى بالتراب القديم المكدس فوق (صينية) صغيرة إلى صندوق الزبالة، وتضع ترابا نظيفا بدله، كل هذا و (فلة) تتبعها بمواء فيه حنان وفيه استعطاف واستجداء، وتتمسح بأرجلها، ثم تتبعها فى مشيتها وترفع بنظرها إلى وجهها، فتكلمها سرنديل كأنها تكلم امرأة عاقلة تماما، وتشعر أنها تفهمها، وأنها بدورها تفهم ماذا تعنى، فتقول بلهجة تركية: «انتظرى على، صبرك، اصبرى، اصبرى، مالك كدة؟ حاضر، يا فلة، يا فلتى، تعالى يا فلة» وتنتقل من غرفة إلى غرفة إلى أن تضع أمامها قليلا من الفول المدمس، وقد عجنت فيه شيئا من الخبز.
(2)
يقيم فى الدور الثانى أبو السعودى أفندى مع عائلته المكونة من زوجة وبنتين وولد صغير، وأبو السعود أفندى موظف بمحافظة القاهرة، لذلك تسمع سرنديل هانم صوت أقدامه البطيئة على السلم كل يوم نحو الساعة السابعة والنصف، فتنظر إلى ساعتها وتقول سرا: «أبو السعود أفندى ذاهب للديوان».
يترك أبو السعود أفندى عائلته بعد أن يعطى ابنه عزيز «قرش تعريفة» مصروف يده، ويعطى لزوجته مصروف اليوم، فتقوم بينهما مناقشة غير صغيرة فى ذلك الموضوع الأبدى الذى لا تنتهى المناقشة فيه، وهو: ماذا نطبخ اليوم؟ وتتردد فيه كلمات الملوخية والقرع والبصارة، وأخيرا يثور أبو السعود أفندى، لأن الصنف الذى لا يطيقه (وهو الكرات أبو شوشة) دائما تنصح به زوجته، فإذا أشار بطبخ الملوخية اشمأزت هى بدورها، بينما يطالب الابن بالكفتة، فيرمى لهم بالنقود قائلا: «اطبخوا اللى تطبخوه!» ويسير متمهلا إلى ديوانه، وهو يجاهد لينسى كل هذه المضايقات، فلا يفلح إلا إذا ناوله الساعى فنجان قهوة الصباح.
ولا يهمنا نحن مباشرة من أمر هذه العائلة سوى الابن الصغير عزيز، فهو ولد مثال فساد التربية من كل وجوهها، من حيث النظافة والصحة والتأدب، وهو مدلل من الجميع لأنه الولد الوحيد بين بنتين، لذلك لا يستطيع أحد أن يزجره إذا عاد من الحارة متسخ الثياب، مبللها، وهل يستطيع أبوه أن يرفض إعطاءه مصروف يده ما دام أنه يلاقى عند أمه من (الدلع) الشيء الكثير؟ فهو يجلس على ركبتيها فتحركه، وقد مال برأسه إلى كتفها وتقول له: «يا جماله، يا جماله، عقبال ما شوفك عريس يا قادر!».
أما عزيز هذا فكان آخر شخص تسمح له سرنديل هانم بالدخول إلى طابقها ذلك أنه دخل عندها مرة، فحاول أن يرى كل شيء، وتشبث فى الأوانى الصدفية التى تضعها سرنديل هانم فوق (البورية) وجرى وراء القطط، وأمسكهن من بطنهن حتى خرجت سرنديل هانم مستغيثة بأمه، وقفلت وراءه الباب بشدة، ورفعت عينيها إلى السماء ويديها إلى حذاء كتفيها تهزهما فى عصبية!.
ولعزيز قط اسمه (مشمش) وهو قط مدلل لا يستطيع أحد إيذاءه، إذا خطف قطعة لحم من المطبخ أو تسلل خفية إلى قفص البيض، فكسر عددا منه، إذ يقف بجانبه عزيز يحميه، فإذا تجاسر أحد على ضربه تعالى صريخا، واجتمع أفراد عائلته حوله يسألونه: «ما الذى اصابك؟» فإذا أجابهم: «مشمش... مشمش» فهموا غرضه واجتهدوا فى مراضاته بأن يوهموه أنهم يضربون المعتدى ويمسحون على ظهر القط ويقولون له فى النهاية: «معلهش».
ولكن بقدر ما كانت «فلة» نظيفة مدللة، فإن مشمش يمثل متشردى القطط، فهو قط بلدى طويل الجسم والذيل، ذو عينين باهتتين تضربان إلى اللون الأصفر، مملوءتين خبثا ومكرا، لم تجعل العواطف والفهم وقفا على الإنسان، وكيف نميز بين قط ربى فى الشوارع وقاسى أنواع الإيذاء والظلم، وقطة أليفة عاشت طول عمرها بين جدران أربعة! الأول يفهم كيف يتغلب على الثانية، ويمثل الأول الخبيث الماكر، والثانية السيدة الطيبة القلب الوديعة.
تراه ضامر البطن يمشى متمهلا كأنه شاعر بسلطانه وقوته، فإذا دخل غرفة وقف على بابها وتلفت يمنة ويسرة متأملا ثم يعاود سيره، هو قط قذر على خلاف عادة القطط، تتبين ذلك من اسوداد البقع البيضاء التى فيه وسط الشعر الأصفر (ومن هنا جاءت تسميته).
فلا يصبح الصبح حتى يخرج إلى الشارع، ويمر على دكاكين القصابين، ويدخل بيوت الجيران واحدا واحدا، ثم يخرج إلى الشارع وكأنه إنسان يتريض، حتى إذا أقبل ميعاد الظهر اتجه إلى داره ووقف على بابها، ثم يموء بصوت فيه لهجة الأمر والوثوق من الدخول، وتكون (الست) فى هذه الأثناء فى المطبخ، قتسمع صوت القط فتصرخ: «يا بهية.. يا بهية! افتحى الباب للقط مشمش» فتجيب ابنتها الصغري: «يا سلام يانينا.. مابقاش إلا القط نقوم له ونفتح له الباب!».
(3)
جشع صاحب الدار وحده هو الذى أوجد الدور الثالث من السطوح، فهو غرفة صغيرة بداخلها غرفة أصغر منها. ولم يبق من السطوح بعد ذلك إلا مسافة قليلة، يتناوب عليها الجيران فى نشر غسيلهم.
تقيم فى هاتين الغرفتين امرأة رومية مع زوجها الذى يغادر منزله فى الصباح مبكرا، ولا يعود إلا نحو منتصف الليل، ولعله جرسونا فى قهوة ما.
ولصاحبتنا هذه كلب صغير لولو وهو كلب صغير الحجم من صنف خليط بين البلدى والرومى، له ذيل مقطوع وشعر غير طويل. قد علقت صاحبته فى رقبته جرسا صغيرا يرن كلما جرى أو مشى، وتسمع نباحه الضئيل كلما أقبل طارق على باب الشقة.
للقط اللعين مشمش ولع شديد بالتربص للقطة الهادئة المسكينة (فله). فهو يحتاجها لنفسه فى فصل من الفصول، وعند ذلك لا يفكر أحدهما فى الكره العميق الذى يحمله للآخر، لأن الحاجة أقوى من أى عاطفة! وفى الأوقات الأخرى يظهر عليها سلطة، ويشفى من نفسه روح القتال الخامدة التى لا تظهر إلا كل حين وآخر عندما يصادف فى الطريق قطا ضعيفا. وهل يجد أضعف من (فله)؟
لذلك تراه يجثم بجانب الباب حتى إذا فتحته سرنديل هانم فى بعض الشئون انسل فى خفية اللص إلى داخل المسكن، فتثور ثائرة سرنديل هانم وتجرى مهرولة إلى المطبخ باحثة عن يد مكنسة طويله قديمة. ذلك أنها تعلم أن مشمش لا يدخل مسكنها حتى يختفى تحت إحدى الكنبات الثلاث فى غرفة الضيوف، إذ يشعر بأنه ضيف غير مقبول، ثم ترمى بنفسها على الأرض وتمد الخشبة وتصرخ: «بس. بس. اطلع يا ابن الكلب. ملعون!» فترى عينى مشمش وهو رابض بجوار الجدار تلمعان فى الظلام كأنهما شرارة من اللهب وهو يراقبها ويراقب الخشبة، يصيبها شيء من الرجفة، وتستعيذ بالله من الشيطان. ألا يتحدث الجميع بأن الشيطان قد يلبس جسد القط؟
ولكنها إذا أفلحت بعد مجهود كبير فى إخراجه من تحت الكنبة الأولى، سارع إلى الكنبة الثانية، وهكذا تحاوره حتى يتصبب العرق من جبينها، وتعاود مجهودها وتضربه ضربة موجعة، فيجرى هاربا لا يلوى على شيء.
ولقد علمتها سطوات مشمش المتكررة أن أول عمل يحسن بها أن تقوم به هو أن تحبس (فلة) وأولادها فى غرفة النوم، وتقفل عليهم الباب حتى تكون وجها لوجه أمام مشمش ولا تخشى على شيء، وحتى لا يطعنها فى ظهرها أو يقطع عليها خط الرجعة فى أثناء قتالهما.
..................................
ولكن شيئا جديدا كان قد وقع فى مسكن سرنديل هانم، رأت معه وجوب اتخاذ احتياطات شديدة. ذلك أن (فلة) ولدت ثلاث قطط صغار فى (سبت) هيأته لها سيدتها بأصناف الخرق المختلفة. ثم خبأته تحت فراشها.
وكأن مشمش أحس أن هناك غنيمة لذيدة تنتظره، فتربص بجانب الباب لا يتحرك، حتى أفلح أخيرا فى الدخول، وهجم على (السبت) توا واختطف واحدا من القطط الصغار (أما اسمه فلم يكن قد انتهت سرنديل هانم من اختياره بعد!) وجرى به إلى السلم صاعدا.
ولكن إن سكتت (فلة) كل مرة على هجمات مشمش وانزوت خائفة منه، فإنها لن تسكت هذه المرة وهى ترى ابنها يؤكل أمامها. ترى مشمش وقد جذ على بطنه بأسنانه، لا كما تحمله هى برفق من رقبته وتحاذر ألا تضغط أسنانها عليه.
انقلب ضعفها قوة وجرت وراءه وقد تضخم ذيلها ووقف شعرها وبرقت عيناها، وتبعتها سرنديل هانم وفى يدها المكنسة المشهورة، وأخذت تصعد السلم مسرعة وهى تتعثر فى كل خطوة وأخرى، لأنها كانت تلبس القبقاب، ولا تفتأ تصرخ: «الحق. الحق. حوش. يا ابن الكلب. القطط. مسكين آه. آه. يا وردم. يا وردم».
وأهاج هذا المنظر الكلب لولو، وانتهز فرصة أن الباب مفتوح وقذف بنفسه إلى محل الموقعة، وأخذ يقفز قفزات صغيرة ذات اليمين واليسار ولا يجرؤ أن يقفز إلى الأمام ولو مرة واحدة!
وتبعته صاحبته وتعالى صوت الجرس ونباحه، وخرجت عائلة أبى السعود أفندى كلها أيضا على السلم. اختلفت الأصوات وتعالت من كل جانب، من صريخ الرومية لكلبها باللغة اليونانية، فكأنه لا يفهم إلا الرومى، ومن بكاء عزيز، وتلهف سرنديل هانم بالتركية:
لولو لولو.. تعال هنا.
مشمش. سيب. يا ابن الكلب!
يا وردم. يا وردم. يا وردم. الله. بالله!
..................................
وانجلت المعركة عن قتيل صغير، وفر القاتل إلى الشارع، ورجعت الأم الحزينة وقد احتضنتها سيدتها. أما الكلب لولو فلم يكن له فى هذه المعركة سوى النباح والقفز، فانكفأ راجعا بعد نهايتها وهو فخور رافعا ذيله.
ونزلت سرنديل هانم السلم وقد أطلقت لسانها من قيده، وأخذت تتكلم وتشتم بالتركية تارة وبالعربية أخرى، إلى أن أطلت عليها زوجة أبى السعود أفندى وقد اعتمدت على الدرابزين. وقالت: «يا سرنديل هانم حقه مالكيش حق. طب حنعمل إيه للقطط كمان؟».
فأجابتها سرنديل هانم بسرعة وقد شعرت بحنق شديد:
انت يا هانم ما تعرفيش تربى قطة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.