د. أحمد نوار للوهلة الأولي يشعر كل من يتعامل مع الفنان د.أحمد نوار برهبة لا يمكن أن يفلت منها إلا بالاقتراب الشديد من عالمه الداخلي الذي يطغي عليه الشفافية والروحانية، ذلك المزيج هو ذاته ما يمكن من خلاله قراءة أعمال نوار الفنية عبر رحلته الثرية المشحونة بمختلف أنواع الفنون كالجرافيك والرسم والتصوير والنحت وغيرها، فخلاصة تجربته الفنية التي تأكدت بالنسبة لي خلال لقائي معه عقب افتتاح معرضه الأخير »رسوم الصين والحجاز» الذي استضافه جاليري العاصمة بالزمالك تتمثل في أعماله التي تتسم بالقوة والرسوخ والروحانية في الوقت ذاته.. نوار لمن يتتبع مساره الفني هو ذاته الجندي القناص المسكون في حروبه الفعلية والفكرية والفنية دائما بقضايا المجتمع والأمة والفن والتي يكون الدافع فيها هي الروح، فأعمال نوار هي أعمال مليئة بالطاقة.. تلك الروحانية التي اصطحبها معه منذ طفولته في القرية والتي كانت جزءا من سلوكيات النشأة في بيت تربي علي الصلاة وقراءة القرآن والحفاظ علي كل قيمة. وربما لهذا السبب تجد أن مفردة الجبل كثيرا ما تتكرر في أعماله، فربما يصبح الجبل هو المعادل الموضوعي للثبات والرسوخ والشموخ والقوة وانعكاس في ذات الوقت لتجليات العظمة في ملكوت الخالق، ولذا تتحول الجبال في أعماله إلي كائنات نابضة، لعل أهمها تلك الأعمال التي خصصها للقضية الفلسطينية وقدمها في معرض »جبل أبو غنيم» راسما 30 لوحة في 30 يوما لتخرج حاملة كل غضبه تجاه جرافات المحتل الغاشم ثم قدمها أيضا في معرض بمجمع الفنون عام 2000، حيث كان الجبل هو الشعب الفلسطيني وهو روح المقاومة.. وربما يظهر الجبل في معرضه الأخير كرابط رئيسي بين رسوم الصين والحجاز التي قدمها نوار علي اختلاف مرجعيته ودلالته البصرية والفكرية في كل عمل من أعماله. إلا أن الرابط الثاني الذي جمع بين رسوم الصين والحجاز هو أنها جميعها مرسومة بالقلم الفلوماستر .. ليؤكد من خلال هذا العرض علي أهمية فن الرسم الذي طالما احتفي به، وهو ما دفعه لاختيار الرسم موضوعا لصالون القاهرة في دورته الثامنة والخمسين التي استضافها قصر الفنون مؤخرا تحت عنوان »الرسم الغاية والوسيلة» وذلك بصفته رئيسا لجمعية محبي الفنون الجميلة كأحد المناصب المتعددة التي تقلدها في مشواره العملي والتي يصعب الحديث عنها أو التطرق إليها لكثرتها ولتعدد إنجازاته. ونوار الذي يجيد ببراعة استعمال العديد من الخامات يصر دائما علي تقديم الكثير من الأعمال التي تعلي من شأن فن الرسم الذي أحبه حتي قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة، والتي زادت تعلقه به بعد دراسته علي يد عمالقة من أمثال الحسين فوزي حتي أنه أنجز مشروع تخرجه بالقلم الرصاص تحت عنوان »يوم الحساب» بمساحة 30مترا مربعا.. ويستمر فن الرسم واضحا وبقوة في كثير من أعمال نوار أشهرها مجموعة وجوه الفيوم، رغم ما يحمله ذلك الفن من صعوبة ومخاطر بين طياته.. فربما لا يعلم الكثير أن خامات الرسم والأوراق التي يتم استخدامها تحتاج لخبرة شديدة وحنكة في الحفاظ عليها حتي لا يمحوها الزمن عكس الزيت مثلا.. وبالعودة للقوة والشفافية وبالتأمل في استخدام نوار البارع لأداته البسيطة التي اعتمد عليها في معرضه الأخير »القلم الفلوماستر» يمكن التأكد من ثنائية القوة والرهافة .. حيث لا يمكن أن تصدق مدي براعته في التحكم في أداته وصولا لتلك الظلال وتدرجاتها التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الرصاص والفحم والتي اتضحت في أكثر من لوحة مثل مدينة جدة القديمة ولوحتي البراكين التي يقال إنها حدثت في جنوبالمدينة عام 540 هجريا والتي اعتمد فيها علي صور وثائقية للمنطق. فقط عازف ماهر بحجم نوار هو من يكون بإمكانه أن ينتقل من الكتل السوداء الراسخة للدرجات الفاتحة جدا اعتماداً علي أمرين لا غير، مدي امتلاء مخزن الحبر بالقلم الذي يستخدمه، ودرجات ضغطه علي كل قلم وكأنه عقد اتفاقا سريا مع أقلام الفلوماستر علي أن يقدموا معا سيمفونية في غاية العذوبة والرقة في آن واحد الأمر الذي تحدثت عنه الناقدة أمل نصر في مقدمتها النقدية للمعرض قائلة: نوار من الفنانين الذين يحترمون فكرة الصنعة الاحترافية في الفن لأنه بدونها يبقي الفنان مغلول اليد مهما تألقت أفكاره والمدهش في هذا المعرض أنه استخدم أداة بسيطة للغاية وهي الأقلام »الفلوماستر» وبني بها عالماً زاخراً بالمعطيات البصرية حيث كان قادراً أن يترجم بها درجات الضوء والظل بحساسية فائقة معتمداً علي شبكات ظلية ذات ملمس مسامي نابض ينقل برهف تدرجات الضوء والظل علي العناصر المرسومة بعيداً عن درجة الأسود المصمت المباشر الذي تعطيه هذه الخامة عند استخدامها بالصورة التقليدية . وقد قدم استخداماً خاصاً للخامة حين استغل حالة القلم الفلوماستر الذي أوشكت مادته السوداء علي الانتهاء في تقديم درجة ظلية متوسطة يصعب الحصول عليها إلا في هذه الحالة، وقد أدار الفنان أداة الرسم بمهارة فائقة فلا نشعر بتقطع المساحات أو انتهائها المفاجئ . هذا بالإضافة للاستعانة بإمكانية الإعتام التام للخامة في رسم مناطق الظل المظلمة أو شبكة الأشكال والخطوط المتقاطعة، وفي المقابل يتحرك الضوء ليصير مساحات شاسعة تتوازن مع التركيبات البنائية وتنقل خرائط النور في المكان كقيمة تدثرت بها جميع الموجودات وتخللت برفق بين بدايات العناصر المرسومة ونهاياتها لتطمس معالم بعض الهيئات محولة إياها من حالتها المادية لحالة أخري لامادية تخلت فيها عن ارتباطها المادي الأرضي وتحولت لأثير نوراني يناسب عبق المكان المرسوم . وما بين قوة القلم وضعفه وحالة الامتلاء والنفاد وبين المباني الإنسانية وعرضتها للزوال وما بين تكتلات البشر في الحجاز وخلوه تقريبا في كثير من رسوم الصين، ثم ما بين قوة الفنان وبراعته في استنطاق أداته علي محدوديتها ، وما بين قوة الحاضر التي خلقتها زيارات حديثة للصين ولأرض الحجاز، والمشاهد الغائمة القابعة في ذاكرته من رحلات متعددة قديمة للحجاز، كان نوار يعزف ببراعة معتمدا علي التلخيص والاختزال في حالات كثيرة ومع ذلك بدا المشهد مكثفاً وممتلئا للغاية. الحوار عن أحمد نوار ممتد ولكنني سأكتفي بجملة ذكرها أ.د. حسن يوسف طه في كتابه »نوار والحرب لا تنتهي» قائلا: إن نوار يأخذك من عالمك ليدخلك إلي عالمه هو، إنها القدرة علي الاستحواذ والسبب هو أن الفن والإبداع لديه قدرة مغناطيسية للجذب ومن ثم يكاد يستحيا والانفلات وهنا نتذكر أن الفن والجمال الحقيقي هو القادر أن يأسرك ويأخذك من الواقع المادي والحياتي لعالم أكثر متعة وجمالا ورحابة.. وأضيف أن هذا ما يفعله نوار علي الدوام .